تصوير: محمد نعيم
مظاهرات حاشدة في واشنطن العاصمة لدعم الفلسطينيين 3 نوفمبر 2023

أهُناكَ حَياةٌ قبلَ الموت؟

عن غربٍ يرى انعكاس نفسه في عيون مستعمرينا

منشور الثلاثاء 2 يناير 2024

"أهناك حياة قبل الموت؟"

استحضرتُ تساؤل مريد البرغوثي في قصيدته "لا مشكلة لدي" وأنا أراقب الأعلام الفلسطينية ترفرف في سماء مدينة بيتسبرج الأمريكية في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كانت هذه المظاهرة الأولى التي تشهدها المدينة للتضامن مع فلسطين منذ اندلاع مجازر الاحتلال في غزة ردًا على طوفان الأقصي.

كانت كذلك هي مظاهرتي الأولى منذ اعتقالي في القاهرة أثناء المشاركة في مظاهرة ضد الانقلاب عام 2013. بمجرد بدء المنظمين العرب في بيتسبرج خطاباتهم ملأني الانزعاج. أنصَتُّ إلى الخطاب الاستباقي الذي أمقته عن كوننا العرب المتحضرين، محبي السلام، لسنا المعادين للسامية المتوحشين. خطاب يستهدف درء هجوم وتشويه متوقعين، لم يقعا بعد لكنهما سيحدثان رغم ما قيل على أي حال.

اخترقَت صرخة حادة سكونَ الحشد، فالتفتُّ لأرى رجلًا أمريكيًا أبيض ضخمًا يدفع المتظاهرين من ظهورهم ويلكم من يعترض طريقه. وصل الرجل لمنتصف الدائرة ثم وقف رافعًا إصبعه الوسطى في وجوهنا، مرسلًا وابلًا من الشتائم. سرعان ما أحاط به بعض المتظاهرين، موجهين إياه نحو الشرطة الموجودة في المحيط.

لم يكن قط أوضح من اليوم أن الثمن البخس لحياتنا ليس خللًا في النظام العالمي بل هو جزء لا يتجزأ منه

لم يعلق بذاكرتي من هذا المشهد الكراهية أو العنف اللذان حملتهما عيناه. لم أكترث لذلك كثيرًا. ما جعل الدم يغلي في عروقي هو يقينُه الراسخ بأنه لن يُصنف "إرهابيًا" أو "همجيًا" بعد هجومه على الناس المرتعبين من تلك التهم حتى وهم يُبادون.

في الأسابيع التالية، ظلت عيناي، كما الملايين حول العالم، ملتصقتين بشاشات الأخبار. يرتج قطاع غزة يوميًا تحت قصف عنيف وحصار محكم يُنفِذُه جيش الاحتلال والنظام المصري. في أكتوبر، قطع الاحتلال عن غزة المياه والكهرباء والوقود. بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، تجاوزت أعداد القتلى العشرين ألف فلسطيني، في رقم غير مسبوق عبر خمسة وسبعين عامًا من الاحتلال.

أترك هاتفي وأنتقل إلى اللابتوب، عَلَّ الشاشةَ الأكبر تحمل احتمالاتٍ أوسع. أُقَلّبُ بحثًا عن خبر يبعث الأمل، وأجدني أعود إلى كلمات مريد:

أتلمَّس أحوالي منذ وُلدتُ إلى اليوم

وفي يأسي أتذكر

أن هناك حياةً بعد الموتِ

هناك حياة بعد الموت

ولا مشكلة لدي

لكني أسألُ: يا الله.. أهناك حياة قبل الموت؟

خلال الشهرين الماضيين، شاهدنا حملة إبادة جماعية مروعة للفلسطينيين على يد جيش الاحتلال. رأينا تغطية مُشَيطِنةً للفلسطينيين في الإعلام الغربي وشهدنا رعاية أمريكية غير مشروطة للمذبحة، بينما يقف العالم متفرجًا، إن لم يكن مصفقًا.

