برخصة المشاع الإبداعي: Francoise Gaujour - فليكر
ملصقات في أحد شوارع الصين للزعيم ماو تسي تونج والرئيس الحالي تشي جين بينج

ما لم يخبرنا به الرئيس عن مجاعة الصين

منشور الخميس 14 مارس 2024 - آخر تحديث الخميس 14 مارس 2024

يُكثر الرئيس عبد الفتاح السيسي من استدعاء قصص الرعب السياسي؛ الحروب الأهلية، الدول المنهارة، حتى حروب الإبادة التي تستهدف شعوبًا مستضعفةً. ويُوظفها أمثلةً في سياق تحذير المصريين من عواقب الرغبة في التغيير، عبر إثارة الخوف من مصائر الآخرين.

ربما يتضمن سرد هذه القصص المرعبة، وتحذير المصريين من الأسوأ الكامن في عواقب محاولات التغيير، اعترافًا ضمنيًا بأنَّ المصريين يعانون بالفعل من السيئ. وهو ما يظهر في مطالبة السيسي لهم بعدم تقييم أداء الدولة وفقًا للوضع الاقتصادي، وألَّا يكون حلمهم هو "لقمة العيش"، بل يجب أن يكون أكبر من ذلك.

لكن مؤخرًا، أراد الرئيس أن يستعرض قصة نجاح، فلم يجد إلا "المجاعة الصينية الكبرى" ليستدل بها على نجاح شعوب تكاتفت بالجوع لتبني بلدها، ويبدو أن هذا التوظيف سيكون له دور أكبر في حكايات الرعب السياسي القادمة. 

وظّف السيسي المجاعة الصينية في سبتمبر/أيلول الماضي عندما قال "إوعوا تفتكروا لما دولة يموت منها 25 مليون من قلة الأكل.. ما قاموش هدوها.. ما قاموش إيه؟ لا، ما قاموش هدوها.. قاموا يبنوها. ولما قاموا يبنوها بقت عُظمى النهاردا.. بقت إيه؟ عُظمى".

والأسبوع الماضي عاد الرئيس إلى المثال نفسه "فيه دول عاشت سنين، ما أقدرش أذكرها مايصحش، عاشت في مجاعات، كان بيُفقد كل سنة من 3.5 لأربعة مليون، من (سنة) 52 لـ68، 45 مليون.. ما قاموش هدّوا بلادهم اللي ماتوا من الجوع.. تؤ.. بس النهاردا بقم في حتة تانية.. تانية خالص".

ولكن هل أخبرنا الرئيس كلِّ شيءٍ عن المجاعة؟  

القمع يمهد طرق الجوع

يشير السيسي إلى المجاعة الصينية الكبرى التي بلغت ذروتها بين 1958 - 1961، وإن امتدت آثارها المدمرة لما بعد ذلك، ويقدَّر عدد ضحاياها بعشرات الملايين. لكن ما لم يذكره، أنَّ سبب هذه المجاعة لم يكن كارثةً طبيعيةً مثل الجفاف أو الفيضان، بل كارثة سياسية ناتجة عن برنامج الزعيم ماو تسي تونج الذي أسماه "القفزة العظيمة للأمام"، والذي افترضت فيه الدولة الصينية أنها تعرف ما لا يعرفه الناس عن معاشهم وحياتهم، فقررت نقل ملايين الفلاحين جبريًا للعمل في مصانع ومشاريع ضخمة تمتلكها الدولة، مما أثر سلبًا على إنتاجية الأرض الزراعية.

أسهم السكوت عن الحقيقة في استمرار المجاعة أكثر مما ينبغي

كانت سياسات الزعيم ماو تكافئ من يدَّعون الإنجازات، وإن خلافًا للواقع، وتعاقِب كل من يحاول كشف الحقائق. وكانت التقارير تخرج من مكتب الحزب بإنتاج حجم أكبر من الحقيقي المنتَج فعليًا. وحين تحولت المجاعة لأمر واقع، لم يجرؤ أحد على قول الصدق. حتى الأطباء مُنعوا من تحديد الجوع سببًا في شهادات الوفاة.

