الرئيس يخاطب الرئيس: كم أنت عظيم ورائع

منشور الأحد 25 مارس 2018

حين تشاهد حوار المخرجة ساندرا نشأت مع رئيس الجمهورية المرشح، والمعنون بـ "شعب ورئيس 2018"، لا بد وأن تسأل نفسك في لحظة ما عن نوعية ما تشاهده، وما إذا كان هذا فيلمًا مثلما يتم تقديمه؟ وربما تسأل نفسك ما إذا كان فيلمًا روائيًا/تمثيليًا، لعدم قدرتك على تصديق ما تراه وانفصاله الكامل عن الحياة كما تعرفها. لكنك غالبًا ستعاود طمأنة ذاتك بأن تصنفه كفيلم تسجيلي، فالرئيس عبارة عن واقع، وإن كان يحكي عن الفانتازيا، عمّا يتخيله.

لكن الخلاف الخاص بالنوع والتصنيف، هو خلاف شكلاني في هذه الحالة، يستهدف التشويش على ما هو أهم. وقبل أن نترك مسألة ما هو تسجيلي وما هو روائي، الواقعي والمزيف، من الممكن تبسيط المسألة بالقول بأن كلا النوعين، التسجيلي والروائي، ينتميان إلى عالم الفيلم. كلاهما يتعامل مع الواقع ويقترب منه. أحدهما يلجأ للبلاتوه والإضاءة الصناعية والممثلين وربما الأكذوبة، كي يقترب من هذا الواقع. والآخر، وهو الفيلم التسجيلي، يبحث في الواقع المعاش، في الحياة، عن عناصر للاقتراب من هذا الواقع وحكيه.

خلال معركة تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية، خلال النصف الثاني من التسعينات، عقد مؤتمر سياسي في مقر أحد الأحزاب. بدأ معارض صلب خطابه بجملة "جزمة أي فلاح مصري أنضف من مبارك". فخرج معارض "رسمي" بعده مباشرة ليبدأ خطابه بجملة "الرئيس لا يعلم". الأول خرج من المؤتمر إلى السجن، والثاني لاستكمال مساره الرسمي.

"الرئيس لا يعلم" هو المنطق الذي ترسخ خلال سنوات طويلة، وكأن الرئيس في حالة غيبوبة دائمة، والذنب يقع على من يحيطون به. لكن السيسي خلال السنوات الأربعة الأخيرة، وفي هذا الحوار تحديدًا، يطور المنطق ليكون الرئيس يعلم ولا يعلم. فيتحدث عن الذنب، بل يستخدم التعبير ذاته.. "ماليش ذنب في كذا". ويصل إلى مستوى جديد تمامًا، وهو مخاطبة المواطن الخائف ليشجعه عبر الشاشة على الكلام، لكنه يحذره في نفس اللحظة من أن يحدّث ذاته، لأنه لو حدّث نفسه فسوف يصدق ما يقوله لها! ويختتم النصيحة بأنه إذا حدث لك شيء فأعلم أنني لا أعلم، أو على الأقل ليست هناك توجيهات بذلك.


اقرأ أيضًا: بلحة يكتسح.. سيناريو تخيلي لانتخابات لم تحدث


ستقف هنا مدهوشا.. أين هي المخرجة/المحاورة من هذا المنولوج العصابي؟ فالرئيس طيلة ساعة كاملة يخاطب ذاته ولا يحتاج إلى من يحاوره، التي تبدو وكأنها غائبة تماما عن منتج بصري وسمعي تم إعداده كاملًا، على ما يبدو، في مكاتب بعض الأجهزة. وكانت المخرجة في هذه العملية مجرد جزء من الديكور أو المكياج. ولذلك حين يُطَمئِن الرئيس المواطن بأنه ليس هناك من يتم اعتقاله في البلاد، لا تواجهه هي بالحقائق، ولا تسأله عن التقديرات التي تتحدث عن أكثر من أربعين ألف معتقل ومسجون سياسي في مصر خلال عهده.

هذا الغياب التام للمخرجة هو الأسلوب، "الستايل"، الوحيد الذي تم احترامه طيلة هذا السلاطة المسماة بالفيلم. فعلى سبيل المثال حينما يؤكد السيسي على أنه كان يتمنى أن يكون هناك "مرشح وأتنين وعشرة من أفاضل الناس" - فليس لدينا من بين هذا الشعب غير السيسي من أفاضل الناس - لا تسأله هي عن الاعتقالات، أو حصار الأحزاب، أو تأميم الإعلام أمنيا، أو عما حدث مع شفيق وعنان والمستشار جنينة وعبد المنعم أبو الفتوح وخالد علي.

لا تسأله ساندرا نشأت سوى أسئلة الماكياج الساذجة التي تُعظّم شخصيته، وتتضمن معها إجابات محددة ومقررة سلفا ومتضمنة في سياق السؤال، من نوعية "يعني المهم عندك هو رضا ربنا وعمل الصح قبل حب الناس؟". 

هذا المكياج الطاغي والمزيف لا يبدو فقط على هيئة الرئيس ووجهه، ولا على منضدته وخلفيته الخضراء وحديقته الواسعة الجميلة فحسب، لكنه يمتد إلى الواقع القاتم والقذر خارج جدران القصر، بإضفاء صفات البلاهة على الشعب الواقف على الناحية الأخرى من الجدران، في مقابل تضخيم صورة الحكيم القاطن في القصر. هذا الرئيس المضطر إلى إخلاء الشوارع كي يعبر، لكنه يفضل الرغي مع الناس. هؤلاء الناس الذين تصورهم ساندرا نشأت مقصوصي الريش، غير قادرين على قول جملة مفيدة واحدة، فلا يوجه أيا منهم انتقادًا حقيقيًا واحدا للسلطة أو للنظام القائم. ويتم تلخيص الشعب في نموذجين من يقولون "إحنا عايزين المم"، وفي طفل "متلازمة داون"، الذي تهاجمه المخرجة بصوتها الزاعق وجسدها.. لتتهمه ضاحكة بأنه ثوري.

