ويكيبديا
دعم البريطانيون الشريف حسين بن علي في ثورته ضد العثمانيين

تقسيم المُقسم في "بلاد العرب"

منشور الثلاثاء 2 مايو 2023

أعادت المأساة التي تعيشها السودان مؤخرًا الحديث عن مفهوم الدولة في الجزء الذي نعيش فيه من العالم، وموقع مصر من الزلازل السياسية المتتالية التي تشهدها المنطقة العربية ويترتب عليها انهيار الدول واحدة تلو الأخرى، ككيانات متماسكة لها سلطة مركزية وجهة واحدة تحتكر القوة وتمتلك السلاح متمثلة في جيش "وطني".

نعرف جميعًا أن معظم دول عالمنا العربي لم يكن لها دور في رسم حدودها، وأن هذا الأمر تولاه ممثلو الإمبراطوريات العظمى القديمة إنجلترا وفرنسا، اللتين احتلتا بلادنا منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

ومفاهيم الدولة والحدود أصلًا مفاهيم حديثة مرتبطة بعصر النهضة في أوروبا على إثر حروب استمرت لعقود طويلة، انتهت بإنشاء الدول التي نعرفها الآن كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا.

لكن هذه التحولات كانت غائبة وغير مفهومة في منطقتنا التي كانت تعيش في شبه حالة إظلام كامل في ظل الحكم العثماني، إلى جانب غياب وسائل الاتصال والسفر التي نعرفها في وقتنا الحالي مما جعل الانتماء في الأساس إلى القبيلة أو العائلة، ثم القرية أو المدينة الأقرب على أقصى تقدير.

وكانت رحلة الحج من أقصى المغرب إلى مكة في شبه الجزيرة العربية تستغرق شهورًا طويلة، لكن أحدًا لم يكن يسأل المسافرين عن جنسيتهم أو هويتهم وجواز السفر والتأشيرة. وبدلًا من "الدول" كانت هناك "ولايات" يعين حكامها السلطان العثماني. فالعراق كانت ولايات بغداد والبصرة والكوفة وأربيل وغيرها، ولم يكن هناك وجود لدول سوريا ولبنان الحديثة التي نعرفها بل كانت ولايات دمشق وحلب وحماة وبيروت والجبل.

حدود بقلم أحمر

أراد الإنجليز من العرب أن يعاونوهم في هزيمة وإنهاء الإمبراطورية العثمانية التي كانت توصف برجل أوروبا المريض وتتهاوى بالفعل في ظل تخلف كامل عن مجاراة ما كان يجري في أوروبا من نهضة واسعة في مجالات العلوم والصناعة وتطوير الأسلحة.

تم الاتفاق مع شريف مكة ووالي الحجاز، حسين بن علي، على قيادة ثورة عربية ضد الحكم العثماني في 1916 ووعده الإنجليز أن يصبح خليفة على العرب مكان الأتراك. وفي الوقت نفسه، كان يجري سرًا توقيع اتفاقيات بين إنجلترا وفرنسا تقسم المنطقة العربية إلى "دول" تخضع لنفوذهما، ومنها ما عرف بـ"اتفاقية الخط الأحمر" وجرى ترسيم الحدود على الخارطة بقلم أحمر استخدمه وزيرا خارجية البلدين، وكذلك اتفاقية سايكس-بيكو.

خدع الإنجليز الشريف حسين والي الحجاز الذي منح نفسه صفة "ملك البلاد العربية"، وتراجعوا عن وعودهم له. حاولوا في البداية إرضاءه بتولي ابنه فيصل حكم الشام، لكن الفرنسيين رفضوا ذلك، فانتقل فيصل إلى العراق وأنشأ مملكته التي أسقطتها الثورة الجمهورية في 1958.

وفي ضوء وعد بلفور الذي قدمه البريطانيون للحركة الصهيونية المتنامية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، اقتطعوا لنجل الشريف حسين الثاني، عبد الله، ما أسموه بـ"إمارة شرق الأردن" وجعلوه ملكًا عليها.

