برخصة المشاع الإبداعي: Ahmed Badawy- unsplash.com
رجل يمشي على كورنيش الإسكندرية

المشي.. الإنصات إلى همس الأرض في أذنك الثالثة

منشور الأحد 23 يوليو 2023 - آخر تحديث الأحد 23 يوليو 2023

تأخرتُ في تعلم المشي، حتى جاوزت سن القلق، وبدلًا عن الحبو ومن بعده المشي المضحك البسيط؛ كنت أتحرك من مكان لآخر كسحًا على مؤخرتي فكان ذلك مضحكًا أكثر بكثير، مما استدعى أمي، بعد يأسها من الأطباء، ومن تدليكها اليومي لقدماي في الشمس، إلى زيارة عراف اسمه الشيخ مساعيد؛ يقال عنه إنه يصنع المعجزات.

قدّر الشيخ مساعيد حالتي بأنها تستدعي ثلاث زيارات إليه، في كل مرة كان يغطسني في بئر طبيعية موجودة بمقره في طقس أشبه بالتعميد، وأمر أمي في المرة الثالثة بأن تحضر لي معها ملابس جديدة، وبعد أن جردني من ملابسي وغطسني في البئر، طلب منها أن تُلبسني الملابس الجديدة، وتلقي بالقديمة في نهر النيل، والمثير في الأمر أنني تعلمت المشي بعدها. كان الشيخ مساعيد وكأنما يلقنني مبكرًا ثلاثة أمور فلسفية عن السير بشكل رمزي، تطلب الأمر ثلاثين سنة ويزيد لأفهمهم، الأول: أنه تطهير، حين عمدني في بئره، الثاني: وانعتاق، حين جردني من ملابسي القديمة، والثالث: المشي إلى الأبد، حين أمر أمي بإلقاء ملابسي القديمة في النهر الذي لم يتوقف يومًا عن السير دون تكاسل أو تأجيل.

هوست منذ طفولتي بمولد العذراء مريم بجبل الطير، بمحافظة المنيا مسقط رأسي، حتى أنه كان موضوع روايتي الأولى بيت المساكين، كنا ونحن في طريقنا إلى المولد بالحافلة كل عام، أرى على جنبات الطريق زوارًا مثلنا ذاهبين إلى المولد من بلدانهم، لكنهم لا يستقلون وسيلة مواصلات، إنما يسافرون سيرًا على الأقدام، طقس به مسحة حج أو طواف؛ ذلك نذرهم السنوي، الذهاب إلى أم النور دون وسيلة مواصلات، إنما سيرًا على الأقدام لمسافة تتجاوز الخمسة وعشرين كيلو مترًا، بل كان الأكثر إخلاصًا منهم، من يقطع تلك المسافة سيرًا على الأقدام وهو يحمل على كتفه حجرًا، ناذرًا ذلك الشقاء كله في سبيل محبة العذراء وطلبًا لرضاها.

كان الأمر حينها يبدو مضحكًا، قديمًا، حجريًا، لكنني اليوم، وأنا مشاء جيد، ويومي، أتمنى لو كنت خضت تلك التجربة ولو مرة حتى أدون مشاعرها، على الأقل دون حجر على كتفي.

الخطوات الأولى

نزل أسلافنا، كائنات الخطوة الأولى على الأرض، من على الأشجار بحثًا عن الطعام، وبدأوا المشي بشكل منتصب قبل نحو أربعة ملايين وربعمائة ألف سنة، أما عن السبب الذي اضطرهم للسير على قدمين بدل أربع، ووفقًا لما تقوله الكتابات الأنثروبولوجية، فلكي يتمكنوا من الرؤية فوق حشائش إفريقيا العالية وتوقع اقتراب الأخطار، والوحوش الضارية، قبل اقترابها أو حدوثها ومعالجتها أو الهروب منها.

