صورة مصممة اصطناعيًا بواسطة بينج
يعتبر "التحديق الاستعماري" من الممارسات الخالقة للآخر

ما دونه حيوانات بشرية.. العالم في عين المواطن الأبيض

منشور الاثنين 6 نوفمبر 2023

في خضم الحرب التي أعلنتها إسرائيل على قطاع غزة لا يمكننا الهرب من التصريحات شديدة الوضوح التي تخلق "الأنا" و"الآخر". بعد تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي أنهم يحاربون "حيوانات بشرية" لا يمكننا سوى الوقوف على أنقاض الحرب لنتأمل وجودنا في مقابل وجودهم.

عملية خلق الآخر لا تشمل فقط التعبيرات العديدة عن التحيز على أساس الهوية، ولكنها توفر إطارًا توضيحيًا كاشفًا عن مجموعة من العمليات التي تنشر عدم المساواة، تبرر المجازر، وتشرعن الإبادة على أساس المجموع. 

يعتبر "التحديق الاستعماري" من الممارسات الخالقة للآخر، لأنه يعتبر إطارًا معرفيًا يحدد المواقف المختلفة للناظر والمنظور إليه. لذا، يُستخدم بشكل شائع لتصوير المستَعمَرين أنهم دون البشر، وضعاف إدراكيًا.

لا يعد ذلك خبرًا جديدًا، فجميع المستعمرين والمشرعنين للإبادة الجماعية المرتكزة على العرق أو الدين أو الطبقة يرون "الآخر" أدنى منهم.

لذا ظن قوم الهوتو أن قوم التوتسي "صراصير" في رواندا، بينما يظن وزير الدفاع الإسرائيلي أنه يحارب "حيوانات بشرية"، ويظن بشار الأسد أن معارضيه ما هم إلا "جراثيم". هذا في حين أكدت الصحف ووسائل الإعلام الغربية مرارًا أثناء حرب أوكرانيا أن اللاجئين "أوروبيون، زرق العيون، شُقر الشعر"، وهو ما جعل الأمر أكثر مأساوية للمتلقي مقارنة باللاجئين الفارين من دول الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا. 

حتى نعيد التفكير في التفكير 

لم يؤسس المواطن الأبيض للفوقية في خطابه السياسي فحسب، بل في كافة عمليات إنتاج المعرفة. تعتبر العنصرية الإبستمولوجية هي المنطق التأسيسي للعالم الاستعماري الحديث وأشكاله المشروعة لإنتاج المعرفة، بحيث يصير المواطن الأبيض هو "المواطن"، ويصير خطابه، بكل ما ينطويه من عنصرية، هو "الحقيقة"، ويصير رأيه هو "العقلاني"، ورماديته هي "الحياد".

تعتبر العنصرية الإبستمولوجية المواطن الأبيض المعيار الأوحد والدليل لكيف ينبغي أن تجري الأمور، وبالتالي حين لا تجري على النحو الذي يحقق له أكبر منفعة، تصير محلًا للإدانة. 

وحتى في أكثر الأطروحات يسارية، كان فريدريك إنجلز يقترح أن "فتح" فرنسا للجزائر حقيقة مهمة ومؤسسة للتقدم الحضاري، وبالتالي ستجبر فرنسا تونس وطرابلس وحتى إمبراطور المغرب أن يسيروا جميعًا في ركب الحضارة، وإيجاد عمل آخر لشعوبهم غير القرصنة.

كان خيار إنجلز وماركس أيضًا واضحًا تمامًا في دعم التوسع الاستعماري وفرض الحضارة الغربية، حتى لو كانت برجوازية ووحشية، من أجل التغلب على الوضع "البربري"، بحيث يكون التفوق الغربي حقيقة لا تقبل الدحض. 

وبالتالي تتمثل مهمة تحرير عملية إنتاج المعرفة من الاستعمار في تقديم تفسيرات غير خاضعة للمركزية الأوروبية، وللظروف العالمية المتأثرة بديناميكيات القوة التي تجعل أوروبا والولايات المتحدة مركز الإنتاج التاريخي والمعاصر وإعادة إنتاج الظروف الاجتماعية.

دعوة التحرير تلك ليست دعوة لعلم اجتماعي إيجابي ومحايد وخالي من القيمة والموضوعية. فعملية إنتاج المعرفة "الإيجابية" هي بالضرورة إنتاج للمعرفة التي تستطيع انتقاد الأيديولوجيات السائدة التي تفرض رؤية استشراقية وسردية تدعم فوقية المواطن الأبيض، وبحكم هذا التعريف، تخدم مصالح الأقوياء. 

ما مدى "دولية" القانون الدولي؟

المعيارية البيضاء والاستعمارية في عمليات إنتاج المعرفة تحكم بالضرورة مجال العلاقات الدولية، وبالتالي القانون الدولي كذلك. في معالجة هذه المشكلة، يواجه المرء على الفور أسئلة أساسية حول السلطة، والحقيقة، وإنتاج المعرفة، وما يعنيه النقد، ودور الأفكار في إعادة إنتاج العلاقات غير المتكافئة للسلطة السياسية والاجتماعية.