وسط هذا الكم من الصراعات والانقسامات الهائلة، يبقى وضع مصر مميزًا نسبيًا، ذلك المربع المكون من مليون كيلومتر ومنذ آلاف السنين تحكمه دولة مركزية

يبقى وضع مصر مميزًا نسبيًا، ذلك المربع المكون من مليون كيلومتر ومنذ آلاف السنين تحكمه دولة مركزية

وفي السياق، بقيت مصر محمية إنجليزية ومعها السودان والعراق والأردن ومنطقة شبه الجزيرة العربية، بينما سيطرت فرنسا على كامل دول شمال إفريقيا، تونس والجزائر والمغرب، بجانب عدد من الدول الإفريقية.

لم يختار سكان "البلاد العربية" حدودهم ولا حكامهم، وهو ما خلق فجوة واسعة بين الشعوب والحكومات بعد الحصول على الاستقلال. فالعراق مثلًا يسكنه غالبية من الشيعة، لكن الإنجليز اختاروا منح الحكم لفيصل السني ابن الشريف حسين. وحتى بعد انتهاء الملكية، بقيت السلطة في يد الطائفة السنية العراقية التي شكلت نواة الجيش الحديث، حتى وإن رفع قادة حزب البعث شعارات قومية عربية.

ومن ضمن الخطط التي جرى تداولها في المراكز البحثية الأمريكية بعد غزو واحتلال العراق عام 2003 إعادة ترسيم حدوده، وضم الجزء الذي يسكنه غالبية من السنة إلى المملكة الأردنية الهاشمية مقابل أن يتم توطين الفلسطينيين في الدولة الناشئة الجديدة وإنهاء حلم إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين.

ولاءات للقبيلة والطائفة

ومن الناحية العملية، فإن القسم الشمالي من العراق الذي يسكنه الأكراد منفصل عن الدولة المركزية منذ فشل مغامرة صدام حسين في غزو الكويت عام 1990، أما الولايات الجنوبية ذات الغالبية الشيعية فيمكن لهم أن يشكلوا دولتهم المستقلة التي ستكون خاضعة بالطبع للنفوذ الإيراني.

كذلك كان الحال في سوريا المجاورة، وتمكن حافظ الأسد بعد سلسلة من الانقلابات التي لا تنتهي من السيطرة على الحكم وتمكين الطائفة العلوية التي ينتمي لها من كل المناصب العليا خاصة في الجيش وأجهزة الأمن، بينما غالبية السكان هم السنة.

أما في لبنان، فانقسام الطوائف والأعراق شديد التعقيد، وهو ما يجعل ولاء غالبية اللبنانيين لدولة مركزية أمر صعب للغاية. وحتى الآن ما زال الحديث متداولًا عن "سوريا الكبرى" التي تضم تاريخيًا سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وهو مشروع سياسي بعثي أكثر منه حقيقة على أمر الواقع في ضوء الانقسامات العرقية والطائفية والقبلية القائمة.

ورغم السيطرة القوية لعائلة آل سعود على المملكة الحديثة نسبيًا، فإن الإشارة إلى الولايات والمناطق المختلفة في المملكة، خاصة تلك التي تسكنها أقلية شيعية مثل القطيف والإحساء في المنطقة الشرقية، لم تختف وبذور الانقسام لم يمحها حكم مئة عام.

أما ما كان يعرف سابقًا بـ"إمارات الساحل المتهادن" فلقد شكل رؤساء القبائل الدول الحديثة التي قامت هناك بعد انسحاب الإنجليز في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وعلى إثر ذلك نشأت الإمارات والبحرين وقطر والكويت. وفي اليمن المجاور، الانقسامات قبلية وجغرافية ويضاعف من صعوبة تشكيل الدولة المركزية الطبيعة الجغرافية الصعبة التي تجعل من إمكانية سيطرة الدولة المركزية أمر شبه مستحيل.

