كسر التورتة قبل عمليات البيع- تصوير صفاء سرور

كسر الجاتوه وبقايا الفنادق: حيل مصرية تواجه الفقر القياسي

منشور الثلاثاء 17 أبريل 2018

في سوق الثلاثاء الأسبوعي بالمرج، وقفت العجوز فوزية علي، أمام أوعية "الكرشة والمُمبار" الموزّعة بين اﻷرض وطاولة، تُجادل بائعها في الأسعار. تُراقب السيدة الستينية الميزان، وتطالب البائع بـ"حتت حِلّوة" من أحشاء الذبيحة، خيارها لمائدة ليلة الإسراء والمعراج، "الموسم" الذي يجمعها بـ12 فردًا آخرين، هم أبنائها وأحفادها، في "عزومة" بما لا يُخالف حدود ميزانيتها الشهرية.

في منطقة شعبية أخرى، هي اﻷميرية، كانت الشابة منار تستعد لمغادرة منزلها لبيع "كسر التورتة" الذي تشتريه بالكيلو من مصانع الحلوى، لزبائن وجدت طريقها إليهم عبر فيسبوك، بعد أن اضُطرت للتحول من ربّة منزل إلى أُم عاملة، قبل حوالي 11 شهرًا.

ما اضطُر منار للعمل، هو ما يَضطر زبائنها لشراء حلوى غير لائقة للعرض في المحال الكُبرى، وهو نفسه ما يضطر فوزية للجوء لسوق شعبية لشراء "الأحشاء"، السبب واحد، المصاعب المادية التي تحيق بقطاع واسع من المصريين، بدرجة بلغ معها الفقر مُعدلات قياسية؛ وامتد تأثيره حتى لوجباتهم الغذائية، التي يأتي بعضها من دعم حكومي سيشهد تغييرات خلال الفترة المُقبلة.

وأعلنت الحكومة المصرية، أمس الاثنين، في إطار كشف البيان المالى لمشروع الموازنة العامة للدولة 2018/ 2019، خطة لزيادة عدد المستفيدين من دعم رغيف الخبز ودقيق المستودعات إلى 78.6 مليون مواطن مقابل 76.8 مليون فرد حاليًا، يوفي مقابلها تخفيض عدد المستفيدين من دعم السلع التموينية إلى 69 مليون مواطن مقارنة بحوالي 71 مليون فردًا حاليًا. 

سوق البدائل

"لو عليّا اشتري لهم أحسن حاجة، لكن اللحمة بكام دلوقتي؟" تسأل فوزية، قبل أن تَردّ بنفسها "العين بصيرة والإيد قصيرة، والحلويات اللي اشتريتها دي، أرخص من كيلو لحمة بلدي ولًا فرختين هجيبهم ومش هيكفونا".

في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعلنت شُعبة القصابين بغرفة القاهرة التجارية أن مبيعات اللحوم البلدية تراجعت بنسبة تتعدى 50%، نظرًا لزيادة أسعارها بنسبة 30% منذ تحرير سعر الصرف، نتيجة تضاعف أسعار الأعلاف.

مع الارتفاع المُضطرد ﻷسعار اللحوم، جرّاء التعويم مُنذ بدأت أولى موجاته عام 2003، وما نجم عنه من ارتفاع في مُعدلات التضخم، بدأت أنواع أخرى من اللحوم في الانتشار التدريجي في مصر، لاسيما الأسواق الشعبية، مثل أحشاء الذبائح (الكبد، والكرشة، والمُمبار) أطراف الذبائح والدواجن، وهي المواد الغذائية التي تأتي على رأس ورادت مصر من دول مثل البرازيل والهند.

تعد "اﻷحشاء واﻷطراف" من الممنوعات في أسواق دول الجوار مثل السعودية، لكنها في مصر تصنّف من اﻷغذية الرئيسية، إذ قدّر الجهاز المركزي للتعبة العامة والإحصاء، ما استوردته مصر في الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2016، من أكباد بقر مجمدة بقيمة مليار و968 مليون جنيه تقريبا، وأحشاء وأطراف ذبائح مُجمّدة بقيمة 667 مليون و195 ألف جنيهًا.

