صفحة الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح - فيسبوك
وائل الدحدوح مع ابنه الأكبر حمزة الذي قتلته غارة إسرائيلية استهدفته مباشرة في قطاع غزة 7 يناير 2024

لو كان الدحدوح جبلًا..

منشور الثلاثاء 9 يناير 2024

كان بإمكان جيش الاحتلال الإسرائيلي المجرم الذي يسوِّي كلَّ مكان في غزة بالأرض، ويقتل الأبرياء أطفالًا ونساءً بلا هوادة كلّ دقيقة أمام أعين العالم، أن يستهدف الزميل الصحفي وائل الدحدوح مباشرة، مثلما فعل مع 109 صحفيين آخرين منذ بداية عدوانه، لكنّه اختار قتله ببطء.

في البداية، اعتصر المجرمون قلب الدحدوح مدير مكتب قناة الجزيرة في غزة، عندما حصدوا بقنابلهم العمياء فلذات كبده والأقرب إلى روحه؛ زوجته، وابنته آخر العنقود وفرحة قلبه شام، وابنه محمود، وحفيده من ابنه البكر حمزة.

كانت ضربة تكفي وحدها ليعتزل وائل عمله ويتفرغ للتعافي من هذا المصاب الجلل، لكنه استمر.

بعدها بأسابيع، قتل الاحتلال رفيق دربه مصور قناة الجزيرة سامر أبو دقة أثناء قيامهما بتغطية إحدى الهجمات الصهيونية على مدرسة في جنوب القطاع، وكاد وائل نفسه يفقد حياته، وأصيب في يده.

من يعرف العمل التليفزيوني يدرك عمق العلاقة التي تربط المراسل بالمصور الذي يصاحبه، خاصة في مناطق النزاعات والحروب، حيث يترابط مصيراهما بشكل وثيق على الصعيدين الشخصي والمهني، فما بالك وعلاقة وائل وسامر المهنية تمتد لنحو عشرين عامًا قضيا خلالها ساعات تفوق غالبًا ما قضاه كلٌّ منهما مع أسرته؟

لذلك رأينا وائلَ، الصلب الشامخ، يبكي سامرَ كما بكى أبناءه وزوجته، خاصة وأنَّ الله كتب له النجاة عندما بقي مصوره ينزف لساعات حتى لاقى ربه، مع استحالة وصول الإسعاف لمكان الهجوم قبل التنسيق مع جيش الاحتلال المجرم.

ينتقمون منهم "في الولاد"

ثم جاء أول أمس الأحد، ومعه الضربة القاصمة بالاغتيال المتعمد لابنه الأكبر حمزة، الذي اكتسب منه كنيته "أبو حمزة". كان الصحفي الشاب يرتاد سيارة مع زميله مصطفى ثريا بالقرب من مدينة خانيونس، عندما استهدفتهما مُسيَّرة إسرائيلية بصاروخ.

قرر جيش الاحتلال معاقبة قناة الجزيرة على تغطيتها للحرب بقتل أبناء وعائلات مراسليها

في ردها على اتهامات جرائم الحرب والإبادة الجماعية الواردة في شكوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، تزعم دولة الاحتلال أنَّ كلَّ ضربة اغتيال ينفذها جيشها، تتم بعد تلقي معلومات استخبارية تؤكد ضرورة تصفية الهدف، سواء كان داخل سيارة أو مبنى يعيش فيه مدنيون آخرون أو في أعماق نفق. ويزعمون كذلك أنَّ محامين عسكريين يراجعون قانونية كل هجوم قبل تنفيذه.

وأكدت إسرائيل أن استهداف السيارة التي كانت تقل حمزة وائل الدحدوح لم يكن مصادفة أو نتيجة خطأ، بل هو اغتيال متعمد بدعوى أنَّ أحد ركّابها شكَّل خطرًا على جنود الاحتلال.

من خلال كل ما شهدناه من وقائع منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، من الواضح أنَّ جيش الاحتلال قرر معاقبة قناة الجزيرة على تغطيتها الصحفية للحرب، وعلى انحيازها للمقاومة، وعلى توثيقها تفاصيل الجرائم الإسرائيلية في القطاع يوميًا، وبدقة.

لا تفارقني دموع وائل الدحدوح الغزيرة وهو يحتضن ابنته الصغيرة، شام، بعد أن كانت تبث في حياته اليومية الفرحة وهو في منتصف العقد السادس من عمره، أو وهو يحتضن الجثمان الصغير لحفيده آدم، ابن الغالي حمزة، الذي لم يتجاوز عمره الشهر، ثم يطلق كلمته الشهيرة بزفير الألم "بتنتقموا منا في الأولاد. معلش".