والوضع ليس أفضل حالًا بكثير في دول المغرب العربي التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي، والانقسامات قائمة في تعريف الهوية ما بين عربية وفرنسية وأمازيغية بغض النظر عن "الدولة" التي ينتمون لها، إلى جانب تصميم المغرب على اعتبار الصحراء الغربية جزءًا من أرضه، والرفض القاطع لمنح سكان ما يعرف بالجمهورية الصحراوية حق تقرير المصير لأنهم لا يرون أنفسهم "مغاربة".

أما الجارة ليبيا فكانت تاريخيًا مقسمة بين ثلاثة أقاليم وولايات في الشرق والغرب والجنوب، وفور انهيار دولة العقيد القذافي في 2011، عاد الحديث مجددًا إلى احتمال تقسيم الدولة الكبيرة ذات العدد الضئيل من السكان إلى ثلاث دول بناء على الانقسامات القبلية التي فشلت سياسات القذافي في محوها.

حافظ الأسد وصدام حسين والقذافي كانوا يتبعون سياسة الحكم بيد من حديد والإفراط في استخدام القمع. ولذا بمجرد زوال حكمهم، تفككت أطراف "الدول" التي سيطروا عليها لعقود طويلة وعاد الولاء للإقليم والقبيلة.

مصر والسودان

أما السودان الذي يوصف بأكبر ثالث دولة في القارة الإفريفية رغم تقسيمه في العام 2011 إلى دولة السودان ودولة جنوب السودان، الأحدث على الإطلاق في الأمم المتحدة، فهو لم يشهد تقريبًا أي فترة استقرار منذ أن نال استقلاله في العام 1956، بسبب الانقسامات العرقية والقبلية، إلى جانب فقر الدولة المركزية الذي لم يمكنها من بسط نفوذها على كامل أراضي الدولة الجديدة.  

ومن ضمن السيناريوهات التي يحذر منها الخبراء في الشأن السوداني إثر الحرب الدائرة الآن، بين الجنرالين عبد الفتاح البرهان وحميدتي، أن  ينقسم السودان عمليًا إلى ثلاث أو أربع دول جديدة؛ السودان، ودارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق.

وسط هذا الكم من الصراعات والانقسامات الهائلة، يبقى وضع مصر مميزًا نسبيًا، ذلك المربع المكون من مليون كيلومتر ومنذ آلاف السنين تحكمه دولة مركزية. لا شك أن البعض سيشير عن حق إلى التفاوت في التنمية والحداثة بين أقاليم مصر المختلفة لدرجة أن الأقاليم تصف العاصمة القاهرة بـ"مصر" كأنهم ينتمون لدولة أخرى، وكذلك تجاهل الحقوق الثقافية التي تميز أقليات كأهالي النوبة والصحراء الغربية وسيناء. لكن فكرة الدولة المركزية التي تمتلك القوة الكافية لبسط سيطرتها على مناطق شاسعة قائمة وقوية منذ زمن طويل.

ميدان التحرير 2011

وعندما كان البعض هنا يحذر من أن ثورة 25 يناير قد تدفعنا إلى مصير سوريا والعراق واليمن وليبيا، فإن الدفاع في الواقع كان عن الدولة السلطوية القوية وما تتمتع به من نفوذ وثروة، وذلك لأننا لا ولم نمتلك بذور الانقسام القائمة في الدول المجاورة من انقسامات عرقية وطائفية. ما يهددنا بالفعل هو الفقر والتفاوت الطبقي الواسع في مستويات المعيشة، وليس احتمالات الانقسام والتفكك.

ما يحمي الدول وبقاءها هو العدل واحترام حقوق شعوبها، وليس الاسم الرسمي للدولة أو تعريف النظام لهويتها. حما الله مصر وشعبها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.