الأحشاء ليست الأغذية الوحيدة في قائمة استهلاك فقراء المصريين، الذين أعلن جهاز الإحصاء عام 2016 أن نسبتهم بلغت وفقًا لإحصائه الأخير  27.8% من السكان، فمعها "هياكل وأرجُل الدواجن"، التي اعتاد بائع الدواجن بسوق اﻷميرية إبراهيم حلمي، وغيره من "الفرارجية"، توفيرها لبسطاء الزبائن.

يقول إبراهيم، الذي لتوّه اختتم يوم عمل لم يكن على ما يُرام، كما بدا من تكدّس الدجاج في الأقفاص، "الفرخة البلدي النهارده بحوالي 39 جنيه والبيضاء بحوالي 25 جنيه الكيلو، ففيه ناس غلابة بتيجي تسألني على الهياكل، تاخد كيلو بـ10 جنيه، لو مفيش بتضطر تشتري أجنحة، الكيلو بـ18 جنيه صحيح لكن بتوزع كتير للعيال، أما الغلابة قوي فبيسألوا على شوية رجول (أرجل الدواجن) يطبخوها".

 

سوق اﻷميرية- تصوير المنصّة

في مارس/ أذار 2018، انشغل الرأي العام بالحديث عن الدجاج الذي يُباع في منافذ عامة بسعر 17 جنيهًا للدجاجة، لم يخلّ الأمر بالطبع من الشك في صلاحيتها ومصدرها، إلى أن أعلنت وزارة التموين سلامة الصفقة، ثم قال المتحدث باسمها أن استيرادها تم بمعرفة "أجهزة سيادية في الدولة تابعة للقوات المسلحة".

وتكشف تلك الصفقة مظهرًا آخر للفقر، يحكي عنه إبراهيم، قائلاً "فيه الزبون اللي مش قادر يجيب فراخ بلدي أو بيضا؛ فبيروح يشتري فرخة من العربية اللي تبع الوطنية، وبيمشّي حاله. وفيه زبون تاني بييجي ياخد الفرخة ومعاها هياكل كمالة للطبخة، أو اللي بياخد الفراخ شُكُك، يدفع جزء من تمنها ويأجل الباقي لما يقبض".

قد يكون في التصنيفات التي حكى عنها بائع الدجاج، انعكاسًا لما تقوله الأرقام الرسمية عن فقر بلغ عام 2015 مُعدلاً قياسيًا، إذ أنه اﻷعلى في اﻷلفية الجديدة، ومعه أعلن الاتحاد الأوروبي عام 2016 تخصيص 380 مليون يورو لمحاربة الفقر في مصر، والذي قد يرتفع مستوى خطه الرسمي للضعف تقريبًا، من 482 جنيها إلى 800 جنيه شهريًا، بحسب توقعات رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في حوار أجري معه بعد 6 شهور من قرار التعويم.

سوق وتموين

المُعضلة ليست في اللحوم والدواجن وحدها، فالمواد الغذائية اﻷخرى صارت عبئًا على فوزية، التي قالت للمنصّة بينما تتجول في سوق المرج، إنها تتبضع منها بسبب تعدد الاختيارات بين الطازج ونصف المعطوب؛ ما يمنحها بدائل أسعار تُناسب ميزانيتها.

بالنسبة لفوزية، فإن السوق يسدّ جزء من احتياجاتها الغذائية، أما الجزء الآخر فتعوّل فيه على بطاقة التموين، التي تُمَكّنها من الحصول على الأرز والزيت والسكر "طبعًا مش أحسن حاجة، بس اهو أرحم من الحُرّ (بضائع المحال الخاصة)" تقول السيدة التي تحصل بالبطاقة أيضًا على أرغفة خُبز مُدعّمة، كانت في سنوات سابقة مُحركًا لمعارك أسقطت قتلى أمام المخابز.