ولكنه بعد وداعهم، وكذلك بعد استشهاد الابن الأكبر حمزة الذي قال إنه "ليس بعضي بل كلي"، كرر بكل تصميم "نحن ماضون" في نقل جرائم الاحتلال للعالم الخارجي، لعل وعسى أن تقرر الإدارة الأمريكية منع الدعم عن طفلتها المدللة إسرائيل وتطلب منها وقف هذا الإجرام الدموي اليومي، وليس فقط إدخال المساعدات الإنسانية ومناشدتها الانتقال من مرحلة القصف المكثف إلى القتل المستهدف.

بكل المعايير الإنسانية، لو كان وائل الدحدوح جبلًا لانهار متصدعًا، ولكنه اختار واستطاع الصمود والاستمرار في عمله، رغم كل ما حاق به من كوارث لا يتحمّلها بشر.

ليس وائل فقط

من الواضح أن الاحتلال قرر عدم قتل مراسلي القناة مباشرةً، ليكون عقابهم في قتل عائلاتهم، صغارًا وكبارًا، نساءً وأطفالًا، بدلًا من استهدافهم مباشرة. 

في كل مرة أتابع فيها تقارير مراسل الجزيرة من غزة مؤمن الشرافي، أتذكر دموعه التي تدفقت وهو ينقل للكاميرا نبأ فقدان 22 فردًا من عائلته في قصف استهدف المبنى الذي نزحوا إليه من شمال القطاع، مُعددًا من استشهد، "فقدت أمي. فقدت أبي. فقدت أشقائي وشقيقاتي. فقدت أبناء أشقائي وشقيقاتي. فقدت خالتي وأبناء خالتي. فقدت.. فقدت.. فقدت". فقط أتخيل لو كنت مكانه. كيف يمكن لي أن أنقل إلى العالم وفاة كل أفراد أسرتي في ضربة واحدة؟


محفورة في ذهني كذلك صور مراسل الجزيرة الشاب أنس الشريف وهو يودع والده بعد استهداف منزله في عقاب واضح على تغطيته للمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال في شمال القطاع، الذي أُخلي تقريبًا من سكانه ولم يبقَ فيه سوى نحو 200 ألف شخص.

كان والد أنس بلحيته البيضاء ممددًا على عربة يد يجرها حصان لنقله إلى مكان دفنه، ومعه ابنه يبكي وينتحب قائلًا "سامحني يابا". قال أنس إنه تلقى تهديدات مباشرة عبر هاتفه من ضابط في الجيش الإسرائيلي يطلب منه مغادرة شمال القطاع. وجاء قتل والده عقابًا على رفضه الاستجابة للتحذيرات والاستمرار في تصوير فظائع الاحتلال والجثث المتحللة في الشوارع وقيام الدبابات بتجريف الأراضي أمام أحد المستشفيات ودفن النازحين أحياء.

ثمن الأجندة التحريرية

قناة الجزيرة الثرية، التي تمتلك عشرات المكاتب في كل أرجاء العالم، توقفت تمامًا عن تغطية أيِّ حدث آخر مهما كانت أهميته؛ من الناحية الخبرية، أو من منطلق انحيازات القناة المتعلقة بالتركيز على القضايا المرتبطة بتيار الإسلام السياسي في مختلف بلدان العالم العربي.

انتهت التغطية المكثفة لحرب الجنرالات في السودان، والتقارير اليومية عن ديكتاتورية قيس بن سعيد في تونس، وعن انتهاكات النظام السوري، وانتخابات الرئاسة وأوضاع حقوق الإنسان في مصر. تعرف القناة منذ نشأتها أنَّ القضية الفلسطينية هي الأكثر شعبية في العالم العربي، ولذلك خصصت كلَّ إمكانياتها لتغطية مختلف جوانب الحرب والتظاهرات الداعمة لوقفها حول العالم.

وعلى الرغم من أنَّ حماس تمتلك قناتها التليفزيونية الخاصة، قناة الأقصى، أصبحت الجزيرة عمليًا ناطقًا رسميًا باسم الحركة، وكثيرًا ما تكون أول من يتلقى البيانات المسجلة للناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، وكذلك فيديوهات الأسهم الحمراء والصفراء التي توضح العمليات التي يستهدف فيها رجال المقاومة من حماس والجهاد جنود جيش الاحتلال ومركباته.

ولكن هناك ثمنًا باهظًا لهذا القرار، يدفعه مراسلو القناة على الأرض، باستهداف أبنائهم وأقاربهم وأحبائهم، كما هو حال وائل الدحدوح ومؤمن الشرافي وأنس الشريف.

أما بقية الصحفيين والصحفيات الفلسطينيين، فيخاطرون يوميًا بحياتهم أملًا في أن يساهم ما ينقلونه من تقارير للعالم الخارجي في دفع أصحاب القرار قساة القلوب من العنصريين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى وقف هذا الجنون، وربما في يوم ما محاسبة هذا المحتل المجرم على جرائمه، لو كان هناك ما يسمى بالعدالة أو المساواة بين البشر.


لك الله يا وائل، أبا حمزة، أبا الشهيدات والشهداء.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.