صورة متداولة برخصة المشاع الإبداعي
أم كلثوم من إحدى حفلاتها

أغنيات الست خارج ظلها: تنسى كأنك لم تكن

منشور الأربعاء 2 مايو 2018

في الموروث الشعبي لدينا يطلق الرجال على زوجاتهم لفظ "الحكومة" إسباغا لمعاني احترامها أحيانا والخوف منها في أحايين أخرى، على أنك تجد على جانب أقل دعابة أن الأنثى المصرية الوحيدة التي كانت تستحق لفظ الحكومة هي أم كلثوم، الحكومة بالمعنى الحرفي للكلمة، جملة وتفصيلا.

عاشت أم كلثوم الجزء الأكبر من حياتها في مكانة رفيعة المستوى، لا أحد يجرؤ على نقدها، ومن يفكر في ذلك يعلم حينها أنه يعادي ملايين من قياداتهم وصولا لعمالهم.مكانة تمحي تماما فكرة أن أهل الفن يحظون بالشهرة والأموال وحب الناس لكنهم لا يحظون بالاحترام الشعبي خارج دائرة الفن، أم كلثوم ما بعد الخمسينات وحتى وفاتها سيدة مصرية تقدر على الفوز في انتخابات رئاسة ضد أعتى رموز مصر السياسية عبر التاريخ.

شعبية أم كلثوم الجامحة هذه من الأمور المقتولة بحثا، لا ينكر فيها أي شخص فضل الست ذاتها من موهبة فذة ومجهود مضنٍ وثقافة متجددة وقدرة استمرارية بنفس القدر من الشغف للقمة لما يقارب الخمسين سنةً، لكن كل هذا لا يمنع بعض السرديات الواجبة.

عاصرت الست ملكين، فغنت في حضور فؤاد "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعَ.. ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعَ"، وأطربت في حضور فاروق "يعيش فاروق ويتهنى.. ونحيي له ليالي العيد"، ولكن حدث أن أنهى عدد من الضباط العصر الملكي، وأسسوا جمهورية. لا بأس، فالست تنشد "يا جمال يا مثال الوطنية".

وها هي أم كلثوم تحضر أعياد ميلاد أبناء عبد الناصر، وتحيي حفلات عيد الثورة بشكل لا ينقطع، تغني لجمال بعد توليه الحكم، بعد محاولة اغتياله، بعد التنحي، تغني له دوما وتجب الإشارة أنها غنت له حتى بعد وفاته مما يجعلنا نفكر في تعلقها وحبها –الحقيقي- لجمال عبد الناصر.

ولكن تماهي أم كلثوم مع كل من جلس على عرش مصر ليس هو ما جعلها "الست"، وبالتالي "الحكومة"، بل إن من يحبونها، وهم كثر، يتغاضون عن تلك الأمور أو يجدون لها المبررات، أو يفصلونها عن السياق الأعم بأن "الست" هي سيدة الغناء. 

حسنًا حتى ننهي هذا الأمر فالست في حياتها هي سيدة مصر الأولى قولًا واحدًا، هي الحكومة، لا بقوة السلاح ولا بفرض القمع ولا بالإجبار، أم كلثوم هي سيدة مصر الأولى لا بأي وسيلة سوى بالحب. 

ولأن من يغرد خارج سرب الحكومة في بلادنا يطاله النسيان، فإن هناك خمس أغانٍ ملأت كلماتها الأرض بصوت الست وكانت قد ظهرت للعامة بأصوات أخرى قبل صوت الست؛ منهم من كان يتحدى ومنهم من لم يكن يهتم ولا يعرف أصلا أن أغنيته هذه "هتكسر الدنيا" لكن بصوت آخر غير صوته.

عصي الدمع

أراك عصي الدمع غنتها أم كلثوم بثلاثة ألحان مختلفة، الأول هو لحن عبده الحامولي، والثاني هو لحن زكريا أحمد ويعد من المفقودات، والثالث هو اللحن المتداول لرياض السنباطي. 

أول من غنى هذه القصيدة هو عبد الحي حلمي، ثم زكي مراد، حتى غناها بنسخة أكثر وضوحا صالح عبد الحي وكتب لها نجاحًا أكبر حينها، ولكن السنباطي نسف كل ذلك، لتندثر تجربة صالح عبد الحي في منتصف الستينات. 

 

عبده السروجي.. على بلد المحبوب

الست مع ألحان بليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب كانت مطربة جماهيرية تجارية، ومع ألحان زكريا أحمد ومحمد القصبجي هي مطربة عفية تستعرض قوتها، السنباطي هو حلقة الوصل بين هذا وذاك، لذلك كان حب أم كلثوم العظيم لألحانه، هو القادر على تجميع الرضا الثلاثي من رضا الجماهير ورضا الست ورضاه هو نفسه عن اللحن ووضعهم جميعا في وعاء لا يفقد كلاسيكيته وعبقه عبر الزمن.

لكن البداية لم تكن على ما يرام.