عرفت مصر نظام الدعم الغذائي عام 1941، وفقًا لما ذكرته دراسة صادرة عن الجامعة الأمريكية عام 2015، عددّت مُشكلات كانت تُحيط بنظام الدعم السابق- غيّرته الحكومة في مارس/ أذار 2014- كان أبرزها "تسرّب الدقيق المدعوم للسوق السوداء، ورداءة مستوى السلع، وحرمان قطاع كبير من مستحقي الدعم من الاندراج في قوائمه".

في ظل النظام الجديد للدعم، بلغ عدد المستفيدين ببطاقات التموين والخبز حوالى 79 مليون شخصًا، وعدد المستفيدين ببطاقات التموين حوالي 70 مليون مواطن، وفقًا لتصريحات وزير التموين علي المصيلحي عام 2017.

لكن دراسة أممية، رصدت أسعار الغذاء في مصر في الفترة من 2004 إلى 2008، حذّرت من أن "زيادة أسعار الغذاء وارتفاع معدل انتشار الفقر؛ سيُزيد الاعتماد على الأطعمة المدعومة، خاصة الخبز، كمصدر غذائي مُتاح؛ ما سيكون له تأثير كبير في تقليل استهلاك المنتجات الغذائية الأخرى، خاصة البروتين الحيواني والفواكه والخضروات؛ مما سينجم عنه مخاطر صحية، أبرزها ارتفاع الإصابة بالسِمنة وارتفاع مُعدلات الجوع الخفي".

وفي عام 2013، أفادت مُذكّرة صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "فاو"، تحت عنوان "التصدي لانعدام الأمن الغذائي في مصر في وقت التحوّل"، بأن "تزايد الفقر أدي إلى اعتماد مفرط على اﻷغذية الرخيصة والتي تتسم بشكل عام بكثافة السعرات الحرارية مع محتوى غذائي محدود، بما في ذلك السلع اﻷساسية المدعومة".

أضافت المُذكّرة أن "بيانات بحث الدخل واﻹنفاق والاستهلاك، تُشير إلى أن حوالي %35 من المصريين يعانون من ضعف تنوع النظام الغذائي"، وأن "هناك علاقة ترابط قوية ما بين الفقر وضعف تنوع النظام الغذائي".

وفي عام 2015، كشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة والأمومة "يونيسف"، أن نسبة زيادة الوزن والسِمنة بين اﻷطفال والمُراهقين المصريين في الفئة العُمرية من 5 لـ19 سنه، كانت بواقع 35% زيادة وزن و10.5% سِمنة بين الذكور، و36.4% زيادة وزن و9.5% سِمنة بين الفتيات. أما معدلات الإصابة بالأنيميا في هذه الفئة فكانت  17% بين الذكور و20.9% بين الإناث.

كسر تورتة

"حلويات غربية وشرقية فيها غلطات في الشكل، وماينفعش الشركة تعرضها في محلاّتها"، تلك هي بضاعة منار أحمد، التي دفعتها الحاجة للعمل منذ عام مضى تقريبًا؛ فاختارت هذا المجال، ولها في ذلك أسبابها "ما هو دلوقتي مش كلنا بنقدر نشتري حلويات".

يدعم قول منار في صعوبة شراء الحلوى بالنسبة للأسر، ما كشفته مُذكرة فاو 2013 تلك، عن خيارات الأسر المصرية الفقيرة ومحدودة الدخل أمام الظروف المعيشية الصعبة، وكان منها "الاعتماد المُتزايد على اﻷغذية اﻷقل تكلفة وخفض استهلاك اللحوم والدواجن واﻷسماك، والاقتراض من أجل توفير الغذاء، وتقليل حجم الوجبات".

بأسعار تتراوح بين 25 و35 جنيهًا للكيلو، تشتري منار الحلوى "كسر"، مُعبئًا في أكياس بلاستيكية، فتبيعها بأسعار بين 35 و45 جنيهًا، بعد أن تُعيد توزيعها في أطباق مُغلّفة حسب الطلبات التي تتزايد في رمضان وإجازات المدارس "الضغوط بتخفّ عليهم؛ وبيبقوا عايزين يأكّلوا عيالهم حاجة حلوة. العيشة صعبة، ومش هيروحوا يجيبوا جاتوه ولا تورتة شعبي بـ70 جنيه أو النوع ده بـ120 ولاّ 140 جنيه".

