إلى آخر الزمان: قصة حب بين شواهد القبور

منشور الأربعاء 18 أبريل 2018

تنام جوهر في قبر بجوار أختها لتتدرب على الرحيل. وفي غمرة استعداداتها للموت؛ تنشأ قصة حب بينهما وهما يستندان على شواهد القبور، تَبعث فيهما الحياة والألوان مرة أخرى

عادةً ما أتجنب مشاهدة أفلام تدور حول الموت، حتى لا أنجرف لنوبات اكتئابية. لكن في النهاية، أستسلم لغواية المشاهدة لا لشيء سوى التدريب المستمر على ما أتوقعه من فقد حتمي في المستقبل. هذا ما حدث مع الفيلم الجزائري "إلى آخر الزمان" الذي تدور أحداثه في مقبرة.

قدمت مؤلفة ومخرجة الفيلم الموت بشكل روتيني، تمامًا كغسيل الأسنان، وبشكل لا يخلو من الطرافة المربكة، تستدعي للذاكرة "الموت السعيد" لألبير كامو. الطرافة التي يحملها الفيلم رغم موضوعه -الموت- دفعتني للتواصل مع مخرجة الفيلم ياسمين شويخ لأعرف، لم اختارت تقديم فيلم كوميدي عن الموت. 

                         

الفنان جيلالي بوجمعة في دور علي، بطل فيلم إلى آخر الزمان

أوضحت ياسمين أنها لم تشأ تقديم الموت بصورة ساخرة، كما أنها لم تستهدف الحديث عن الموت بالأساس، إنما أرادت أن تحكي فقط عن الحياة بين القبور، وعن ذكريات الذين رحلوا وما زالوا في أذهان شخصيات الفيلم. عليّ، الشخصية الرئيسة بالفيلم يعمل حفّارًا للقبور. الموت بالنسبة له طقس يومي، فهو يعيش بين الموتى.

يعيش علي في بلدة جزائرية مُتَخَيّلة، ملونة بلون رمال الصحراء تسمى "سيدي بولقبور" (أبو القبور). مدينة  تغلب عليها لمحة أسطورية لا تعرف سوى الموت. فـ"سيدي بولقبور "وليَ صالح، تبرع للناس بأرضه ليدفنوا بها موتاهم، وأقيمت المدينة حول ضريحه وقُدّر لها أن  تكون مدينة للموتى. في المرة الأولى التي أقيم بها عرس؛ كان حدثًا استثنائيًا يستحق أن يكون حديث الناس "عُرْس في سيدي بولقبور؟"

خلفية ياسمين كأخصائية في علم النفس، جعلتها ذات نظرة مختلفة في تشريحها لعلاقة الناس بالقبور في المجتمع الجزائري. تحكي المخرجة لـ"المنصة"عن علاقة الجزائريين بالأولياء وأضرحتهم، تقول إنها علاقة قديمة. فالأضرحة أماكن روحانية تهوي إليها القلوب. فالوليّ معالج نفسي، يأتي إليه الناس بصدور مثقلة، مهمومة، ليستأنسوا بحضرته. أضرحة الأولياء ذات طابع إنساني وديني مختلف. كما أنها أماكن للقاء العائلات والعيش المشترك، والتقرب إلى الله. كل هذه الوظائف الدينية والاجتماعية يقوم بها الضريح في الموروث الجزائري. وهو ما يقترب كثيرًا من الثقافة والموروث المرتبط بأضرحة الاولياء والقديسين هنا في مصر. 

 

عُرس في سيدي بولقبور - من فيلم إلى آخر الزمان

الموتى مقدسون. أجسادهم مقدسة. ولا يُقبل الحديث عنهم بسخرية. ليس من السهل إطلاق النكات في مشهد  "غُسل وتكفين"، لكن هذا هو ما فعلته شويخ في فيلمها الحائز على جائزة عنابة للفيلم المتوسطي، والذي افتتح مهرجان القاهرة لسينما المرأة في دورته المنقضية. 

تعلِّق ياسمين "لم أكن خائفة". على العكس، أنا متطلعة للاشتباك مع الجمهور عند مشاهدته للفيلم وإن تصادم معهم. فالفيلم ينتمي لنوعية الدراما الكوميدية، "والمشاعر التي أبرزتها بالفيلم هي جزء من الحياة، الحزن والفرح والضحك هي الحياة نفسها، كيف ستكون حياة الإنسان في مقبرة؟ هو يعيش بين أناس مدفونون تحت الأرض لكنه مازال حيًا، له قلب ينبض له الحق أن يعيش ويحب، لا يتحتم عليه أن يموت مع الموتى لمجرد أن حياته بينهم".