حُظر الكلام عن المجاعة كما حُظر نقد السياسات التي أدت لها. ودَفع من خالف الحظر ثمن كلامه في إجراءات الثورة الثقافية. سُمِّيت المجاعة حينها بأنها "ثلاث سنوات كارثة طبيعية"، وفقط في عام 1981، بعد وفاة ماو بخمس سنوات، اعترف الحزب الشيوعي الصيني أخيرًا بأنَّ المجاعة حدثت بسبب "القفزة العظيمة للأمام".

ما علينا أن نتعلمه

الدرس الصيني الأهم الذي لم يذكره الرئيس، أنَّ حل الأزمات يلزمه تغيير السياسات التي أدت إليها. فالصين التي خلقتها سياسات ماو، ظلت فقيرة إلى أن مات. ولم تظهر الصين التي نعرفها اليوم إلا بعدما أتت سلطة جديدة وتبنت سياسات سياسية واقتصادية مغايرة جذريًا لما أنتج المجاعة، وهو اتجاه لا توجد أي مؤشرات أن مصر مقبلة عليه.

انطلقت رحلة الصعود الاقتصادي الصيني مع تبني سياسات توسيع السوق وإشراك أكبر عدد من المستفيدين فيها، وإتاحة المجال أمام المشاريع الصغيرة والمتوسطة القائمة على مبادرات الناس الاقتصادية. أما في مصر، فلا تزال الدولة تلعب الدور الأكبر في الاقتصاد، وتتوسع في الإنفاق على مشاريع اقتصادية تديرها مؤسساتها الكبرى أو الكيانات الاقتصادية المقربة منها، لا المبادرات الخاصة للمجتمع والصناعات الصغيرة.

لا مانع من تقديم التضحيات لتحقيق هدفٍ أو عبور أزمة لكن بشرط أن نستخلص الدروس الصحيحة

خلال العقود الماضية، شهد القطاع الخاص في الصين نموًا ملحوظًا حتى باتت الشركات الخاصة تساهم الآن بنحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وتلعب دورًا حاسمًا في دفع النشاط الاقتصادي. ارتفعت معدلات توظيف المشروعات الخاصة في المناطق الحضرية بشكل ملحوظ، حتى مثّلت 87% من العمالة في المناطق الحضرية عام 2018، مقارنة بـ 18% عام 1995.  

كذلك، ترك الجيش الصيني أيَّ دور تنافسي في الاقتصاد المدني، واكتفى بالتركيز على الصناعات العسكرية والتكنولوجيا المدنية ذات الاستخدام المزدوج، التي من شأنها أن تدعم تفوقه العسكري.

كما خلقت الدولة في الصين درجات من الرقابة المتبادلة، ودرجة من الديمقراطية داخل الحزب الشيوعي، وإن بدأت تتقلص في حكم الرئيس الحالي تشي جين بينج. وساعد نظام الديمقراطية الاستشارية على تجميع آراء أوسع من قواعد حزبية وشعبية، وطُبّق ما يعرف بنظام الحكم بالبيانات، حيث تشجع الدولة المواطنين على إبداء آرائهم وتقديم الشكاوى بشأن الأداء الحكومي بشكل منتظم.

ورغم أنَّ النظام الصيني مملوءٌ بالعيوب، ويسمح ببعض التلاعب ونمو شبكات الفساد، فإنه يضمن حدًا أدنى من الحيوية، يجعل المسؤولين ولجان الحزب في حالة من الرقابة وتوزيع القوة، بدلًا من تركزها في مؤسسات وأشخاص غير خاضعين للرقابة، الأمر الذي ينسف محاولات الكشف المبكر للأزمات ومواطن الخلل والفساد.  

غيرت الصين إذًا سياساتها التي أفشلت قفزة ماو العظمى للأمام، وغيرت كذلك سياساتها التي منعت التطرق إلى المجاعة، من أجل النجاة. لا مانع من التعلم من خبرات الآخرين ونجاحاتهم وإخفاقاتهم، ولا مانع أيضًا من تقديم التضحيات لتحقيق هدفٍ أو عبور أزمة، لكنَّ التضحيات مشروطة بأن نستخلص الدروس الصحيحة من تجارب الآخرين، ونتأكد أننا لا ننتهج السياسات التي أنتجت الفشل وسببت المجاعات.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.