عيسى حسانين، الذي يعول 3 أطفال من عمله كفني للستائر، كان ممن لجأوا لكسر التورتة ﻷنها "حاجات حلوة من أماكن معروفة، بتبقي طازة وجميلة، والحلويات الشرقية بتبقى مليانه مكسرات غالية، وفيها توفير"، يقول الأب الذي يعتمد سياسة البدائل مع سلع أخرى كالملابس، التي يحصل عليها من الأسواق الشعبية بأسعار أقل، بسبب عيوب التصنيع.

"بجيب الطقم الداخلي أو الشرابات (الجوارب) بأقل من نُص التمن لمجرد وجود غلطة بسيطة في الخياطة مثلاً. على فكرة أنا مش بجيب مستعمل، بجيب جديد، بس إما بيكون فضلات أو فرز تاني"، يقول عيسى الذي يتوقف تعامله مع اﻷسواق الشعبية عند هذا الحد "مش بثق فيها بالنسبه للمواد الغذائية".

.. وفُتات فنادق

على العكس من عيسى، تعتمد أم أحمد على ما توفره لها سوق المُنيرة بإمبابة من أغذية، لا تقتصر على الخضروات والفواكه واللحوم، فمنها أيضًا تشتري السيدة بقايا وجبات الفنادق، التي تفترش بها بائعات اﻷرض، وتتنوع بين "أطراف جُبن رومي مبشور، وكسر مخبوزات وحلوى، ولحوم باردة" اختلطت روائحها جميعًا؛ فولّدت رائحة تنم عن مدى رداءة البضاعة، والتي لم تمنع السيدات من التزاحم عليها، وبينهن مَن اصطحبن أطفالاً ينظروا بسعادة إلى ما في الأكياس البلاستيكية الضخمة من فُتات تورتة وجاتوه.

"بدأ سوء التغذية المزمن في الارتفاع بين اﻷطفال المصريين، منذ عام 2003، وبحلول عام 2008 تقزّم أكثر من ثلث اﻷطفال المصريين. ومنذ ذلك الحين، ظل سوء التغذية مرتفعًا"، هكذا رصدت "فاو" في مُذكرة 2013، كما أفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة والأمومة "يونسيف"، في بيان حقائق صادر عنها عام 2016، بأن مصر من بين أعلى 20 دولة في العالم في مُعدلات إصابة اﻷطفال بسوء التغذية المُزمن.

وتشير بيانات يونيسيف لعامي 2014 و2015، إلى أن 21% من أطفال مصر في الفئة العمرية أقل من 5 سنوات مُصابين بالتقزّم، وأن المصابين بالهُزال في الفئة نفسها تُقدر نسبتهم بـ8%، وهما العرضين الناجمين عن سوء التغذية.

 

معدلات التقزم والهُزال بين الأطفال المصريين أقل من 5 سنوات

ترفض بائعات "البقايا" الحديث عن بضائعهن غير الطازجة، بينما تقول أم أحمد، صاحبة اﻷطفال الأربعة، وهي تحمل في يدها نصف كيلو "سوسيس" اشترته للتو منهن "زيي زي غيري، في اﻷول كنت بخاف (اشتري منهم)، بس لقيت جيراني بياكلوا منه (بقايا الفنادق) وماحصلش حاجة؛ فبقيت اشتريه علشان أرخص من المحلات، ولما بروّح البيت بغليه في ميه سخنه وخل وليمون علشان النضافة".

بين "بقايا فنادق" تعالجها أم أحمد بالخل والليمون، وأطباق كسر تورتة يُسعد بها عيسى أطفاله، وأحشاء ذبائح تحتفل بها فوزية بـ"الموسم" مع الأحفاد، من بيوت الثلاثة وغيرهم من اﻷسر المصرية محدودة الدخل تظهر الحيل المعيشية وتتطور مع الوقت، لمواجهة فقر بلغ في مصر معدلات قياسية.