برخصة المشاع الإبداعي- Simona Scolari- فليكر
أحد أحياء القاهرة

حكاية عشوائية العمران.. الميلاد سهوًا

منشور الثلاثاء 11 يوليو 2023

تُعرِّف معاجم اللغة العشوائية بأنه "عَمَلٌ على غير بصيرةٍ أو هدًى"، ولا يكتفي معجم المعاني الجامع بشرح المعنى بل يضيف حُكمًا، "عشوائية العمل تؤدي إلى فشله".

والدولة، أي دولة، هي نسق متناغم حتى في فشله، فلا يمكن أن تكون لدينا عشوائية عمرانية وتعليم منظَّم، أو عشوائية صحية وقانون متبصر. وهكذا، فما نحن عليه اليوم من "نجاح باهر" هو حصيلة منظومة من العشوائية المتداخلة.

التعليم عشوائي كونه غير مربوط بسوق العمل، ومتعدد الانتماءات والمستويات بين أكثر من نوع، حكومي وأزهري وأجنبي على كل لون. والتشريع عشوائي بدليل التعديلات المتتالية على القانون الواحد، أو التعارض بين قانون وآخر. والصحة عشوائية بأنظمة العلاج المختلفة، من الوهمي في مستشفيات الحكومة، إلى الإحساني الديني، إلى الجامعي، والخاص بدرجاته، والتأمين.

لكن ما يظهر واضحًا من تلك المنظومة العشوائية المتماسكة هو عشوائية العمران. لأنها عشوائية مرئية، مثل مسبة تتكرر مع كل نظرة عين.

ليس هناك أسوأ من صناعة العشوائية إلا علاجها العشوائي

ارتباط عشوائية العمران بالنظرة، هو ما جعل النظام على مدى عقود عصبيًا وعدوانيًّا تجاه الأفلام التي تجري في الأحياء العشوائية، والتي حملت في الإعلام التابع لقب "سينما العشوائيات" التي "تسيء إلى سمعة مصر"، من وجهة نظرهم.

العشوائية شتمة، لكن "ما شتمك إلا من بلَّغك" وهي السينما. هكذا اقتصرت ديموكتاتورية مبارك الرخوة اللعوب على استنكار سينما العشوائيات، وإرشاد المخرجين إلى مصر الحلوة ليصوروا أفلامهم فيها، لكن الجمهورية الجديدة المستقيمة، التي لا تحب التظاهر بالديمقراطية، عالجت المشكلة من المنبع، وحققت النصر المبين على السينما ذاتها.

أحد أحياء القاهرة العشوائية

لكن موت السينما لم يقض على معضلة الصورة سوى بشكل جزئي، لأن وسائط الفيديو القصير والفوتوغرافيا على السوشيال ميديا، قامت بما كانت تقوم به السينما، ولهذا ولأسباب أخرى عديدة بدأت إجراءات علاج العشوائية. لكن الحلول جزئية جدًا ولا تضمن وقف الظاهرة من منبعها، وليس هناك أسوأ من صناعة العشوائية إلا علاجها العشوائي.

وقبل اقتراح أي حل مستدام وقاطع لمشكلة العشوائية العمرانية نحتاج إلى رواية قصتها من البداية حتى هذه اللحظة، وتحديد الاختلاف بين عشوائية الريف وعشوائية المدينة.

متى نشأ هذا القبح في وادينا الجميل؟

لا يمكن القول بأن عمارة وعمران المدن والقرى المصرية، بما فيها العاصمة، هي الأكثر رثاثة في العالم. لكنها بالتأكيد بين الأسوأ والأكثر إثارة للأسى من حيث نوعية مواد البناء وتواضع جماليات العمارة وافتقاد الأساليب وانعدام الفضاءات العامة والفقر الشديد في الخدمات.

العمارة تؤرخ لنفسها وتجيب بنفسها على السؤال. يكفي أن نتأمل تنافر القديم والجديد في كل مديرية من الإسكندرية إلى أسوان، حيث تنعدم الصلة بين عالمين متناحرين في كل المدن.

