آنسبلاش برخصة المشاع الإبداعي
سبح

أدين لتدين أسرتي المرن

منشور السبت 29 أبريل 2023

في مراحل عمري المختلفة، وربما حتى الآن، ظل مفهوم التدين، أو الإيمان نشطًا، يتحدد وسط مساحة واسعة من التحولات الشخصية، بين الالتزام الشديد، والتحلل الشديد، بين التجريد والتجسيم، بين الممارسات الرمزية والطقسية.

أدين لتدين أسرتي المرن، الذي سمح بخروجات وتقاطعات مع الدين دون الخوف من العقاب. "تدين مرن"، أو يمكن تسميته إيمانًا كليًا يحوط هذا الشكل من التدين. إضافة إلى أن جوهر حياة أسرتنا كان يقوم على حكايات، ربما تحمل سمة الوعظ، أو النهايات الحزينة، كأغلب حكاية أمي، التي كانت تختصر الزمن الذي حدث فيه التدهور لأبطال الحكاية، سواء كانوا أبطال حكاية عائلتها، أو أبطال الحكايات الدينية. لكن نموذج/قالب "الحكاية" ذاته، فتح الطريق ليدخل أبطالها في حياتي، وحولهم هالات من التعاطف. نوع من الإيمان المفتوح، بالآخرين، بعد أن كنت متعاليًا عليهم، أو لا أضعهم في هذه المكانة.

كانت حكايات أمي الدينية لا تفرق كثيرًا عن حكاياتها عن أبطال عائلتها، في الحالتين هناك أبطال يتعرضون لمواجهات قاسية في حياتهم، لكنهم ينجحون، وربما لا ينجحون، بعد أن تخلف هذه المواجهة جرحًا في عمق شخصياتهم، لا يندمل طوال حياتهم، فزمن هذه المواجهة استنفد عمرهم كله، أما زمن الاستمتاع بالنجاح فقد أصبح قصيرًا.

كانت حكاياتها، بتساميها، ومواعظها، وانكساراتها، وحزنها العميق، ودون أن أدري، هي الحد المتماهي بين الدين والحياة، بين الماضي والحاضر. كانت المدخل لقالب الحكاية القديم والموروث في الأساطير، والأديان، وربما يسبقها، لذا أصبح له ذلك العمق الزمني والروحي المقدس الذي يتماس مع جوهر الأديان، التي نشأت بدورها، على تلك "الحكايات". ربما أي قالب حكائي يمكن أن يستوعب نوعًا خاصًا من الإيمان والتدين، وأهم ما فيه أنه شديد الصلة بذكرياتنا الشخصية.

التمرد نوع من الإيمان العكسي، بعدها يأخذ الإيمان شكلًا نقيضًا لهذا التمرد ضد السلطة

المجتمع يتخلى عن حكايته

هذا "التدين المرن"، الذي نشأت عليه، لم يكن نهاية المطاف، مع الوقت بدأ يُظهِر تناقضاته الداخلية، كونه مزيجًا بين أكثر من شكل، وفي الوقت نفسه كان المجتمع يتعصب بدوره في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ويجنح للتخلي عن ثوابته، أو التي كنت أخال أنها ثوابته، مثل التسامح، والمسؤولية الشخصية وليس الجماعية، لكل منا أمام الله، بجانب الحب، حتى لو أخذ منحى أخلاقيًا أو متشددًا، كلها كانت جزءًا من حكايات المجتمع، وحكايات عائلتنا بالطبع.

تخلى المجتمع عن "حكايته الشخصية"، فأصبحتُ شديد النقمة على أي نظام أو سلطة كلية سواء كانت متمثلة في دولة أو أب أو دين أو عمل. بسبب هذه النقمة، اكتشفت الطريق إلى "التنوير" بشكله التقليدي الذي لا يعترف بالتابوهات، ويقف على طول الخط ضد السلطة، لأنها السبب في ذلك الوضع المتخلف الذي وصلنا إليه كشعب وكأفراد.

كنت أقف وقتها بعيدًا بمسافة عن نفسي، وعن المجتمع، لا أريد منه شيئًا. ربما هذه المسافة هي التي سمحت بتصلب مخيلتي. لم أكن أدري بأن هذا الرفض نفسه يقوض الحكاية الشخصية المرنة، ويحولها إلى حكاية سياسية متصلبة، ذات بعد واحد.

