وعد دورنمات: صنع الفن حيثما لا يتوقعه أحد

منشور الثلاثاء 17 أبريل 2018

يقول الكاتب والمسرحي السويسري فريدريش دورنمات "كيف يستطيع الفنان أن يبدع في عالم متخم بالثقافة؟ لعل أفضل شيء أن يكتب روايات بوليسية، وأن يصنع الفن حيثما لا يتوقعه أحد. إن على الأدب أن يغدو خفيفًا، وألا يَزِنَ شيئًا بميزان النقد الأدبي المعاصر، فهذا هو السبيل الوحيد كي يكتسب وزنًا من جديد".

لخّصت هذه الجملة أزمة المبدع في ظل إنتاج ضخم تمتلئ به أرفف المكتبات مما كتبه السابقون، فاختار دورنمات كتابة الروايات البوليسية التي قد نظنها خفيفة تحكمها حبكة مشوقة تقوم على التحليل المنطقي للاكتشافات المدهشة في رحلة بحث المحقق عن الجاني، ولكن ما سيفعله دورنمات في هذا النوع من الروايات سيُكسب الأدب الخفيف وزنًا من جديد. 

تحاول رواية "الوعد" لدورنمات من ترجمة سمير جريس والصادرة مطلع هذا العام عن دار الكرمة استخدام الرواية البولسية في طرح الأسئلة وإثارة الإشكاليات. كيف يمكن لرواية بوليسية تعود القارئ على اعتبارها للتسلية أو التشويق أن تتحول إلى محكمة أخلاقية لما يمكن أن يفعله الإنسان في سبيل تحقيق العدالة، وهل هي حقا قابلة للتحقيق؟

أسئلة تجعل القارئ يطرح جانبًا أسئلته المعتادة حول من هو الجاني من أجل هذه الإشكاليات التي استطاع دورنمات عرضها من خلال شخصيات روايته الذين لا ينقسمون بين أخيار وأشرار ولكنهم بشر عاديون يخطئون وتتوه بهم الدروب في محاولاتهم المستمرة لإراحة ضمائرهم وحل لغز قتل طفلة صغيرة جميلة بوحشية.

إنه يبدأ روايته بحوار بين رجل شرطة وكاتب روايات بوليسية، لنجد أن دورنمات يكتب رواية بوليسية ليسخر فيها من طرق كتابة الرواية البوليسية وينفي وجود أدب خفيف أو ثقيل بل مهارة الكاتب هي ما تحدد قدرته على تحميل أي نوع أدبي ما يريده من أفكار وأسئلة، وهو ما سنجده في هذه الرواية وذلك الوعد.

وعد "متَّى" بطل الرواية، ووعد دورنمات أيضًا.

فتاة صغيرة تُقتل في بلدة بسويسرا، ويعد المخبر والدة الضحية بأنه سيعثر على الجاني. وبعد أن يعتقل مشتبه به والحكم بأنه الجاني، لا يقتنع المخبر بهذه النهاية ويتكون داخل ضميره وعدٌ أقوى بضرورة الوصل إلى الجاني الحقيقي، فينصب فخًا من خلال محطة وقود في موقع يتوسط أماكن وقوع الجرائم مستعينًا بأم وابنتها وينتظر أن يلتقط الجاني الحقيقي الطعم.

حسنًا، هل تظن أني أفسدت عليك حبكة الرواية البوليسية؟ لا تقلق، فالرواية بها العديد من الاكتشافات والمنعطفات في هذه القضية، فنحن بصدد رواية محمّلة بالقضايا والأسئلة التي تشغل دورنمات ومنها ما هو فلسفي أو يخص موضوع الكتابة في حد ذاتها، خاصة كتابة رواية بوليسية يتوقع القارئ أن تنتهى نهاية سعيدة بالعثور على القاتل بفضل ذكاء المحقق.

يشير دورنمات إلى إشكالية أثيرة لديه وهو صعوبة تحقيق العدالة من خلال القانون وجهاز الشرطة. فالجريمة تسبق تكوين أجهزة الشرطة في العالم، والشرطة تبقى في أحيان كثيرة عاجزة عن تحقيق العدالة، بالوصول إلى مرتكبي الجرائم، فضلًا عن تحقيق العدالة بمفهومها الأشمل، فعدم تحقق العدالة في المجتمع يدفع البعض للحصول على حقوقهم من خلال ارتكاب الجرائم، أي دائرة من القهر تؤدى إلى تحويل الضحايا إلى جناة والعكس.

الإشكالية الأخرى هي حدود استخدام الشرطة لقوتها مع الجمهور. على سبيل المثال إشكالية بين حل القضايا مع الحفاظ على خصوصية الأفراد وعدم انتهاك حقوقهم، كما في الإشكالية بين حرية الوصول إلى المعلومة ونشرها وحدود الأمن القومي، أن تؤدي الشرطة دورها بما لا يجور على حقوق شخصية ولا يحوّل الدولة إلى دولة بوليسية تنتفى فيها الضوابط الحاكمة لهذه القوة المقننة.

هذه الإشكالية أكد عليها دورنمات أيضا في مشهد سابق، فأهالي القرية –ولقسوة الجريمة البالغة- يحاصرون قوة الشرطة التي قبضت على المشتبه به، يريدون القصاص منه بأنفسهم، ولكن المخبر يعرض أن يسلمه بالفعل بشرط واحد –طالما أنهم سلبوا حق المحكمة في مقاضاته والحكم عليه- وهو العدل، فالجمهور لديه القوة لتحقيق القصاص ولكن ليس لديه المعلومات الكافية لتحقيق العدالة والاطمئنان إلى كونه الجاني بالفعل. 

ينتقل دورنمات إلى مستوى آخر في رحلته لتحليل إشكالية تحقيق العدالة من خلال الوصول إلى إجابة لحقيقة ما حدث وأسبابه، فيشير في صفحات من الرواية إلى أن أي هراء من الممكن أن يحدث فالحياة مليئة بالاحتمالات الخارجة عن التفكير المنطقي والعلاقات السببية التي يتبعها رجل الشرطة في محاولة الوصول للحقيقة.

بل إن حجم المعطيات التي نحصل عليها لا يمكن أن تمكننا من معرفة أي حقيقة على الإطلاق. فما نعلمه هو مجرد هامش بسيط من المساحة المضاءة مقارنة بهذه الغابة الشاسعة المظلمة من الاحتمالات اللامعقولة، وهذا كان الوعد الصعب الذي قطعه بطل الرواية على نفسه أثناء تحديه للمجهول؛ الوصول إلى الاحتمال غير المتوقع بعد اعتراف مشتبه به قد يكون هو الجاني أو قد لا يكون.

يستخدم تفكيره المنطقي في رمي طعم ليحصل على الصيد وقد يحصل على سمكته وقد يطول انتظاره، فيضيِّع حياته في احتمال قد يكون خاطئًا أو قد يقوده إلى الجنون، وقد يرسم خطة محكمة وفقا لرواية بوليسية ولكن تحدث الصدفة فلا يصل إلى النهاية السعيدة التي يثبت فيها صحة نظريته وينال الجاني عقابه كما يحدث عادة في الروايات البوليسية من بيان عبقرية المحقق وأن الجريمة لا تفيد.

لذلك كتب دورنمات على غلاف الرواية رثاء الرواية البوليسية تلك الرواية المحتومة بنهايات سعيدة بالقبض على الجاني وفق حبكة محكمة فيسخر من الحبكات وسط هذا العالم المعقد بما داخل النفس البشرية وأيضًا بالصدف التي قد تجعل من أي فرد مجرمًا أو ضحية محتملة.