المشي يعني أن تضع نفسك على الهامش

وأدى سيرنا نحن البشر على قدمين فقط، إلى أن نستهلك ربع طاقة الشمبانزي مثلًا لأنه يسير على أربع، وتطورت أدمغتنا وفقًا لذلك، ونتج عنه أنه صار لدى البشر احتياطيات طاقة متبقية لنمو الدماغ، وتضخم حجمه إلى أن بلغ ثلاثة أو أربعة أضعاف دماغ الشمبانزي، امتلك أوسترالوبيثيكوس (نوع من أشباه البشر عاش قبل نحو 3.3- 3.5 مليون سنة) دماغًا بلغ حجمه نحو 400 جرام فقط، في حين يتراوح حجم دماغ الإنسان العاقل بين كيلو ومائتي جرام، أو كيلو وأربعمئة جرام.

هذا يعني أن حجم أدمغتنا تضاعف ثلاث مرات عبر الأربعة ملايين سنة التي مضت، وارتبط تضاعفه ارتباطًا وثيقا بتزايد المشي بشكل منتصب، وحجم أدمغتنا هو ما ساعد في تطور قدراتنا المعرفية. في الحقيقة ما يميزنا نحن البشر ليس القوة أو السرعة بل المشي والرأس الكبير. المشي على قدمين كان السبب في كوننا نمتلك دماغًا جعلنا أذكى الكائنات على وجه الأرض.(1)

همس الأرض في أذنك الثالثة

كان الهدف الأول للمشي عند أسلافنا هو الرؤية الواضحة فوق ما يحجب الرؤية أمامهم وأظن أن ذلك الدافع للمشي استمر معنا حتى الآن، يقول نيتشه "لا نؤمن بأي فكرة لم تتشكل في الهواء الطلق".

كان نيتشه يمشي ست ساعات يوميًا "أمشي بين الغابات وأنا أحاور نفسي محاورات عجيبة". كان يعيش عزلة النساك حين قال "لو كان بإمكاني الحصول على منزل صغير في مكان ما..  سأمشي من ست إلى ثماني ساعات في اليوم، مؤلفا أفكارًا، سأبسطها على الورق بقلمي". وبعدها ستصل عدد ساعات مشيه فعلًا إلى ثماني ساعات في اليوم تقريبًا، فيكتب في كتابه "المسافر وظله" أن "كل شيء في هذا الكتاب، ما عدا ربما بعض الأسطر، تم التفكير فيه وأنا أمشي، وتسجيله على عجل في ستة دفاتر".

وصل الإيمان بالمشي كضرورة للابتكار عند نيتشه إلى أن يلقي برهانه المرح في كتابه "المعرفة المرحة"، "لكي نعبر عن تقديرنا لكاتب أو شخص أو موسيقى، فإن ردة فعلنا الأولى تكون بأن نتساءل: هل يعرف المشي؟".

سباحة في أحلام اليقظة

كان الكاتب والشاعر والفيلسوف الأمريكي ثورو كما يخصص وقتًا للكتابة يخصص وقتًا للمشي لا القراءة مثل أغلب الكتاب، ليتفادى فخاخ الثقافة والمكتبات.

كان يرى أن ما سنكتبه بالقراءة وحدها دون مشي سيكون محشوًا بالآخرين، لأنهم كتبوا هم أنفسهم عن كتب الآخرين. يجب أن تكون الكتابة عند ثورو على هذا النحو، شهادة عن تجربة صامتة وحية، وليس تعليقًا على كتاب آخر، وليس شبحًا لنص آخر. أو بمعنى آخر يقول في يومياته "من غير المجدي أن نجلس للكتابة عندما لا نكون وقفنا من أجل العيش".

أما جان جاك روسو، وهو مشاء عظيم، فيلفت نظرنا إلى أحلام اليقظة التي نسبح فيها أثناء المشي، وذلك في الكتاب الرابع من الاعترافات "في رحلاتي التي قمت بها وحدي مشيًا على الأقدام كنت سيد الطبيعة كلها، وقلبي المتنقل من موضوع إلى موضوع يتحد مع ذاته، ويتحد مع أولئك الذين يمدحونه، ويحيط نفسه بالصور الساحرة، ويسكر بالمشاعر اللذية".

