صورة من فض اعتصام رابعة. تصوير- مصعب الشامي

نكسة أغسطس التي كسرت ما لا يمكن إصلاحه

منشور الخميس 31 أغسطس 2023

خلال سنوات عمره الأخيرة التي قضاها في مصر بعد طول غياب، توطدت علاقتي بالراحل طه جابر العلواني، صاحب التجربة الإنسانية الثرية الممتدة لأكثر من سبعة عقود. وفي إحدى الجلسات في صالون منزله بحي الزمالك، حكى لي عن جانب من أخلاق المصريين التي عرفها شابًا عراقيًا مهاجرًا لطلب العلم في الأزهر، قبل أن تتبدل الأحوال وتتغير الأخلاق.

في خمسينيات القرن الماضي، أعجبته دراجة هوائية لدى "عجلاتي" قريب من ميدان العباسية، فسأل عن سعرها ليشتريها لاحقًا. أجابه الرجل وهو يهيؤها له، مُصرًّا ومُقسِمًا بأغلظ الأيمان أن يأخذها فورًا ثم يسدد لاحقًا.

في صباح اليوم التالي ركب العلواني دراجته الجديدة وذهب إلى الدكان باكرًا وانتظر صاحبه حتى جاء وقبض ثمنها، ثم دار بينهما حوار، بعد أن لاحظ العلواني أمس نظرة ممتعضة لابن الرجل من تصرف أبيه، بدون ضمانات. فكان رد الرجل هو توبّيخ ابنه، مستنكرًا عليه قصر نظره وضعف بصيرته وسوء ظنه في "الضيف" العراقي، الواجب إكرامه، المرتحل عن بلده في سن صغيرة لطلب العلم في الجامع الأزهر، فمن سيفي بوعده إن لم يفِ الشاب الأزهري؟ ومن يكرم الضيف إن لم يكرماه هما؟

كاد الدكتور العلواني أن يسترسل في حديث الحنين، فسألته سؤالًا مباشرًا: فماذا حدث إذن؟! ما الذي غير أخلاق المصريين؟!

سكت بُرْهة، وخُيّل إليّ أنه يسترجع شريط ذكرياته منذ الثانوية الأزهرية في الخمسينيات حتى الدكتوراة (درجة العالِمية في الأزهر) في أصول الفقه في السبعينيات، وما بعد ذلك من تجارب ثرية في مصر وحول العالم. أطرق برأسه، ثم رفعها فجأة، ورد بإجابة قاطعة: سبعة وستين.. النكسة!

النكسة كَسْرة

لم تباغتني الإجابة، فقد كنت حينها أقرأ وأتأمل في الأثر المدمر العميق لهزيمة يونيو/حزيران 1967، الذي استمر حتى صراع جيل يناير 2011 مع الديناصورات التي رضعت الهزيمة في وعيها الأول، ولا يزال من بقي منهم بيننا كذلك. لكنّ ما لفتني في إجابة العلواني القطع واليقين.

لم يشر العلواني إلى 1967 كـ "أحد أسباب" الانكسار وفقدان المعنى واهتزاز الإيمان بأي شيء وطني أو قومي جامع، يحمل على التحلي بحد أدنى من الأخلاق الجماعية اللازمة لنهوض أي أمة (سواء كان مفهوم الأمة مصريًا أم عربيًا). بل كانت إجابته تعني أن هزيمة/نكسة 1967 هي "السبب" بــ"ال" التعريف!

لم تكن هذه المرة الأولى التي أتعرض فيها لنقد أو تحليل اجتماعي يعود إلى هذا الحدث الجلل كنقطة تحول للمجتمع المصري، أو بالأحرى تدهوره، أعمق بكثير من كونها لحظة انهيار مشروع سياسي وحلم عروبي. ثم مرت شهور قليلة قبل أن تبدأ رحلتي في محنة السجن التي استمرت 7 سنواتٍ عجافًا.

في السجن، ومع إتاحة الفرصة للتأمل والمراجعات ورحابة الاطلاع على كتابات متنوعة، رغم التضييق والتعنت، وجدت رابطًا يجمع آثارًا متشابهة للهزائم الكبرى في نفوس الشعوب، خصوصًا إذا كان لهذه الشعوب روابط قومية/وطنية تجعل من كل شعب منهم أمة واحدة، مهما كان التنوع الداخلي بينهم.