هناك دائمًا قلب، أو سرة للمدينة، باقية من العهد الملكي البائد تزيد مساحتها في المدن الكبيرة وتتقلص في الصغيرة، إلى حد أن تصبح بضعة مئات من الأمتار المربعة، تشكل ميدانًا أو شارعًا قصيرًا فسيحًا، عليه بضع عمارات تصلح صورتها كارت بوستال يتبادله المسافرون.

وقد تعثر في زاوية منسية هنا أو هناك على عمارة أنيقة محدودة الارتفاع، أو فيلا ذات طابع معماري يحيل إلى أحد أساليب العمارة من النصف الأول من القرن العشرين. تبدو تلك البنايات القليلة مثل أسير عظيم يرثي نفسه، ولا تكف عيناه عن توجيه نظرات الازدراء لخاطفيه من البرابرة المطبقين عليه، في هيئة أبراج تنطح السماء وتهين القيم الجمالية والمعايير الوظيفية للإسكان الآمن ومعايير العيش السعيد، التي يجب أن تحققها المدينة.

لو أعدنا تسمية ما حدث فجر 23 يوليو/تموز 1952، طبقًا لأبجديات العلوم السياسية، فهو انقلاب. وهذه التسمية ليست ذمًا، بل ضرورة لفهم طبيعة التحولات التي أعقبته، سيئة كانت أو جيدة.

هرب مبدعي وزبائن العمارة الفخمة حين غادر المهندسون الأجانب وتبدد زبائن العمارة الجميلة من الرأسماليين الذين أممت أموالهم

انقلاب سياسات العمران مع تغيير أسلوب الحكم عام 1952 كان كبيرًا. ولم تتميز به لحظة تاريخية واحدة، بل حملت كل حقبة من حقب الجمهورية، حتى اليوم، بصماتها السلبية على العمران في المدينة والقرية. ولم تكن كل المراحل على الدرجة نفسها من السوء في القرية والمدينة.

يزيد الضغط على المدينة حينًا وعلى القرية أحيانًا، حسب الظرف السياسي الاقتصادي. ومن أجل التركيز، سأقصر هذا المقال على تأثير الانقلاب على عمران المدينة.

عمران انقلاب يوليو

حملت الحقبة الناصرية أسبابًا متعددة لهزيمة الفضاء الحضري المديني بالذات، أهمها حركة التصنيع السريعة وسياسات التوظيف على نطاق واسع، التي انطلقت كشعار للدولة الحامية الوليدة (الانقلابات تعشق الشعارات). لم تتم دراسة المخاطر والخسائر المحتملة لبناء المصانع على الأرض الزراعية المتاخمة للمدن، وأبرزها مصانع شبرا الخيمة ومسطرد وحلوان، واستتبع ذلك بناء العمال لمساكنهم حول مصانعهم.

بعض تلك المناطق عرفت المصانع قبل 1952، على نطاق ضيق كمصانع النسيج في شبرا الخيمة، لكنها توسعت مع رأسمالية الدولة بناء وتأميمًا. وصار العمال قادرين على تمويل بناء بيوتهم من مرتباتهم بطرق التوفير الشعبية مثل الجمعية بين الزملاء.

أحد الأبنية القديمة في وسط القاهرة

بفضل تواضع سعر الأرض الزراعية، وإمكانيات التجزئة، أقيمت بيوت على مساحة خمسين مترًا تتوسع بالبروز في الطوابق فوق الأرضي فيصبح البيت ستين مترًا. بناها بناؤون فطريون، كما في القرى، يصبرون على أتعابهم ويتقاضونها تقسيطًا.

ولم يتوقف الأمر على بناء العمال لمساكنهم قرب مصانعهم، بل استوعبت تلك العشوائيات كذلك صغار الموظفين القادمين من الريف، الذين فضلوا السكن جوار أقاربهم بتخوم المدينة، أقرب مكان يربطهم بمحافظاتهم، وهذا يُفسر تفضيل الصعايدة لعشوائيات جنوب القاهرة في الجيزة والمعصرة، وأهل بحري لعشوائيات شمال وشرق القاهرة، وهكذا.