العلاقة بين الست والسنباطي لم يتحقق لها هذا الرضا الكامل، فحين أسمعها لحن "على بلد المحبوب" طلبت منه تعديلات على اللحن وظنت الأمر طبيعي وسيرضخ له بكل راحة، لكن الحادث أن السنباطي أخذ اللحن بهرمونات كرامته وعزة نفسه وأعطاه لصوت آخر هو عبده السروجي؛ صوت عفي في العشرينات من عمره تشعر في صوته برزانة الكبار وكأنه حكاء يروي في شجن قصص العشق والهجر، المفارقة أن الأغنية تم تسجيها بصوت عبده السروجي في اسطوانات ليغنيها بعد ذلك في فيلم "وداد" بطولة أم كلثوم!

أم كلثوم انتظرت بتحفز ردة الفعل على هذا اللحن الذي رفضته –بإرادتها- لتراه يحقق نجاحًا وانتشارًا فوق المتوقع من السنباطي نفسه، نجاح مدوٍّ استفزها لتطلب من عبده السروجي التنازل عن الأغنية، رفض بالطبع لكن هي أم كلثوم على كل حال فسجلت الأغنية بصوتها، الأمر الذي أغضب السنباطي وبدأت فترة خصام بينهما، لكن الجميل أنها كانت اللقطة التي رسّخت لدى أم كلثوم قيمة السنباطي، وشاهد السنباطي نفسه النجاح الأكبر حين ظهرت الأغنية بصوت أم كلثوم فرسخ لديه هو الآخر قيمة أن تغني له الست، فكان إيذانًا بثنائية اجتاحت الكل وظل الخاسر الوحيد فيها هو "غريب الدار" عبده السروجي!

سكارى نجاة علي وسكارى أم كلثوم

يصنف كثيرون –ولست منهم لضيقي بالتصنيفات- أغنية الأطلال باعتبارها أفضل في تاريخ الأغنية العربية، وذلك استنادًا إلى أنها الأغنية العربية الوحيدة التي كانت حاضرة في تصنيف اليونيسكو لأفضل 100 أغنية في القرن العشرين، وهي في الواقع، مزج بين أبيات من قصيدته الأطلال وأبيات من قصيدة أخرى له هي "الوداع"، واللافت هنا أن الأبيات الأكثر رواجًا من الأغنية هي من "الوداع" لا من الأطلال. 

هذه "الوداع" وتحديدًا بداية من مقطع "هل رأى الحب سكارى"، غنتها قبل الست ست أخرى لا تقل جزالة وهي نجاة علي، نجاة الكبيرة كما يطلق عليها للتفرقة بينها وبين الصغيرة غنت "الوداع" قبل أطلال الست باثني عشر سنة تقريبا، الجميل أن ملحن وداع نجاة كان محمد فوزي، أو كما أسميه "دكان السعادة" يضع لحنا فيه ما فيه من الرقة والعذوبة والقوة في آن، وتهش لنا الدنيا وتُلحَن الأبيات نفسها في أطلال الست على عود السنباطي.

https://www.youtube.com/embed/crNxV08MNR8?rel=0&controls=0&showinfo=0

 

وهنا قد يستغرب البعض أن الست لم تتردد في غناء الأبيات مع علمها بأنها مسجلة قبلها بصوت آخر ولحن مختلف، لكن لحسن حظ نجاة علي أن علاقتها بأم كلثوم كانت جيدة، بداية من تعاطف أم كلثوم معها بسبب تشابه البدايات حيث أن نجاة مثل أمل كلثوم آتية من قرية صغيرة محمّلة بآيات القرآن ومحصول الابتهالات الثقيلة، وبدأت تشق طريقها الموسيقي شيئًا فشيئًا، كذلك حين نالت أم كلثوم لقب "صاحبة العصمة" وأقيم حفل لتكريمها طلبت بنفسها أن تحيي نجاة علي هذا الحفل، واستمرت العلاقة بينهما بكل الود وكما يروي نجل نجاة علي أن الست كانت تأتي بنفسها لمنزل نجاة علي لزيارتها، كل ذلك بالإضافة للثقة المطلقة من الست في السنباطي حينها جعلها تتقدم لغناء الأطلال غير عابئة بأي مقارنة قد تحدث. ما يهم أن نفس الكلام نسمعه بلحن محمد فوزي، ولحن السنباطي لتنال كلمات إبراهيم ناجي شرفًا قلما تجود به الدنيا.

القلب يعشق.. والهاتف المستقبلي

حبي لثنائية بيرم التونسي وزكريا أحمد يتشابه مع حبي لثنائية بركات وأبو تريكة في كرة القدم، أو بصورة أفضل يتشابه مع حبي لتلك الحالات التي تخلق إبداعا من باب الصداقة الواسع، إبداع فطري لا تشعر معه بمشقة عصر الدماغ، وكأنهما يجلسان في مجلس سمر وما ينشده بيرم يقَوِمه ويلحنه زكريا فيُكتب له الحياة سنينًا وسنين، فكان من الطبيعي هنا عند التعامل مع الست أن يقترن شعر بيرم بعود زكريا والعكس بالعكس.

