آنسبلاش برخصة المشاع الإبداعي
كابوس

كابوس مفزع اسمه الامتحانات

منشور السبت 27 مايو 2023

حكى لي أصدقاء، وسمعت من شباب وأطفال، أنهم يعانون من كوابيس قاتمة تداهمهم من وقت إلى آخر لا تهاجمهم فيها وحوش، ولا تنقطع بهم السبل في صحراء جرداء، أو تجرفهم أمواج بحر هائجة إلى القيعان، إنما يجلسون إلى طاولة في قاعة أو خيمة وأمامهم أوراق امتحان تستعصي عليهم أسئلته، أو يسحب المراقبون أوراق إجاباتهم قبل انتهاء الوقت، أو يطردونهم خارج اللجان بلا ذنب.

أحدهم قال لي "في الموعد المقرر للامتحانات الاعتيادية في شهري مايو/آيار ويونيو/حزيران أقوم فزعًا في بعض الليالي، يكاد يقتلني الظمأ، والعرق يتصبب من جبيني، وما أن أفتح عينيَّ وأدرك أنني فوق سريري حتى أتمتم بحمد الله على أنني قد نجوت، وأن ما كنت فيه لم يكن حقيقة".

آخر قال لي، "في كل مرة يهاجمني الكابوس أكون في امتحان لمادة الجغرافيا، وأرى نفسي جالسًا وقد نسيت كل شيء، أعصر ذهني، لأفض اشتباك الخرائط، وأرتب الأرقام والبيانات المبعثرة، لكن جهدي يضيع سدى، فيغلبني بكاء حار، تتساقط له دموعي غزيرة ساخنة على ورقة الإجابة حتى تبللها تمامًا، فتنعجن أمامي".

التعليم في بلادنا واحد من أساليب القمع والتحكم والسيطرة والإرهاق

وحدثتني امرأة عن طفلتها التي يصيبها فزع ليلي، فتصرخ وهي غارقة في نومها، "أنا ذاكرت.. حرام حرام". ولا يكون أمام الأم من سبيل سوى إيقاظ ابنتها، التي ما إن تفتح عينيها حتى تجيل بصرها في الغرفة، ثم تنخرط في بكاء حار. وقد اضطرت الأم إلى الذهاب بابنتها إلى طبيب نفسي.

أمثال هؤلاء كثر في بلادنا، يكاد لا يوجد أحد فيها مر بمراحل دراسية متتابعة إلا وتحولت الامتحانات لديه إلى كوابيس ليلية، تختلف ألوانها، وتتفاوت أوقات هجومها، وتتنوع درجات مواجهتها بين نفس ونفس، لكن الجميع لديهم ما يشكون منه، وهم الذين ظنوا وقت التحاقهم بالتعليم أنهم مقدمون على شيء ممتع ومفيد.

إننا لم نبتعد بالتعليم في بلادنا عن أن يكون واحدًا من أساليب القمع والتحكم والسيطرة والإرهاق، التي تضعط على أعصاب الجميع، في كل مجال، وكل مكان، ومعظم الأوقات ما خلا تلك التي يقتنصها كل منها من قبضة الشقاء كي يصنع بهجته العابرة.

ويزداد الأمر سوءًا مع الامتحانات التي هي عبارة عن قمع مقنَّع ومركَّب، أو سجن مؤقت تتوالى جدرانه السميكة لتثقل النفوس، فالذاهب إلى الامتحان يدرك أن هناك من حدد له زمانًا ومكانًا ليجري فيهما امتحانه، ثم هناك من حدد الأسئلة، وعدد صفحات ورقة الإجابة، وربما طرق الأجوبة، ويلتزم الطالب بقواعد صارمة، مخالفتها غير مأمونة العواقب، اللهم إلا في حالات تسيب الإدارة وسماحها بغش ممنهج.