السمة الثانية المميزة لعهد عبد الناصر، كانت هروب مبدعي وزبائن العمارة الفخمة. غادر المهندسون الأجانب المقيمون في مصر منذ بداية القرن، وبينهم يونانيون ونمساويون وإيطاليون وشوام، بعد أن اختفى زبائن العمارة الجميلة من الرأسماليين الذين أُممت أموالهم.

أما السمة الثالثة، فتمثلت في كسر هيبة الإدارة المحلية، لصالح المركزية. عرفت مصر نظام المجالس المحلية منذ عام 1883، وكانت مختلطة بين أعضاء معينين ومنتخبين، ويصدر قرار تعيين رئيس المجلس ونائبه من الخديو شخصيًّا.

في عهد عبد الناصر، تحول المجلس المحلي إلى مجلسين أحدهما نيابي والثاني تنفيذي، فيما يشبه المحاكاة للبنية في قمة هرم السلطة، شكلًا ومضمونًا. المجلس النيابي دوره شكلي، والمجلس التنفيذي صلاحياته محدودة، مع ترضية عظيمة؛ فهذا المجلس غير مسؤول عن العشوائيات مالم يُضبط متلبسًا بالرشوة.

ويعد افتقاد مفهوم الدولة العادلة التي تقوم بدور الحكم بين الطبقات، هو السمة الرابعة لتلك الحقبة. انحازت "مصر عبد الناصر" للفقراء على حساب الأغنياء، مما تسبب في البغضاء بين الطرفين، وخلل اقتصادي وعمراني كبير.

تجسَّد الانحياز في مجال الإسكان عبر تثبيت القيمة الإيجارية، وتثبيت عقود الإيجار مدى الحياة، بل وتوريث العقد. بالإضافة إلى استحداث لجان تقدير الإيجارات، فكان المستأجر يتظاهر بالرضى بالأجرة التي يطلبها مالك الشقة، وفور أن يسكنها، يتقدم بشكوى للجنة التقدير التي تنتقل لتعاين وتفرض إيجارًا يتراوح بين نصف وربع ما سبق الاتفاق عليه، حسب قدرة الساكن على الاستفادة من الرشوة أو وساطات المعارف.

وتسبب ذلك في توقف مستثمري البناء بغرض الإيجار، ممن كانوا يحسنون ذلك البيزنس. لم يتوقفوا عن بناء الجديد فحسب، بل فقدوا اهتمامهم بعقاراتهم التي بنوها من قبل. والإدارة التي زرعت الفتنة بين بين المالك والمستأجر فاتها أن تضع آلية لإلزام أي من الطرفين بالمهمة.

لم تعد العقارات ملكًا لأصحابها بحكم الواقع، لكنها لم تصبح ملكًا للسكان في الوقت نفسه. هكذا أهملت الصيانة وتدهورت المباني القائمة. ومع كل انخفاض لقيمة العملة بدأ الملاك يستعجلون انهيار أملاكهم غير المجدية كي يحصلوا على رخصة هدم.

عمارة ناصر.. ومدينة نصر

نهضت العشوائيات قليلة التكلفة لتغطية النقص الناشئ في سوق العقارات، ومعظمها أقيم على الأرض الزراعية لأن الصحراء محرمة على الإسكان، ومحجوزة لأغراض الدفاع والآثار.

لم تتجه العشوائيات للصحراء إلا في حالات قليلة على مستوى الجمهورية. الحالة الأبرز صحراء عين شمس شرق القاهرة، لأنها كانت في حوزة واضعي يد، تصرفوا فيها بالبيع كالملاك الزراعيين، ولاحقًا نشأت بعض الجيوب العشوائية على أراض صحراوية منسية لوعورتها مثل هضبة الدويقة أسفل المقطم وأطراف مثل الكيلو أربعة ونصف، ومنطقة الحرفيين شرق القاهرة.

من مظاهر البناء على الأرض الزراعية

لكن مصر عبد الناصر لم تفقد المبادرة في مجال الإسكان بالكامل. بنت نماذج للبيت العمالي في الألف مسكن والعجوزة وإمبابة، لكن بأعداد قليلة، بينما كانت مدينة نصر النموذج الأبرز للمبادرة الناصرية.