نجد مظهرًا صارخًا لإعادة إنتاج اللامساواة العالمية في مجال العلاقات الدولية عندما ننظر إلى من ينتج غالبية الأعمال المنشورة في العلاقات الدولية، ومن لديه السلطة لوضع القانون الدولي ومن لديه السلطة أن يتعداه كذلك. 

تزامنت إعادة اختراع القانون الدولي في أواخر القرن التاسع عشر مع ظهور "التفكير العرقي" البيولوجي عمومًا

في نقده للعنف، أشار والتر بنجامين لوجود نوعين من العنف: عنف سن القوانين، وعنف الحفاظ على هذه القوانين المسنونة. يَخلق النوع الأول من العنف ما يعرف أنه "طبيعي" من خلال وسائل قمعية، بينما يحافظ النوع الثاني من العنف على "طبيعية الطبيعي" من خلال وسائل انضباطية. 

العنف القمعي الذي تمارسه الدول الأوروبية هو في حد ذاته منتج لوضع يمكن فيه التعبير عن أنماط السلطة الإنتاجية والانضباطية التي تحدد ما يعرف بالطبيعي وتدين ما يحيد عنه.

وتزامنت إعادة اختراع القانون الدولي في أواخر القرن التاسع عشر مع ظهور "التفكير العرقي" البيولوجي عمومًا، وبشكل خاص، "الخطاب البيولوجي الصريح حول العلاقات الدولية". يمكن هنا ملاحظة تطور القانون الدولي في أعقاب الحرب الفرنسية البروسية في 1871، حيث أُنشيء معهد القانون الدولي وهو أشبه بأخوية عابرة للحدود بين رجال القانون في الدول الأوربية الذين يسعون للإصلاح الحضاري سنة 1873.

يسعى هذا التجمع المؤلف من حوالي أحد عشر رجلًا إلى وضع قوانين دولية أكثر رحمة للتقليل من دموية الحروب. أعلن جون ويستليك، الذي ربما كان الأكثر تأثيرًا بين رجال عام 1873، والذي أصبح فيما بعد الرئيس الفخري لمعهدهم، في عام 1904 أن المجتمع الدولي هو الذي يطور القانون الدولي، وأنه يتكون من جميع دول الدم الأوروبي، أي من جميع الدول الأوروبية والأمريكية، ما عدا تركيا واليابان.

في كتابه "متحضر الأمم اللطيف" يخبرنا مارتي كوسكينيمي أنه رغم الاختلافات السياسية بين رجال 1873، إلا أنهم كانوا يحاولون إعطاء غطاء قانوني لتميز الثقافة الأوروبية عن سائر العالم. 

وبينما ظهرت محاولات تأسيس القانون الدولي في أعقاب الحرب الفرنسية البروسية، التي خسرتها الأولى، لم يعبأ هذا القانون بما تلا الحرب من محاولات استعمارية لاسترداد الهيبة الفرنسية؛ لم يعبأ باستعمار الجزائر الذي أشار إليه فريدريك إنجلز باعتباره فتحًا للجزائر، والذي سيعلّم الشعوب "البربرية" مهن مختلفة ومتحضرة بعيدًا عن القرصنة. 

 لذا يعتبر السؤال عن مدى "دولية" القانون الدولي مشروعًا حين نحدق في نشأته وفي الدول التي كانت لها القوة الكافية لفرض عنفها في سن القوانين، وتحديد ما هو طبيعي للعالم، والحفاظ على طبيعية الوضع الذي يحقق أقصى قدر من النفع لها.

فلنلاحظ كيف خضع العراق للمساءلة حين حاول اجتياح الكويت، بينما لن تخضع الولايات المتحدة للمساءلة حين تغزو العراق. من العادي أن تخدم الدول التي تهيمن على القانون الدولي مصالحها وتعنون كل ما يصب في مصالحها "طبيعيًا" وكل ما يعارضها "غير طبيعي" ويجب، بالضرورة، أن يدان. 

في ظل الإبادة التي يتعرض لها سكان قطاع غزة، يجب أن نتساءل لماذا نقتات على موافقة حضارات، قامت بالكامل على الاستعمار وسرقة ثروات الغير، على حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة؟ في ظل الإبادة التي يتعرض لها سكان القطاع، يجب أن نتساءل متى نتوقف عن "تبرير" المقاومة حتى نظل الضحايا المناسبين لاستجداء التعاطف.

في ظل الإبادة التي يتعرض لها أطفال غزة يجب أن نتساءل متى كان القانون الدولي دوليًا حقًا؟ ولمَ لا نزال ننتظر الخلاص ممن يحتقروننا بالكامل، ويتباحثون حول بربريتنا حين نصرخ ألمًا، ويسلبوننا الحق من الصراخ حين يشيدون حضاراتهم على حطام بيوتنا؟ 

يتطلب تحرير فلسطين من الاستعمار مقاومة مسلحة، ويتطلب تحرير المعرفة من الاستعمار إنتاج لسرديات مغايرة عن السردية السائدة التي تُفرض علينا من خلال الرقابة على السوشيال ميديا، من خلال نشر أخبار كاذبة حيال قطع رؤوس الأطفال، ومن خلال التأكيد أننا قراصنة، وأننا غير مهمين على الإطلاق.


مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.