الجنيه المصري- أرشيفية

 جيبك أم معدّل النمو: هل علينا تجاهل الأرقام عند الحديث عن الاقتصاد؟

منشور الأربعاء 18 أبريل 2018

خرج المذيع تامر أمين الأسبوع الماضي بعد احتفالات المصريين بشم النسيم، مسائلاً عن مصدر مليار جنيه اشترى به المصريون فسيخًا ورنجة خلال العيد، متجاهلًا أن نصيب المصري الواحد من هذا المليار لن يتعدّى 11 جنيهًا، كما رد عليه الصحفي جلال الغندور على صفحته الشخصية على فيسبوك.

محاولات التدليل على بذخ وترف الشعب المصري باستخدام أرقام ومؤشرات عامة دون تدقيق في الصورة الكاملة لأنماط الاستهلاك في مصر، ليست حكرًا على الإعلاميين وحدهم، فالحكومة بنفسها تستخدم الأرقام والمؤشرات للتدليل على نجاح برنامجها للاصلاح الاقتصادي وأهمية استمراره في عدّة مناسبات، آخرها مشروع الموازنة العامة للعام المالي القادم.

 

https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fgalal.elghandour%2Fposts%2F10212850454830314&width=500

نجحنا ونخطط للاستمرار في تحقيق النجاحات، والاستمرار في تحقيق النتائج الإيجابية مرهون باستمرارنا في برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي وضعناه منذ العام 2015. هذا الانطباع الأولي الذي يصلك بعد قراءة البيان التمهيدي لمشروع الموازنة العامة للعام المالي 2018/2019، والتي بدأ البرلمان مناقشتها هذا اﻷسبوع. تحسّن في المؤشّرات الاقتصادية بشكل عام؛ ارتفاع في الاحتياطي النقدي الأجنبي وتحسّن في معدّل النمو، وانخفاض في مؤشر البطالة، وإن كان هذا الانخفاض الذي استمر سنة كاملة لم يعد على علياء سامي، خريجة كلية التجارة بجامعة القاهرة، بالنّفع في محاولاتها لإيجاد وظيفة تناسبها.


اقرأ أيضًا: أزمة سكان أم أزمة تنمية.. لماذا لا يشعر المواطنون بالإنجازات؟ 


تخرجت علياء عام 2016، لكنها بدأت الاحتكاك بسوق العمل قبل تخرجها بعام. خلال ثلاث سنوات في ميدان العمل عبر وظائف مختلفة "اشتغلت خدمة عملاء ومبيعات ومساعد مدرس إنجليزي وتسويق إلكتروني"، كان المقابل الذي تحصّله متقلّبًا بحسب الوظيفة، يبدأ بـ 500 جنيه وحتى 1700، لكن الثابت أن راتبها لا يكفي احتياجاتها، خاصة بعد موجات الارتفاع المتتالية في أسعار السلع الأساسية والمواد البترولية خلال العامين الماضيين.

 

https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fmpmaregypt%2Fposts%2F2115920941758041&width=500

بطالة اجبارية

علياء واحدة من العاطلين بحسب الأرقام الرسمية، لكنها لم تختر هذه البطالة، فهي تريد إيجاد وظيفة مناسبة في مجال المبيعات، والذي يقع ضمن قطاع تجارة الجملة والتجزئة الذي خلق 40% من الوظائف خلال الفترة الماضية بحسب وزارة التخطيط، إلا أن ضعف الرواتب في هذا القطاع يجعل من الصعب عليها، وعلى غيرها، الاستمرار في أي فرصة عمل، مستشهدة بتجربتها السابقة في إحدى شركات التي عملت بها بعد التعويم "المرتب الأساسي كان 1300 جنيه وباضطر أركب مواصلات للشركة بس بـ 20 جنيه في اليوم، ده غير تكلفة اللف على العملاء اللي ماكنش طول الوقت على حساب الشركة، كل ده كان بياخد من مرتبي"، تركت علياء عملها بعد اليأس من تحسن وضعها، حاولت الحصول على عمل أفضل بعدها دون جدوى.