أدركت أن انكسار ألوهية إمبراطور اليابان بالهزيمة النووية الكبرى متصل بالذل الألماني المقترن بعقدة الذنب الجماهيرية، أو على الأقل الرسمية، تجاه اليهود، وكلاهما مرتبط بالهزيمة النفسية الكبرى لدى شعوب المعسكر الشيوعي الشرقي إبان نهاية الحرب الباردة. وما هزيمة/نكسة 1967 من ذلك كله ببعيد!

فهل علم السائلون الإجابة؟ أم ينبغي أن نشير إلى أغسطس 2013 بصراحة ووضوح أكثر؟!

شيءٌ ما انكسر محطّمًا معه ثوابت وقيمًا كانت تدفع الناس إلى التزام ذاتي كبير بأخلاق يتطلبها البناء والنهوض، أو على الأقل كانوا يترفعون عن الدنايا والانحطاط، لأن تصورهم عن أنفسهم كان أرقى من ذلك، سواءً كأمة/شعب أم كأفراد.

عن التطبيع مع عنف الشارع الدموي

في السجن أيضًا، تابعت أنباء ذبح الفتاة نيرة أشرف في الشارع، وكذلك حادثة الإسماعيلية عندما هاج رجل يتعاطى "الاستروكس" ومعه سلاح أبيض في الشارع، فذبح رجلًا وأصاب عددًا من المارة. وبعد خروجي فوجئت بموجة التعاطف مع قاتل نيرة، التي بلغت أوجها من العبث درجة تسمية القاتل بلقب "الشهيد" بعد تنفيذ حكم الإعدام فيه.

ومنذ أسابيع قليلة حدثت واقعة مشابهة، بذبح امرأة وأم لطلفين في المنوفية، على يد رجل رفضت الزواج منه. لكنَّ هذه الحادثة لم تنل نصيبها من الانتشار، بما يوحي بوجود تعليمات للتكتم على هذه النوعية من أخبار العنف الدموي.

يتساءل الناس، كما سألتُ العلواني أنا من قبل، ماذا حدث لأخلاق المصريين؟ وما هذا المستوى غير المسبوق من العنف الدموي جهارًا نهارًا؟ وما هذه الحقارة في الدفاع عن الجاني ولوم الضحايا؟!

لكني، الآن، أزعم أني قد تعلمت شيئًا من التاريخ، وأجرؤ أن أقول إن الإجابة لا بد من أن تكون في سبب يمثل انكسارًا كبيرًا غير مسبوق. لا بد أن "السبب"، بــ"ال" التعريف"، في حدث جلل بحجم 1967، كسر شيئًا في تصور المصريين عن أنفسهم، وغيّر من بديهيات الانحياز إلى المظلوم والضحية في مواجهة الظالم والجاني لدى أغلبية المصريين، لتصبح الأكثرية متواطئة على، أو مطبّعة مع، العنف المجتمعي.

فهل علم السائلون الإجابة؟ أم ينبغي أن نشير إلى أغسطس 2013 بصراحة ووضوح أكثر؟!

الجميع في مرمى شظايا ما انكسر

يشيع في الممارسة والثقافة الشعبية مصطلح "تشريس الكلاب"، وهي إجراءات عنيفة تنتهك بها، غالبًا، حقوق الحيوان. تهدف عملية التشريس إلى نزع صفة الأُلْفة عن الكلب المخصص للحراسة وحماية صاحبه. تتحول العلاقة بين الكلب ومالكه إلى ولاء مطلق أعمى مرتبط بالطعام والشراب والخوف من التعذيب، وعلاقته بغير المالك إلى العنف المطلق لدرجة الإصابة المبرحة أو القاتلة، ويصير الكلب المُشرّس غير صالح للعب معه أو الاختلاط بغير مالكه.