ولعل أبرز إبداعات بيرم رائعة القلب يعشق كل جميل والتي انبرى لها زكريا في الأربعينات ملحنا إياها بلحن يتشابه كثيرا مع ألحانه للست بالإضافة لرائحة الابتهالات التي أضافها تماشيا مع الكلام، ولا أعرف هل هاتف من المستقبل رن في أذن الست لترفض اللحن أم ماذا؟ كان لحنًا عاديًا غنت الست مثله لزكريا الكثير والكثير.

 

في تقديري كان أحمد رامي هو سبب رفض الست للحن زكريا، وذلك بصورة غير مباشرة، فالقراءات الشعرية المتنوعة التي كان يقدمها لأم كلثوم، وحرصه على مناقشتها فيها أسبوعيا، هو ما خلق لديها الذائقة الرفيعة التي جعلتها حين قرأت كلمات بيرم في "القلب يعشق كل جميل" تدرك أنها أمام أغنية غير عادية؛ ليست كما الابتهالات أو الأشعار الدينية لصالح جودت أو أغاني رابعة العدوية، بل كلمات أشمل من هذا، حالة تخطت كونها مدحًا إلهيًا لتصل حد التصوف والحب المجرد –المعبر عنه بعامية لا بفصحى- ثم السفر عبر الزمان والمكان لمجالسة هذا الشعور بحق 

يمكنك إدراك هذا من اسم الأغنية نفسه، الذي لا يوحي على الإطلاق أنها أغنية دينية، أدركت الست كل هذا وتيقنت أن الأمر يحتاج للحن غير عادي فما حدث أن الست رفضت اللحن فقام الشيخ زكريا بتسجيل الأغنية بصوته.

على كلٍ هو الشكر الموصول لهذا الهاتف المستقبلي الذي أعطى الإذن بتأخير ظهور الأغنية بصوت الست أكثر من عشرين سنة أخرى –أي بعد وفاة بيرم وزكريا كليهما- لتطل علينا بلحن السنباطي، والسنباطي في تلك الفترة يرى أوج الست بألحان عبد الوهاب وبليغ حمدي فيقر لنفسه التحدي ويحلق بلحن القلب يعشق تحليقا لا يتماشى فقط مع معنى الكلام؛ بل يعبر عن كل حرف كما لو أن الكلام قد خلق باللحن في آنٍ واحد، تدرج موسيقي بديع يأخذ بيديك على مهل ويصعد بك رويدا رويدا حتى تتحفز ويستمر الصعود أكثر وأكثر حتى اللحظة التي تصل إليها صارخا: الله!

 

الشيخ إمام.. أنا في انتظارك

عنذ ذكر الشيخ إمام يتبادر فورا للذهن أحمد فؤاد نجم، وعند ذكر الست معهما يتبادر أيضا للذهن قصة قصيدة كلب الست الشهيرة التي تغنى بها أحمد فؤاد نجم، ولكنني هنا سأعرض مواجهة أخرى طرفها الشيخ إمام بمفرده. 

في بدايات رحلته مع الموسيقى تعرف الشيخ إمام على الشيخ درويش الحريري، وهو أحد أولئك الضِخام الذين تولوا تعليم الكثير فأخرج لنا السنباطي وغير السنباطي، وعن طريق الشيخ درويش تعرف الشيخ إمام على زكريا أحمد ولازمه لفترة، حتى شعر زكريا أنه وجد في إمام ضالته، فالأول ملول لا يطيق الحفظ والثاني لديه ملكة الحفظ الرهيبة.

كان إمام يسمع اللحن من زكريا مرة واحدة فيستطيع بعدها أن يردده ويعيده عليه مرات ومرات، نتكلم هنا عن النصف الثاني من الثلاثينات وأوائل الأربعينات أي ذروة تعاون زكريا والست، زكريا يضع الألحان واحدًا تلو الآخر وإمام يحفظهم كما الأرشيف المعبأ بالملفات، حتى ظهرت ملكة أخرى من إمام تقارب ملكة حفظه وهي التمرد، بدأ يخرِج هذه الألحان ويغنيها مع نفسه ولأصدقائه قبل أن تغنيها الست نفسها، وصحيح أن إمام لم يكن حينها بالشهرة الكافية لكن حتى ولو على محيط ضيق فحين يستمع زكريا للحن "أنا في انتظارك" أو "الأولة في الغرام" قبل أن تغنيه الست فمن المنطقي أن يستغني عن الشيخ إمام ولا حاجة لهذا الحفظ جلاب المشاكل.

يقدم إمام الأغنية بأسلوبه فلا يستنسخ طريقة الست، بشجن في صوته يزن حيوات بأكملها.

تعددت الأسباب والموتُ واحدُ؛ لا حياة لأغاني الست خارج ظلها.


مصدر حكاية الشيخ إمام؛ كتاب الأغاني في المغاني لشاكر النابلسي عن سيرة الشيخ إمام عيسى.