إشكالية الموت، على حد قولها، ليست في كونه مخيفًا؛ ولكن في كونه حتميّ. وفي الوقت ذاته هو جزء من الحياة نفسها. تقول شويخ "أنا أتفهم جيدا الحذر في الحديث عن الموت لأن فقد الأحبة موجع، لكن الموت أصبح ضيفًا دائما على نشرات الأخبار وساحات الانترنت.. فلا مفر إذن من الحديث عنه". دور عليّ حفار القبور هو البطولة السينمائية الأولى للممثل المسرحي "الجيلالي بو جمعة". عليّ رجل ستيني نحيف البنية، يبدو غليظًا وخشن القلب من كثرة الاحتكاك بالموتى. كسواه من حفاري القبور، يحيا عليّ منبوذَا وحيدًا كونه يمثل للناس نذير شؤم، فمن يصادق رجلاً يقضي أغلب أوقاته يعتني بالموتى؟

تم الاتفاق بين ياسمين وبوجمعة على بطولته للفيلم بسهولة وفي جلسة واحدة. واستغرق التجهيز للشخصية عامًا كاملاً. تقول شويخ "عرضت الأمر عليه ووافق، بدأنا في رسم ملامح شخصيته، يحفر القبور، ويعتني بالموتى. وحيد بالضرورة، منبوذ، لكن إذا اقتربنا من ملامحه سنجده كأي إنسان يحب ويتنفس ويعاني".

تعرف مدينة الموتى، ويعرف عليّ الحب، حين تأتي سيدة خمسينية جميلة تدعى "جوهر" التي تقوم بدورها "كريمة عراس".

جوهر ماتت أختها حديثًا بعد حياة طويلة وحيدة في سيدي بولقبور التي هربت إليها فرارًا من عنف زوجها، لتعيش حياة من اختيارها حتى لو كانت في مدينة الموتى. ماتت الأخت وحيدة كما عاشت وحيدة، وتحاول جوهر استكشاف حياة أختها الراحلة، وتتحسس أثرها في مدينة القبور، تسأل عليًا من دفنها؟ يرد بلا اكتراث "المؤمنون"، تسأله من غسّلها؟ يقول "المؤمنات". تتأهب جوهر للموت هي الأخرى، فلم يبق لها شيء ولا أحد في الحياة، فتسأل علي عن مراسم الدفن والتغسيل المستقبلية لها، تنام في قبر بجوار أختها لتتدرب على الرحيل. وفي غمرة استعداداتها للموت؛ تنشأ قصة حب بينهما وهما يستندان على شواهد القبور، تَبعث فيهما الحياة والألوان مرة أخرى، ويقرران أن يعيشا سويًا إلى آخر الزمان.

 

علي وجوهر.. اختيار الحياة - من فيلم إلى آخر الزمان 

"الحب يمثل لي طريقا للحياة"، تقول ياسمين عن ثنائية الحب والموت. جوهر هي امرأة كتبت قدرها أختها التي هربت من زوجها، فأخضعها الناس للأحكام المسبقة. امرأة لا تنتظر شيئًا من الحياة، وعليّ حفَار القبور كذلك لا ينتظر شيئًا هو الآخر. يتقابلان بسبب موت أختها، ويجمعهما الحب الذي يغيّر توقعاتهما للمستقبل.

"منبغيش نموت وحدي والقطط ياكلولي عنيا".. واقع جوهر وأختها من قبلها: التعرض للعنف الزوجي، أحكام المجتمع والقيود الاجتماعية؛ هو واقع نابع عن مجريات الحياة لنساء الجزائر. تقول ياسمين أن المرأة في الجزائر مغبونة كما هي في كل مكان، "وفي الجزائر يوجد كل شيء؛ المرأة المستقلة بجانب المرأة التابعة. برغم كل شيء تحاول [المرأة الجزائرية] أن تجد فرصًا للتعلم والعمل، والحياة".

ياسمين المولودة في عام 1982، اختارت السينما رغم دراستها علم النفس. وهي من عائلة فنية فوالدها المخرج محمد شويخ، الذي مثلت معه وهي طفلة ذات خمس سنوات في فيلم القلعة عام 1987.

 أخرجت ياسمين فيلمين قصيرين هما " الباب" عام 2006، و"الجن" عام 2009، وشاركت بالأخير في مهرجان كان السينمائي، قبل أن تنفِّذ "إلى آخر الزمان"، فيلمها الروائي الأول، الذي رُشح لجائزة المهر الطويل لأفضل فيلم روائي بمهرجان دبي لدورته الرابعة عشر، ونال مؤخرًا جائزة الخنجر الذهبي في مهرجان مسقط السينمائي لدورته العاشرة.

 

المخرجة الجزائرية ياسمين شويخ 

عملت ياسمين في السابق مديرًا فنيًا لمهرجان "تاغيت" للأفلام القصيرة. تقول "تأثرت سينمائيًا بالعديدين". واتسعت خبراتها السينمائية خلال عملها بمهرجان وهران في الجزائر، فاحتكت بصناع السينما من كل مكان من الإمارات والعراق وفلسطين. لكنها تأثرت بشكل خاص بوالدها المخرج محمد شويخ، والمخرج المغربي محمد ولد سعيد، والمخرج الفلسطيني إيليا سليمان.

" نبغي نعيش معاكِ ولو تبقى ليلة في عمري" يقول علي لجوهر. في رواية "الموت السعيد" لألبير كامو، كان "رولان زاجروس" يرى أن السعادة تحتاج لوقت طويل كي تتحقق، ربما كان  الوقت إلى آخر الزمان كافيًا جدًا.