نطرح كعربٍ تساؤلاتٍ جوهريةً عن مكاننا في هذا العالم. ندرك بشكل لم يكن قط أوضح من اليوم أن الثمن البخس لحياتنا ليس خللًا في النظام العالمي، بل هو جزء لا يتجزأ مما صُمّمَ لتحقيقه.

في كتابه كل رجال الباشا، يسرد المؤرخ المصري خالد فهمي قصة أول نسخة مما أصبح اليوم جواز السفر المصري "التذكرة". في أوائل القرن التاسع عشر، تحت حكم محمد علي باشا، فرضت السلطات على الفلاحين حمل بطاقة هوية تسمى التذكرة لردعهم عن ترك قراهم وتنظيم تحركاتهم، كانت تحمل اسم الشخص ووصفه الجسدي، واسم والده وقريته. بدونها، يواجه الفلاح خطر الترحيل إلى قريته.

اليوم، يطلق مسمى التذكرة أيضًا على وثيقة يحملها كل سجين. خبرت هذا حين قضيت ست سنوات وثلاثة أشهر أتنقل بين سبعة سجون ومراكز اعتقال كسجين سياسي، ممسكًا بتلك البطاقة الصفراء الباهتة التي حَوَت بياناتي الشخصية ورقم زنزانتي وحكمي وسجلات العقوبات، من الحبس الانفرادي إلى حظر الزيارات. تذكرتي كانت تجسد مفهوم: امتلاك الدولة لجسدي.

لا تزال معظم جوازات سفرنا العربية اليوم تلعب الدور نفسه في بلداننا وخارجها. في مصر، ليس لجسدي ثمن. في حين أن ثمن هتك الجسد الغربي في بلادنا باهظ جدًا. كلما امتد بطش السلطة، على سبيل المثال، ليمس جسدًا غربيًا، توالت عليها الإدانات الدولية. حدث ذلك في مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني بوحشية على يد قوات الأمن عام 2016، وهي جريمة لا يزال شبحها يزعج النظام. وقتها قالت والدة ريجيني "قتلوه كما لو كان مصريًا".

تُهَشَّمُ أجسادنا بلا ثمن.. ولذلك تُهَشَّمُ دومًا

حين تركت مصر عام 2020 بعد إطلاق سراحي من السجن، كنت أبحث عن بداية جديدة كإنسان تحمل معاناته وزنًا. لم أكن واهمًا بخصوص الحلم الأمريكي؛ كثيرًا ما صادفت النظرة المحتَقِرة المعتادة من الغرب، التي تُرجع هجرتنا لبلادهم لاستعلائهم القِيَمِي، لا لفرار من تاريخ طويل من الفوضى التي خلفتها حروب أشعلوها، والديكتاتوريات العسكرية التي أرسوا قواعدها واستمروا في دعمها لمصالحهم في المنطقة، ناهيك عن الدمار البيئي الذي تسببوا فيه ونستمر في دفع ثمنه لليوم.

غيرَ أن الشهرين الماضيين فاقا أحلك كوابيسي. يمنحني اسمي العربي سلسلة من المعرِّفات، تبدأ بـ"آخرَ مختلف" وتنتهي بـحيوان بشري.

خلال عراكي الفكري مع موقعي في العالم، يصف أصدقائي الأمريكيون انزعاجي بأنه "اضطراب ما بعد الصدمة"، ناجمٌ عن أهوال السجن. لم أدرك من قبل لِمَ يزعجني دومًا هذا المصطلح، حتى قرأت كلمات سماح جبر، رئيسة خدمات الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية.

في مقابلة لها عام 2019، أوضحَت أن مفهوم "اضطراب ما بعد الصدمة"، المنبثق من الفكر الغربي، يفترض وجود زمن قبل الصدمة وآخر بعدها. لكن بالنسبة للفلسطينيين وكثير من العرب، تمتد الصدمة عبر الزمن والأجيال: واقع متصل لا ينقطع.