سيولة تضرب كل قيمة ثابتة

كنت أبحث عن مكان جديد يقع بين تديني المرن، الذي ورثته من العائلة، وبين حالة التطرف التي تلبستها، ورفضي لفكرة الدين والسلطة. ظل هذا الموقف لسنوات، والغريب أننا يمكن أن نعيش ونقضي عمرنا والتناقضات بداخلنا، ودون أن نلحظ أعراضها الجانبية على حياتنا وضمائرنا.

في التوقيت ذاته سقط جدار برلين، وسقط معه أحد القطبين العالميين، مما أدى إلى وضع عالمي سائل. سيولة تضرب كل قيمة ثابتة، مما سمح بهامش حركة منحنى القوة لأنقد ذاتيًا هذا الشكل من "التنوير" الذي اعتمدته طريقًا للخلاص في حياتي.

لكن قالب "الحكاية" صمد أمام هذه السيولة، بل زاد الاستعانة به كمكان لتفريغ الذكريات، والبحث في الماضي. كان بمثابة أيديولوجية واسعة، أصبحت جاهزة لتضارع في الظل أي أيديولوجية كلية أخذت تتوارى في تلك اللحظة.

التمرد نوع من الإيمان العكسي

ربما يتشكل أي إيمان تبعًا لمكوناته المتناقضة، ولتحولات المجتمع من حوله، فيأخذ أشكالًا عدة. لأن هناك إيمانًا، أو شكلًا كليًا، لصياغة الحياة والموت، يتضاءل فيه دور الإنسان، فكان لا بد من حضور النقيض، وهو التمرد على هذا الشكل الكلي، ويأخذ هذا التمرد منحى فرويديًا ضد الأب والسلطة.

أعتقد أن هذا التمرد نوع من الإيمان العكسي. بعدها يأخذ الإيمان شكلًا نقيضًا لهذا التمرد ضد السلطة بشكل عام، كأنك تعقد عقدًا مؤقتًا مع السلطة، لأن هناك مجتمعًا و"حكاية" ينتظران وراءها.

عندها تتولد صيغ جديدة وطازجة لإيمان، غير ثوري، يعترف بأشكال عدة من السلطة. وفي الوقت نفسه، في رحلة رفضه، نفض عن كاهله أشكالًا طقوسية من الرفض، فصار إيمانًا مفتوحًا مجردًا، مشحونًا بالعواطف وجاهزًا للتماهي مع الآخرين. ربما من هنا بدأت أسرد حكايتي الشخصية، عندما بدأت أرى نفسي مكان الآخرين، والعكس.

في كل تحول كان إيماني يكتسب وجهًا جديدًا، فكل تحول مررت به أخذ جوهرًا من هذا النقيض المُتخلى عنه، وصار الإيمان في النهاية عبارة عن كتلة متشابكة من الأضداد. والأهم أنه لم يعد يخلق ذنوبًا أو عقابًا أو انحيازات ضد أحد، أو سلطة.

ربما يكون، في ظاهره، إيمانًا رأسماليًا، أو ممزوجًا بحس يساري بسبب دخول حكايات المهمشين كجزء لا يتجزأ من صورة الآخر، ويتصالح مع السلطة بشكلها المجرد، ولكن السلطة هنا أيضًا ليست بوجهها السلطوي المعهود، بل بوجهها الوجودي الذي يحفظ ميزان الحياة.

نثبت، نحن البشر يومًا بعد يوم ولاءنا لله في نشر الإيمان عبر شكوكنا وتحولاتنا

عندما حركت الحكاية رغبة السفر

في نهاية التسعينيات بدأت فكرة "الحكاية"، تتضح في مجلة أمكنة، التي صدر العدد الأول منها سبتمبر/أيلول 1999. كان قالب "الحكاية"، شكلًا ومحتوى، جزءًا أصيلًا من جوهر المجلة، وتماسها مع أكثر من حقل معرفي، خاصة حقل الأنثروبولوجيا. الحكاية تجسدت عبر المفهوم الشخصي كسيرة تحول بين عدة أزمنة، أو بارتباطها بالتاريخ الجمعي، كسيرة تحول لرموز اجتماعية وفكرية. هذا الرصد جعلنا نهتم بعنصر المكان، والتحولات التي حدثت فيه، سواء لرموزه البصرية الظاهرة، أو لرموزه الباطنية للعائشين به.

استخدام قالب الحكاية وسماعي لحكايات الآخرين، جعلني أعيد النظر في موقفي التنويري تدريجيًا، لأن هناك آخرين كانوا غير ممثلين سواء في الثقافة، أو في مخيلتي الشخصية، على الرغم من أنه كان هناك آخرون ممثلين داخلي وبقوة في حكايات أمي، سواء الدينية منها، أو الدنيوية كالشاطر حسن وست الحسن والجمال وعلي بابا، وغيرها من الحكايات.