 

https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Falmanassanews%2Fvideos%2F1741209685918148%2F&show_text=0&width=560

يشكّل الملف الاقتصادي إحدى العقبات التي تواجه حكومة السيسي، كما واجهت كل الحكومات التي مرت على مصر، خاصة بعد التقلّبات السياسية التي واجهت البلاد وأثّرت على الاقتصاد منذ 2011. إلا أن إدارة الحكومة الحالية للملف تبقى محل جدل بعد مجموعة قرارات نتج عنها ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية والمواد البترولية وهو ما أسقط نسبة كبيرة من المصريين تحت خط الفقر، وأثّر بشكل مباشر على أنماط استهلاك المواطنين، حتى من ينتمون للشرائح الغنية، لكن ما يلفت الانتباه هو اهتمام هذه الحكومة ومؤيّدي سياساتها بالأرقام للتعبير عن "تحسن ملحوظ في الاقتصاد" مدللين بذلك على نجاح إدارتهم للملف. لكن هل الأرقام كل شيء؟

أستغنى عن إيه؟

هذا الإحساس بالنّجاح نجده واضحًا في بيان الحكومة التمهيدي لمشروع موازنة العام المالي القادم والذي يوضّح أن تحسّن هذه المؤشرات سيتبعه تعزيز الثّقة في برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي انهجته الحكومة منذ عام 2015 والذي أثمر عن نجاح لا تلمس له علياء أثرًا في قدرتها على إدارة ميزانيتها الخاصة.

تقول علياء "أطمح للاستقلال الاقتصادي عن أسرتي ما يعني أن أكون قادرة على تحمل مصاريفي الشخصية على الأقل. لكني كنت باقضّي أغلب الوقت اللي شغالة فيه باستلف من ماما"، تضيف "الناس في الظروف الاقتصادية السيئة بتستغنى عن الرفاهيات لصالح الأساسيات، لكن أنا بتعب عشان أوفر حاجات أساسية، ده غير إني في بداية حياتي ومحتاجة أأسس نفسي في كذا حاجة، فإيه اللي المفروض استغنى عنّه؟".

خلال العام الماضي، نشرت صحف تقارير عن تحسن رؤية المؤسسات الدولية للاقتصاد المصري، كما أن وزارة التخطيط نشرت على صفحتها الرسمية على فيسبوك هذا الشهر رسمًا بيانيًا يوضّح انخفاض معدل التضخّم إلى ما قبل التعويم، وهو العامل الأساسي وراء الارتفاعات الكبيرة في أسعار المواد الغذائية، إلا أن هذا الانخفاض لم يعد بالنفع على جيب إسراء أمان، وهي كاتبة بأحد مواقع التراث بالأسكندرية، والتي تعاني من أجل توفيق ميزانيتها مع مرتبها الذي لا يزيد عن 600 جنيه مصري.

 

https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fmpmaregypt%2Fposts%2F2140493815967420&width=500

التقارير الدولية في مواجهة إسراء 

تخرّجت إسراء عام 2015 من كلية الإعلام جامعة القاهرة، وتعيش في الأسكندرية، كان أول عمل لها في مجال العلاقات العامة بمرتب 500 جنيه، رغم ضآلة المرتب إلا انها كانت قادرة على توفيق ميزانتيها حتى لا تضطر إلى الاقتراض من والدها "كنت بمشي المسافة من الشغل للبيت وحددت مرات الخروج والفسح والدنيا كانت تمام"، تركت إسراء العمل لتنتقل إلى شركة ثانية وثالثة، لا يزيد راتبها بأفضل الأحوال عن 2000 جنيه، تقول إنها قررت خلال عام 2016 التفرغ لمجال الكتابة الذي تحبه، ما جعل مرتبها يهوي إلى 600 جنيه، نفس المرتب الذي بدأت به حياتها المهنية تقريبًا، لكنها لا تفلح في توفيق حاجتها مع هذا المبلغ "نفس الحاجات هي هي اللي بعملها، بس بدفع أكثر".

 

إسراء تجلس في أحد المقاهي الشعبية

قصّة إسراء تقول إنه على الرغم من أن الأرقام في البيانات الحكومية الخاصة بالتضخّم قد انخفضت، إلا أن هذا الانخفاض لم ينعكس بالإيجاب على ما تدفعه مقابل احتياجاتها الأساسية، تقول إسراء إنها صارت تقلل مصاريفها قدر ما تستطيع، ومع ذلك فإنها لا تشعر بأنها تفعل الكثير "بدل ما بقعد في كافيه نضيف بقعد على القهوة مع صحابي، أنا وأختي بقينا نروح نقعد في النادي بدل ما نتفسّح في مكان تاني، بس برضو متسوّحين".

يقول الباحث الاقتصادي عمرو عادلي إن الأرقام والمؤشرات المعبّرة عن الاقتصاد في دول العالم الثالث عادة ما تعوزها الدقّة "هناك الكثير من أنماط الاستهلاك والإنتاج لا يمكن التعبير عنها بالأرقام، إضافة إلى الاقتصاد غير الرسمي الذي يمثّل غالبية المعاملات في دول العالم الثالث".