وتظل المفارقة المريرة.. أن الثوري هو الطفل الذي يعاني من "متلازمة داون"، وأن يظل الصوت الزاعق لنا، للشعب، بينما الصوت الناعم الرقيق لسيادة الرئيس. ومن الممكن مراجعة درجة صوتها وشدته في فيلمها القصير "بتحلم بأيه" الذي قدمته منذ أربعة سنوات في مناسبة شبيهة.


اقرأ أيضًا: سبينوزا رئيسًا للجمهورية


هذا الشعب المشكل من رعاع، والذين لا يفكرون سوى في بطونهم، يأتي المُخَلّص ليوعدهم بوعود بعيدة دون أي أسس أو أرقام أو خطط أو برامج، سوى تكرار أن لا ذنب له في كل هذا الخراب، وتكرار ثقته في قدرته على إنقاذ الوطن وليس إنقاذهم هم، فهم ليسوا الوطن. وتمنحه المخرجة سلاح المعايرة في نفس الوقت.. "ليه أنجبت خمس عيال وأنت غير قادر على إعاشتهم". ويصل للحكم عليهم وتصنيف مزاياهم وعيوبهم، فلديهم قدرة على الاستيعاب حسب حكمه، لكنهم للأسف قليلي الصبر.

عملية التجميل لا تقتصر على الحكيم الجالس أمام الكاميرا، ولا تقتصر على ساندرا نشأت عبر تجميل صوتها وطريقة جلوسها وابتساماتها، فالتجميل لابد وأن يصل إلى الكاميرا نفسها. فبالإضافة إلى استخدام هذه العدسة الطويلة والإضاءة الموزعة لتجميل وجه الرئيس وتبييضه –للدقة تحميره-، تم الافتراض بأن على الكاميرا الرقص يمينًا ويسارًا طيلة الوقت، وبالذات في الجزء الأول، في محاولة لإضفاء ديناميكية على الرتابة والفراغ الفكري والسياسي الذي يحتل المشهد أمامها. ودون أي منطق، يتم تثبيت الكاميرا في الجزء الأخير، مع تقطيعات سريعة يفصل بينها شاشات سوداء، وكأن الرئيس يلقي بالحكم الأخيرة الحاسمة، يلقي بفاكهة الحوار وبأهم ما فيه، مرورًا بهذه الكاميرا التائهة في مشهد الحديقة، مع موسيقى الفلوت منعدمة المعنى لكنها من ضمن دواعي الماكياج. ماكياج لتخفيف وطأة الدم والجوع.

بدأ الرئيس حواره مع ذاته مؤكدًا أنه لا يهتم إلا بالله ونظرته إليه وحديثه معه. وكان لابد دراميا في ظل هذه الركاكة أن يتم الختام بنفس التجاهل والاحتقار لآراء الناس ونظرتهم، فالله وحده هو الموازي للسيسي وليس الشعب. والله وحده هو الأعلى من السيسي وليس الشعب. لذلك لا يلتفت بجسده للمحاورة، جسده يتوسط الإطار، موجه للكاميرا مباشرة، أما المحاورة فهي هناك، عند زاوية ٤٥ درجة مئوية من محور الكاميرا الرئيس. وهذا الرئيس لا يتطلع إلى هذه الكاميرا، لا يتطلع إلى شعبه، بل ينظر إلى ما هو أعلى منه.. إلى الله، الوحيد القادر على سؤاله ومحاسبته.

عودة إلى سؤال البداية المتعلق بالنوع.. مدى نجاح هذه القطعة البصرية-السمعية، أيا كان نوعها، أو مدى نجاح الركاكة البصرية في تجميل الركاكة السياسية والحقائق القبيحة التي من المفترض أن تحتل المشهد بوقاحتها، ليس هو السؤال المحوري. فجميعنا نعلم أن بعض أفلام الدعاية النازية حققت نجاحات ساحقة. وأكثر الأفلام نجاحًا في تاريخ السينما العالمية هي أسوأها. وأكثر البرامج التلفزيونية مشاهدة هي أكثرها انحطاطا. السؤال الأكثر أهمية من سؤال النجاح هو السؤال الأخلاقي.

في كلاهما، في الفيلم التسجيلي والفيلم الروائي، السؤال الأخلاقي هو سؤال حاضر. لكن حضوره وسطوته تتضاعف في حالة الفيلم التسجيلي، لأنه يتعامل مع الناس الحقيقيين وحياتهم ومعاناتهم ومشاعرهم وأفكارهم. وفي حالة "رئيس وشعب" هناك مصيبة أخلاقية كونه مجرد فيلم دعائي قائم على الأكاذيب وعلى الماكياج الركيك. المشكلة الأخلاقية تتضاعف أكثر حين يكون بطل الفيلم هو السيسي، رمز الفترة الأسوأ من حياتنا، فترة الجرائم المشهرة والخراب المعمم.

اقرأ أيضًا: البروباجاندا الهادفة.. محاولة للبحث عن إجابات في كلمات الرئيس

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.