لكن الواقع المرير يبدو أنه قد استعار مصطلح "التشريس" ليشمل الناس في بر مصر. وفي ذلك السياق، مستلهمًا من تجربة السجن ومشاهداتها، كتبت في سجن مرزعة طرة رباعية سمّيتها "كلب الحراسة" قلت فيها:

كلب الحراسة يا ولدي لازم يكون شمّام

ولاؤه للّي رابطُه ربْطة شراب وطعام

يقول له: انهش! ينهش .. يقول له: عُض! يعض

كلب الحراسة يا ولدي ممكن يكون إنسان!

لكني حين خرجت أدركت أن التشريس لم يعد مرتبطًا بولاء، بل صار ممارسة عقابية للذات التي تدهورت صورتها في الوعي الجمعي. لم تعد الصورة الغالبة عن الذات الجمعية مقترنة بالشهامة والمروءة، بل بـ"التطبيل" للقوي و"التبخير" لذي الجبروت، وأقلها السكوت والتغاضي والسلبية، خوفًا أو يأسًا.

شيءٌ ما انكسر في الشعب المصري حين رقصت جموع منه على دماء حشود من مواطنين تربطهم بهم صلات الجيرة والقرابة والشراكة في الإنسانية والوطن. وتخبرنا انكسارة 1967 أن الأمر تطلب موت جيل وميلاد جيل جديد لم يشتمه الزعيم في طفولته قائلاً "فقد وضعت فيكم العزة.. فقد وضعت فيكم الكرامة"، حتى يتخلص المجتمع من وطأة النكسة الكاسرة ويستطيع أن يتخيل نفسه ثائرًا، فيثور فعلًا خالعًا طاغية مستبدًا رسخ حكمه طيلة ثلاثة عقود.

والآن نحن في مجتمع تعرض لنكسة كاسرة أخرى، ليست على حدوده البعيدة عن وادي النيل، وليست في صحراء جرداء، بل قلب العاصمة تحت السمع والبصر والبث الحي، في مدينة نصر.

شيءٌ أكبر بكثير من الضرورة الأمنية لفض اعتصام -كان ممكنًا إنهاؤه دون إفراط في القتل ونزع الإنسانية عن الضحايا قبل ذبحهم- حلَّ بالمصريين الذين صار بينهم وبين العنف الدموي في الشارع درجة من درجات التطبيع. والأنكى من ذلك، أن قطاعات من المواطنين تحولت إلى زومبي يسير بيننا هائمًا ملتمسًا الأعذار للجناة ولائمًا للضحايا.

الانكسار لم يكن سياسيًا في هياكل السلطة، بل كان في الناس وبنْية المجتمع

في أغسطس/آب 2014، وفي ذكرى المذبحة، أظهرت لي ذاكرة حسابي في فيسبوك أن أناسًا كرّروا شماتتهم وتمنوا أن يُقتل البقية من فصيل الضحايا والمتعاطفين معهم!

فهل سيكون أحد في مجتمعنا، بعد تشريسه، آمنًا؟ وهل كان السكن في واحد من أغلى الكومبادونات في مصر وأعلاها تأمينًا واقيًا للأم الصيدلانية وزوجها وأولادها من جارهم الضابط الطبيب الذي تعمد دهسهم؟!

شيء ما انكسر، فيأست نفوس في جزع، وتشرّست أخرى في سُعار، وانفصم أناس عن الواقع فسبحوا في ملكوت النوستالجيا البعيدة أو القريبة، ولاذ غيرهم بالفرار من المكان والزمان والذكريات القريبة. لكن كل ذلك لا يمنع شظايا ما انكسر أن تطاول الجميع، ولو كانوا في كومباوندات مشيّدة. فالانكسار لم يكن سياسيًا في هياكل السلطة، بل كان في الناس وبنْية المجتمع.

شيءٌ ما انكسر ولا يمكن إصلاحه فيمن عاصروه متواطئين أو متخاذلين، فلا مخرج إلا في تقليل الخسائر حتى يُستبدل جيل بجيل، وحتى يمرّ من الزمن ما يكفي للتعافي والعلاج، وحتى يحدث التغيير المؤدي - حتمًا- إلى إعلان الحقيقة والمصالحة الاجتماعية، بغض النظر عن المنافسات السياسية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.