لا ينكر عادلي إن قرار تعويم الجنيه في نوفمبر 2016 ، رغم ما صاحبه من ارتفاع كبير في معدلات التضخّم، ساهم بشكل كبير في استقرار وتوحيد سعر صرف الجنيه المصري "لكن هذا الاستقرار لا يعبّر بالضرورة عن استقرار في الاقتصاد"، يقول عادلي إنه لا يمكننا التثبّت من ثبات واستقرار سعر الصرف مع نمو قطاعات كالزراعة والصناعة في المستقبل.

المؤشر الآخر الذي يتم الترويج له كأحد علامات تحسن الاقتصاد المصري هو صافي الاحتياطي النقدي، والذي يعتمد بشكل كبير على القروض، فالاحتياطي الذي وصل إلى أكثر من 38 مليار دولار أغلبه عبارة عن ديون، وثلثه ديون قصيرة الأجل يتعيّن على الحكومة سدادها خلال عام واحد، كما أن الزيادة المتوقعة والتي تستهدفها الحكومة في مشروع الموازنة للسنة المقبلة لهذا الاحتياطي ناتجة أيضًا عن قروض جديدة ستسلّم إلى مصر، أهمها الشريحة الثالثة من قرض صندوق النقد الدولي.

يقول عادلي إن الاعتماد على الاحتياطي النقدي كعلامة تحسّن مرهون بقدرة مديري الملف الاقتصادي على استغلال هذا الاحتياطي في ضمان معاودة نمو القطاعات الاقتصادية المنتجة للوظائف مرة أخرى دون استنزاف له كما حدث في الفترة من 2013 وحتى 2015 حينما حصلت مصر على عدة قروض بشروط أفضل من قرض النقد الدولي، لكن، بحسب عادلي "تم استنزاف هذه الاحتياطي بشكل سيئ، مع تأخر قرارات اقتصادية عديدة كان يمكن اتخاذها بتكلفة أقل".

جيوبنا أم مؤشرات الاقتصاد

نشر البنك الدولي دراسة في العام 2015 عن سياسات خلق الوظائف في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تخلص الدراسة إلى أن التركيب الديموجرافي للدول في هذه المنطقة "تركيب شاب"، أي أن النمو السكاني يتركّز في الشرائح التي يمكنها العمل (17-35)، ما يزيد نصيب الفرد من الناتج المجلّي الإجمالي بنسبة 50%، إلا أن السياسات التي تحد من المنافسة في هذه الدول تجعل معظم الأيادي المنتجة مستَهلكةً في أنشطة صغيرة ومنخفضة الإنتاجية، وهو ما يجعل محصلة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ضئيل. 

يعتقد عادلي أن القطاعات غير المنتجة لوظائف أو منخفضة الإنتاجية هي خلقت الوظائف خلال الفترة الماضية. ذلك أن مشكلة البطالة في مصر مشكلة بطالة هيكلية، تتركّز في خريجي الجامعات وذلك بسبب عدم خلق سوق العمل لوظائف تستوعبهم، ذلك أن أغلب الوظائف التي يتم خلقها في مصر، ودول شمال أفريقيا عامة وظائف غير رسمية وضعيفة المردود، وهو ما يجعل أغلبهم يحجم عنها، يقول عادلي "أعتقد إن انخفاض مؤشر البطالة راجع إلى أن سوء الحالة الاقتصادية دفع كثيرين إلى القبول بأي وظيفة من أجل توفير عائد"، يتوافق اعتقاد عادلي مع نتائج دراسة البنك الدولي، والتي تؤكد أن مشكلة البطالة في جزء كبير منها يتعلّق بضعف معدّلات خلق الوظائف في البلدان التي مثل مصر. 

مع تحقيق نسبة نمو تتعدى الـ5%، وبينما تشير الحكومة المصرية إلى هذه النسبة كعلامة تحسّن للاقتصاد المصري، يرى عادلي أن هذه النسبة نسبة عامة، وأن ما يهم حقًا هي نسبة النمو القطاعي "أعتقد إن القطاعات غير الإنتاجية، كقطاعات الخدمات المالية وكل ما له علاقة بها هي القطاعات التي ولّدت هذا النمو، وذلك في ظل اعتمادها على إقراض الحكومة مع ارتفاع أسعار الفائدة والذي لا يشجّع أحدًا على الاقتراض سوى الحكومة". هذه القطاعات، إضافة إلى القطاع العقاري الذي توجه الدولة الاستثمار فيه بشكل كبير، قطاعات، بحسب عادلي، لا تحقق نموًا مستدامًا.