لا "قبل" أو "بعد" لنا: الصدمة هي وجودنا. عندما تتقابل أعين اثنين عربيين في المنفى، يلمع سوادهما بشيء مألوف ومتبادل. تتجاوز تذكرتنا حدود الزمن وأسوار السجون والجغرافيا. نحمل غربتنا في ثنايا الوجه ونخاع العظام.

لم يهتم هذا العالم يومًا بالإفساح لنا لنشاركه الطاولة كمساوين

اليوم، أحمل خواءً في قلبي بعد سلسلة من الأحداث المأساوية في منفاي: طعن الطفل الفلسطيني وديع الفيومي ذي الست سنوات ستًا وعشرين مرة حتى الموت في ولاية إلينوي؛ إطلاق النار على الطلاب الجامعيين الفلسطينيين هشام عورتاني وكنان عبد الحميد وتحسين علي أحمد في ولاية فيرمونت؛ حادث الدهس المتعمد الذي تعرض له الطالب السوري عبد الوهاب عميرة في جامعة ستانفورد، وغيرهم الكثير.

أستطيع تقبل فكرة الموت. نعرف الموت جيدًا. نشأنا زمانًا في حضرته، ذقنا طعمه وحزنه الذي، كما يصفه مريد البرغوثي، شاركناه مقعده ومخدته ومنديله وملمس حذائه على زجاج ساعاتنا. موتٌ علمنا شَهِيَّتَهُ لأجسادنا عن دونها.

لم يهتم هذا العالم يومًا بالإفساح لنا لنشاركه الطاولة كمساوين. حتى في أكثر الدوائر تقدمية، نظل نحن العرب مصدر إزعاج يُتسَامح معه فقط حالَ بقائنا عربًا نموذجيين: محنيي الرؤوس، شاكري الأنعم، سهلي البلع والهضم، نقدم الإدانات المطلوبة قبل أن نطالب بإنسانيتنا. داعمونا قلةٌ، وحلفاؤنا أقل. نرى هذا الآن.

بين أوطان سحقتنا ومنافٍ تتعطش لسحقنا، يبدو أحيانًا أننا لن نعرفَ حياةً قبل الموت. إن كان هذا شعوري، أحاول تخيل ما يعيشه الفلسطينيون في غزة، وأفشل. في لحظة، هناك جسدٌ يتنفسُ، وسقفٌ. في اللحظة التالية: رَدْمٌ ممزوجٌ بما يشابه أطراف البشر.

اليوم نتخلى كعرب عن الشعور بالتبعية الذي أُشرِبناهُ سنينَ فأثقلَنَا

أتذكر حكمة عربية تقول إن الناس من انتظار الذل في ذل، ومن انتظار الفقر في فقر. أفكر، الناس أيضًا من انتظار الموت في موت. تحت ظلال هذا الموت الذي يلوح في الأفق، مهددًا كل لحظة بالحلول، أجد نفسي أعيش في كنفه. أتأمل بحيرة، كما فعل مريد يومًا: هل سنذوق أبدًا حياةً قبله؟

لا أملك الجواب، لكن ما أعرفه هو أن الصورة البراقة للتفوق الأخلاقي الغربي قد انهارت. اليوم نتخلى كعرب عن الشعور بالتبعية الذي أُشرِبناهُ سنينَ فأثقلَنَا. نحاوط سويًّا أسانا المشترك، محاولين نحت مسارنا من جديد داخل اللغة والتاريخ: لغتنا وتاريخنا.

في هذه الحياة التي ليست كالحياة، لا نتسول إنسانيتنا من العالم بعد اليوم. نسعى أن نتخطى مخاطبة قامعينا، أن نستبدلهم بأن نرى بعضنا بعضًا، وأن نجد في التقاء الأعين ملاذنا الكافي.


*تم نشر نسخة إنجليزية من هذا المقال بجريدة الواشنطن بوست بتاريخ 28 ديسمبر 2023. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.