كان هناك رغبة، في المجلة، في استعادة نسخة جديدة من أبطال الماضي، لكن دون بطولة، ربما بطولتهم هي تحايلهم على الحياة واستمرارهم فيها بهذه الثوابت النفسية، التي يملكونها والتي تربطهم بأبطال الماضي، من نزاهة، وحب العمل، ورغبة في تنمية الحياة وازدهارها.

حركت الحكاية والبحث عنها، رغبة السفر، فداخل أي حكاية هناك نقلات وأسفار. دون السفر تصبح الحكاية متجمدة. هناك عوليس، والسندباد، وأي مغترب يبحث عن حقيقيته يفكر في السفر بعيدًا. في السفر، يتجسد أبطال الحكاية، ولا يعودون رموزًا فقط. تقابل الناس وتسمع لهم ويسمعوا لك. هناك احتمالات أكبر لتغيير خط السير باستمرار، وبدلًا من أن يكون هناك طريق واحد له، يتحول إلى متاهة، تفقد نقطة الخروج ونقطة الوصول ليطول السفر ويطول معه زمن الحكي. كل هذه المسافات والحكايات التي سمعتها، في أسفاري، كانت تملأ مكان الإيمان بداخلي، الذي أصبح مشبعًا، أصبح إيمانًا جغرافيًا مجسمًا، يتعدي الإيمان الرمزي المجرد الذي بلا مكان.

الإيمان في ثوب تاريخي

جعلتني هذه "الحكايات الصغيرة" للناس، أستبعد، ولو مؤقتًا، كل سلطة مستحيلة، غير قابلة للقهر، باتجاه سلطات صغيرة تتخلل الحياة والنفس، يمكن أن نتصالح معها دون أن تقهرنا، بل يمكن أن نحقق فيها الانتصار.

لم تكن الحكاية بمفردها، ولكن ارتباطها أيضًا بالفكر الأسطوري الذي يعتبر مخزنًا لذاكرة جمعية. الأسطورة تملك حس إيمان غير منظم، ولكن به مفهوم المعجزة، أو الأمل، وهو ما كنت أحتاجه لأخرج من هذه الدائرة الجهنمية للعقل.

بدأت أنظر نظرة أسطورية للحياة وللناس ومعجزاتهم الشخصية. تحولت الأسطورة بشكل ما إلى نظام بديل أهم ما فيه هو إمكانية تحقق المعجزة. أدخلت الحكاية/الأسطورة الإيمان في ثوب تاريخي، ربما له جانب ميتافيزيقي، ولكنه ناتج من تداخل مصائر وليس أوامر تأتي من سلطة عليا قاهرة. ربما كنت أنقي ثوب الأب الحقيقي والرمزي، من الشوائب، عبر هذه الرحلة.

رغم الغموض المعرفي الذي يشوب الحكاية/الأسطورة، فإنها أعادت لي حكايات الماضي، وحولتني من حالة الإنكار الديني، التي كنت أعيشها، إلى مرحلة الإيمان المرن، بدون خيانة للعقل. ليس بالطقوس ولكن بالإيمان بالآخرين الذين يشغلون هذه الحكايات، فهذا المجتمع الذي كنت أرفضه وأرفض أشكال تدينه صار له وجه آخر، صارت له حكاية ليس جوهرها فقط الدين، ولكن الحياة وطرق التحايل عليها من أجل الاستمرار وإثبات الوجود.

لا إيمان دون شك

ربما لا يوجد إيمان دون شك، ألّا تُخضع وجودك لفكرة واحدة، مهما كانت قوتها أو سلطتها، فهذه الفكرة لن تمنحك الأمان إلا بعد أن تتجاوزها، وتعدد صورها داخلك، عندها فقط سيتوارى الشك أو النقد، خلف هذه الإزاحات التي قمت بها.

كان إيمان والدتي لا يقبل الشك، ولا النقد، ولكن دون أن تدري، كان حبها للآخرين وتضحيتها من أجلهم يجعل لإيمانها أوجه كثيرة ومتعددة، جعله إيمانها متماسكًا وصلبًا، حتى قبل وفاتها بقليل، بعد أن استنفد كل تناقضاته الداخلية، فتحول إلى شك صاف، كأنها بداية دورة جديدة لتجديد وتحول هذا الإيمان إلى مرتبة وجودية أعمق.

نثبت، نحن البشر، يومًا بعد يوم، ولاءنا لله في نشر الإيمان، عبر شكوكنا وتحولاتنا. لولا هذا لتفتت الإيمان بسبب ثباته داخل العقل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.