كان قرار إنشاء مدينة نصر عام 1959، التي تعد بحجمها أكبر من مجرد حي. خططها سيد كريم، أبرز الوجوه المعمارية القادمة من الحقبة الليبرالية، وتبناها عبد الناصر شخصيًّا. ولم يكن الاتجاه للبناء على تلك الأرض في تلك الحقبة ليحدث إلا بقرار شخصي منه، قضى بنقل معظم معسكرات الجيش بتلك المنطقة إلى طوق أبعد.

يمكن احتساب السنوات الخمس الأولى من حكم السادات ضمن المرحلة الناصرية

التقت في مدينة نصر ثقافة سيد كريم المعمارية، مع رغبة عبد الناصر في التعبير عن عظمة دولته، فتضمنت الفضاءات العامة الضخمة: أرض المعارض، ستاد القاهرة، قاعة المؤتمرات، الحدائق، النوادي، وسينما ومسرح صيفيين بشارع يوسف عباس. ويلاحظ في هذه المنشآت الحضرية غلبة الفضاءات الاجتماعية على الثقافية.

فإذا أضفنا إلى ذلك، خلو المدينة من الميادين، وإلغاء الوظيفة التجارية في الطابق الأرضي من المبنى السكني، نفهم لماذا أخفقت مدينة نصر في صهر سكانها وخلق سمة حضرية مميزة لهم، بعكس أحياء مثل مصر الجديدة والمعادي والزمالك.

وفي عام 1961، كانت المبادرة الناصرية الثانية بإنشاء المؤسسة العامة التعاونية للإسكان، التي تم تعديل اسمها عام 1965 إلى المؤسسة المصرية للبناء والإسكان، وفي عام 1971، تم تحويل المؤسسة إلى الهيئة العامة لتعاونيات البناء والإسكان.

لم تقم الهيئة على فلسفة عمرانية، كأن تلتزم بالبناء في الصحراء، بل سارت وراء حاجات المناطق. وأخذت مساهمتها المحدودة تقدم مسكنًا أفضل من البناء العشوائي، من حيث التهوية والإضاءة، لأنها وفرت مساحات حدائق بين العمارات، لم تلتزم برعايتها أو تُلزم بها السكان فتحولت إلى مزابل.

وبالمثل، لم تتمتع المساكن بإجراءات صيانة مستدامة، فكانت مساكنها تتدهور سريعًا لتصبح أبشع من العشوائيات.

يمكن احتساب السنوات الخمس الأولى من حكم السادات ضمن المرحلة الناصرية، حيث كانت الدولة مشغولة بالإعداد لحرب تحرير سيناء. وبعد الحرب، التقت قلة الموارد مع رؤية السادات للخصخصة، وكان المسرح العمراني مهيأً لنظام التمليك.

كان مفعول الوقيعة التي اقترفها نظام عبد الناصر بين الملاك والمستأجرين قد استشرى، وزادت معدلات الإنجاب، وبدأت أموال الانفتاح والسفر تتدفق. وكان ذلك يومًا حزينًا على صعيد الحياة الحضرية بشكل عام، وعلى العمران بشكل خاص.

تم التصريح بالبناء للتمليك، فظهر البناة غير المكترثين بمستقبل المبنى بعد بيعه. وجرى ذلك في ظل الرخاوة السياسية والمراوغة، التي تغض العين عن المخالفات، فلم تقتصر العشوائية على البناءات غير المرخصة على الأرض الزراعية بأطراف المدن، بل امتدت مخالفات المساحة والارتفاعات في الأحياء المنظمة.

وهكذا، غادرنا عشوائية السهو البريئة لندخل إلى عشوائية العمد بكل لؤمها، وهي تستحق وقفة أخرى.


  • للاستزادة في تاريخ الحكم المحلي في مصر ومسؤولياته: المجالس المحلية المعينة للقرى
  • للاستزادة عن العمارة وعصرها الذهبي وأساليبها وأعلامها من الأجانب والمصريين: MOHAMED ALSHAHED, CAIRO SINCE 1900.. An Architectural Guide, AUC PRESS, 2020