المشي هو أن يخسر المرء شيئًا فشيئًا، على طول الطريق

كان روسو يمشي مسافاتٍ طويلة ليجد في أعماقه إنسان العهود السابقة، الإنسان الأول. المشي الذي يجعل المشاء يستكشف في داخله الإنسان الحقيقي المنبثق من الطبيعة البدائية كليًا. ويسأل ما الذي اكتشفُته داخلي ولا يوجد في الكتب ولا يمكنني العثور عليه إلا بالمشي بمفردي. الشعور بنبض الإنسان الأول في أعماقه. ونخرج من هذه التجربة أكثر تناغمًا مع الآخرين لم نعد نكرههم وإنما نرثي حالهم بكل صدق.(2)

المشي التزام يومي

"مضى يتلمَّس طريقه بطرف عصاه الغليظة، مرشدتِه في ظلامه الأبدي. مولاي يعرف مواقعه بالرائحة وحساب الخطوات ودرجة وضوح الأناشيد والإلهام الباطني". بهذه الفقرة يفتتح نجيب محفوظ الفصل الثاني من ملحمة الحرافيش، وكان صاحب "الطريق" مشاءًا عظيمًا، عد المشي رياضة، والتزم به التزامًا حادًا، فكان أثناء سنوات الوظيفة ينام في الحادية عشرة مساءً، ويستيقظ في السادسة صباحًا، حتى يتسنى له ممارسة المشي.

كان ينزل من ترام العباسية، ويسير إلى وزارة الأوقاف، مرورًا بشارعي سليمان باشا، وقصر النيل، وحتى بعد زواجه وانتقاله إلى العجوزة حافظ على عادته، وزادت المسافة التي يمشيها، فكان يسير من شارعي الجبلاية والبرج، مرورًا بكبري قصر النيل إلى وزارة الأوقاف، قاطعًا مسافة تستغرق ساعة يوميًا، غير أنه حافظ على تلك العادة بعد المعاش.(3)

فريدريك جرو في كتابه "المشي فلسفة"، له رأي آخر في المشي، وينصحنا بأن نتخلى عن كل مقابل قد يأتي منه، المشي باعتباره لا شيء، متعة خالصة، فلا يمكننا أن نجني المال من المشي، كما أننا نمشي بينما أحدهم يعمل ليجني المال، حتى أننا لا نمشي من أجل الابتكار، بل نمشي من أجل اللا شيء، كما يرى أن المشي ليس رياضة، الرياضة هي غالب ومغلوب، ترتيبات وتدريبات وبناء صحي معين، أما المشي فلا يحتاج إلا لقدمين، وعنده، لا يشكل المشي علاجًا منعشًا، وموردًا للطاقة (ولكنه لا يلغيها).

المشي في فلسفة جرو انفصال وتخلي، سكينة، يشبه قرارًا متواصلًا من الهذيان، واستكشافًا رفيعًا للعزلات، ونرى حين نمشي كل شيء يتلألأ ويلوح وينادي، المشي يزهر الهذيان، ويحقق الهوس، المشي يفرغ الرأس وهو وحده قادر على تحريرنا من أوهام الأشياء الضرورية، المشي تعبير عن رفض لحضارة متعفنة، ملوثة، مستلبة وبائسة.

المشي يعني أن تضع نفسك على الهامش؛ على هامش أولئك الذين يعملون، وعلى هامش الطرق السيارة، وعلى هامش منتجي الربح والبؤس والزارعين، والكادحين، وعلى هامش الأشخاص الجادين الذين لديهم دائمًا شيء أفضل لفعله عوضًا عن الترحيب بنعومة شمس الشتاء الشاحبة أو طراوة نسيم الربيع. المشي هو أن يخسر المرء شيئًا فشيئًا، على طول الطريق، هويته وذكرياته، ليصبح جسدًا يمشي بطريقة لا تنتهي.


(1)بين العقل والجسد: أهمية الحركة - وثائقيات الشرق فيلم

فيلم المشي.. علاج الجسد والروح - وثائقيات الشرق

(2)كتاب "المشي فلسفةً" (معنى، 2021/ ترجمة سعيد بوكرامي) للمفكر والفيلسوف الفرنسي فريديريك جرو(1965)

(3)كتاب صفحات من مذكرات نجيب محفوظ. تأليف: رجاء النقاش، دار الشروق 2011