ذلك الإقدام على أفعال غير مقنعة، يعمق الشعور بالتعاسة في نفوس أولادنا

وقبل سجن الامتحان يكون أهلهم قد سجنوهم شهورًا أو أسابيع أو أيامًا ينقطعون فيها للاستذكار، حتى يكون بوسعهم مواجهة التحدي، حين يلحون عليهم أن يحصلوا على الدرجات كاملة في كل المواد.

كل أسرة تطلب من ابنتها/ابنها أن يظفر بالمركز الأول، فيفتحون بابًا واسعًا للصراع، فالضغوط الشديدة لا تجعل المنافسة شريفة، إنما قد ينزلق الأمر إلى حسد وحقد، وإن لم يحدث فإن كلا منهم يخرج إلى مجتمع العمل فيما بعد وهو متأثر بما كان يطلبه الأهل منه أيام الدراسة، فيدخل في صراع مع من حوله، ولا يريد بديلًا عن الاقتناع بأن الحياة في مجملها أشبه بمعادلة صفرية، فيسعى كي يأخذ أو يخطف كل شيء، ويحرم غيره من أي شيء.

يحدث هذا رغم أن التعليم لم يعد في بلادنا، من أسف شديد، وسيلة للحراك الاجتماعي مثلما كان في عقود خلت، إذ كان بوسع من يتعمق في تحصيل العلم أن يعزز مكانته الاجتماعية ويزيد من دخله، ويقوي فرصه الشريفة في تحسين شروط حياته. لكن صارت هناك أسباب أخرى للحراك، بل القفز إلى حيازة الثروة، وبها تصنع المكانة، حتى لو كانت زائفة، وتتحسن الحياة ولو من باب المتع المادية الزائلة.

وصل هذا الوضع إلى الطلاب، ومنهم إلى التلاميذ، فمن يكون في المرحلة الابتدائية يجد أخاه الذي تخرج من سنوات في أرقى الكليات، وكان يحصل على أعلى الدرجات في الامتحانات، متعثرًا في الحصول على عمل، وهذه آفة أخرى رسخناها حين ربطنا التعليم بسوق العمل في كل الأحوال، رغم أن له وظائف أخرى سامية، لا يستغني عنها إنسان متحضر، ولا أمة متقدمة.

ومن ثم لا يتفهم أولادنا ضغوط أسرهم عليهم مع اقتراب الامتحانات، وربما يسخرون منها في أعماقهم، لكنهم مجبرون على مجاراة ما يطلب منهم، وإظهار الالتزام بالوعود والعهود التي قطعوها على أنفسهم أمام أهليهم بأن يجتازوا الامتحان بنجاح كاسح، لا سيما حين يذكرهم الأهل بالمتاعب الجمة التي يواجهونها كي يوفروا لهم نفقات الدراسة، ومنها الدروس الخصوصية التي تستنزف جزءًا كبيرًا من دخل الأسرة المصرية.

وهذا التحايل، وذلك الإقدام على أفعال غير مقنعة، يعمق الشعور بالتعاسة في نفوس أولادنا، لا سيما أنهم غير مقتنعين، في الغالب الأعم، بنظام تعليم يطلب منهم "حفظ الدرس" وليس فهمه وإدراك مراميه ونقده وامتلاك الحرية في التعبير عن هذا أمام مدرسيهم في الفصول، وفي أوراق الامتحان، وهم في مأمن من أن موقفهم هذا لن يترتب عليه عقابا لهم بخفض درجاتهم، والانتقام منهم.

لكل هذا تحولت الامتحانات في بلادنا إلى كوابيس، غير مكتفية بعذابات أحلام اليقظة والتفكير بالتمني حين يدرك أولادنا الفجوة بين ما يطلبه منهم أهلهم وبين قدراتهم الحقيقية، ولا بالمتاعب الجمة التي تصاحبهم أثناء السنة الدراسية برمتها، إنما أيضًا أثناء نومهم، فيهبون فزعين، لاعنين في السر والعلن الامتحانات وأيامها القاسية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.