في عام 2017، لم ترتفع صادرات مصر الزراعية سوى 3% لتحقق 2.2 مليار دولار، مقابل 2.1 مليار في عام 2016، كما أن الإنتاج للصناعي زاد بالنسبة نفسها منذ يناير 2017 وحتى يناير 2018. في مقابل انتعاش لاستثمارات البنوك المصرية التي وصلت إلى 4 تريليون جنيه في سبتمبر/ أيلول الماضي. 

 

الإنتاج الصناعي في مصر من يناير 2017 وحتى يناير 2018

يفسّر عمرو عادلي اهتمام الحكومة المصرية بالمؤشرات وإبرازها راجع إلى إن السياسة القائم عليها صندوق النقد الدولي والتي تقوم على استقرار المؤشرات الاقتصادية كعامل مشجّع لجذب استثمارات خارجية أكثر للبلاد، وهو ما يتشابه وتوجّه حكومة نظيف التي ظلّت لما يقارب العقد تعتمد على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للبلاد من أجل تحقيق نمو للاقتصاد، وهو أمر يراه العادلي وتقرير صندوق النقد أمرٌ يخضع لعوامل من بينها وجود تشجيع حقيقي على الاستثمار من خلال توفير تسهيلات للشركات على أساس مساهتمها وأدائها في السوق دون محاباة.

يذكر التقرير أن أغلب سياسات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إزاء الشركات العاملة في السوق تنطوي على محاباة للشركات ذات الارتباطات السياسية، ما يحرم هذه البلدان في النهاية من خلق عدد كبير من الوظائف لاستيعاب الأيدي العاملة، وذكر التقرير أمثلة كتصاريح التشغيل الحصرية والاحتكارات لصناعات معيّنة، وذكر مصر على وجه الخصوص، كأحد البلدان التي يؤثر فيها الفساد وغياب نظم الحوكمة الرشيدة ومحاباة الشركات ذات الارتباطات السياسية على النمو الإجمالي للوظائف.

يتّفق عادلي مع نتائج دراسة البنك الدولي فيما يخص الحالة المصرية، فهو يرى أن الحكومة المصرية تقوم بإجراءات هامشية لتشجيع مزيد من الشركات المتوسطة والصغيرة على دخول سوق العمل، وهو ما أدي إلى زيادة هامشية في عددها، في وقت يعتبر هذا النوع من الشركات المنتج الحقيقي والأكبر للوظائف في أي اقتصاد، بحسب تقرير البنك الدولي.

"الشركات ديه ماعندهاش أي قدرة على الحصول على رأس المال المتمثّل في الأرض والأموال والمهارات، كمان عددها صغيّر جدًا، أغلب الشركات اللي عندنا هي شركات متناهية الصغر، وديه شركات أغلبها لا يعمل برأس مال حقيقي"، يقول عادلي، وهي متطلبات يرى احتياجها لإجراءات سياسية ذات أثر اقتصادي، وهو ما لا يراه يلوح في الأفق البعيد. الاهتمام الهامشي بهذه الشركات يؤثر بشكل غير مباشر على ما يمكن أن تحصل عليه إسراء أمان من مقابل لعملها.

الشركة التي تعمل فيها إسراء، هي واحدة من الشركات الصغيرة التي تنتج سلعًا، وهي قطاعات يؤكد عادلي تأثرها بالتعويم وما ترتب عليه من آثار، أهمها زيادة تكلفة الإنتاج، تؤكد إسراء في حديثها مع المنصّة أن ارتفاع تكلفة الإنتاج للمشروع الذي تعمل به، يجعل من الصعب عليها توقّع زيادة في راتبها تعادل احتياجاتها الحالية "في خطة لزيادة المرتب من 600 لألف في المستقبل بس مش أكثر من كده، صاحبة الشغل بتدفع كثير بالفعل من وقت التعويم"، تتفهم إسراء وضع صاحبة عملها التي تعاني، بحسب أمان، مع تكلفة التشغيل والعالية لمشروعها، خاصة بعد التعويم، إضافة إلى الضرائب وما على صاحبة العمل أن تدفعه للدولة.

يتطلب الوضع المادي لإسراء أن تعتمد على والدها لفترة طويلة، حتى تستطيع الوفاء فقط باحتياجاتها الأساسية، حتى مع كونها تعد، في نظر الإحصاءات والأرقام الرسمية ومؤشر البطالة للجهاز المركزي للتعبئة الإحصاء، فردًا عاملاً يعطي عجلة التنمية من مجهوده، ويأخذ مقابلاً لذلك.