رأسمالية المراقبة.. الدرس المستفاد من فضيحة "كامبريدج أناليتيكا"

منشور السبت 24 مارس 2018

نُشر مقال جنيفر كوبي على موقع أوبن ديموكراسي في 20 مارس/ أذار الجاري 

خلال عطلة نهاية الأسبوع، ظهرت مزاعم حول استغلال شركة تحليل بيانات تسمى "كامبريدج أناليتيكا" لبيانات مستخدمي فيسبوك. لكن مع المزاعم الذاهبة بمخالفة تلك الشركة لقواعد فيسبوك؛ فالمشكلة الحقيقية تكمن في منهج عمل فيسبوك نفسه، وهو منهج لا يقتصر على فيسبوك، وإنما نشأ مع شركة جوجل التي أدركت أن البيانات التي يتم جمعها أثناء استخدام الأشخاص لمحرك البحث الخاص بها، يمكن تحليلها للتنبؤ بما يريده الأفراد، وتقديم إعلانات محددة موجهة على هذا الأساس. كما أن هذه الطريقة يتم توظيفها في معظم خدمات الإنترنت المجانية.

هي ليست مشكلة فيسبوك وحده إذن، إنها مشكلة الإنترنت في الشكل الذي صار عليه اليوم. "رأسمالية المراقبة" مصطلح صاغته شوشانا زوبوف في 2015، لوصف عملية واسعة النطاق من المراقبة والتحكم في السلوك البشري بهدف الربح، من خلال التحليل التنبؤي للكثير من البيانات التي تصف حياة وسلوك عشرات، بل مئات الملايين من الناس، ما يسمح بتحديد الروابط والأنماط، والاستدلال على المعلومات المتعلقة بالأفراد، والتنبؤ بسلوكهم المستقبلي.

يتبع ذلك محاولات للتأثير على هذا السلوك المستقبلي من خلال إعلانات موجهة خصيصًا للأفراد، وذات فعالية عالية في التأثير فيهم. ويتم تطوير هذا المنهج في "الإعلانات القصدية" عبر اختبار العديد من الإعلانات المتنوعة على نطاقات ديموجرافية -تجمعات سكانية- مختلفة، لمعرفة ما هو الأسلوب الأكثر نجاحًا. ففي كل مرة تقوم بإستخدام الإنترنت، من المحتمل أن تكون -وبدون علمك -موضوعًا لعشرات التجارب التي تحاول معرفة ما هي الطرق الأكثر فعالية لكي تُنتَزع منك الأموال.

"رأسمالية المراقبة" تغيَّر حياتنا بغرض جني الأرباح، ليصبح كل شيء نفعله مجرد نقاط من البيانات، يمكن حزمها وتعبئتها لصناعة ملف تعريف لكل منّا، يصفه بأدق التفاصيل. هذا الملف يتحول إلى منتج يباع إلى سوق الإعلانات.  لكن الأمر لا يقتصر على بيع إمكانية الوصول إلى ملفات تعريفنا؛ بل يمتد للوصول إلى أدوات تعديل السلوك القوية التي طورتها هذه الشركات، ومعرفة نقاط ضعفنا النفسية التي تم تحفيزها من خلال التجارب على مدار سنوات عديدة. في الواقع، من خلال أجهزتهم الدائمة للمراقبة، فهم يبنون معرفة معقدة عن السلوكيات والحياة اليومية لمئات الملايين من الناس، ثم يتهمون شركات أخرى باستخدام هذه المعرفة ضدنا من أجل مصلحتهم.

وكما يدرك المزيد من الناس الآن، فإن رأسمالية المراقبة لا تفيد الشركات فقط؛ لكنها تخدم المؤسسات السياسية كذلك، تلك المؤسسات الكامنة في الخفاء مثل كامبريدج أناليتيكا، وكذلك الكيانات السياسية العلنية كالأحزاب والمرشحين.

توصف حملة أوباما عام 2008 بأنها أول حملة تستخدم "البيانات الضخمة" Big Data، ولكن في عام 2012، كانت طريقة عمل فريق أوباما مبتكرة للغاية، ومعقدة بما فيه الكفاية بحيث تمكنوا -باعترافهم- من استهداف الناخبين وإقناعهم بأن حملة رومني، لم تكن موجودة من الأساس. تمكنوا من تنفيذ حملة رقمية فعالة للغاية، تستند للاستهداف الدقيق للأفراد عبر بياناتهم بالغة الدقة، وصارت تلك الحملة مضربًا للأمثال ونموذجًا كثيرًا ما جرى اتباعه مرارًا في أوقات لاحقة.

اليوم، أدوات تقنية مثل facebook audience (جمهور فيسبوك)، و lookalike audience (الجمهور المتماثل)، تسمح للمعلنين -بما في ذلك المنظمات السياسية- برفع قوائم الأفراد ومطابقتها مع ملفاتهم الشخصية على فيسبوك، والحصول على ترشيحات دقيقة بملفات شخصية لأفراد آخرين يتشابهون مع من هم في قوائمهم من الجمهور المستهدف؛ ثم استهداف كل هؤلاء. هذا يعني أن الحملات السياسية يمكنها أن تمد رسالتها المصنوعة بعناية نحو المزيد والمزيد من الجماهير.  

 

 

وكما  تقول زينب توفكجي، أستاذة علم الاجتماع في جامعة نورث كارولينا؛ إذا كانت دعاية الحملات السياسية في القرن العشرين قد احتوت على نظارات مكبرة ومضارب بايسبول، فإنها حصلت في القرن الحادي والعشرين على ميكروسكوب وتلسكوب ومشارط جراحية في شكل خوارزميات وتحليلات.

الحملات الآن بإمكانها تقديم حجج متنوعة لقطاعات الجماهير المتنوعة، إلى درجة أنه ليس لشخصين أن يريا نفس المجموعة من الرسائل والحجج والإعلانات. هذا يأخذ الحملات الدعائية السياسية من كونها عملية موجهة للعامةK ليجعل منها علاقة خاصة وشخصية. وما أوصلها لهذا على طول الخط، هو آلية "رأسمالية المراقبة".

أجرت شبكة فيسبوك أبحاثها الخاصة حول فعالية الرسائل السياسية الموجهّة بدقة عبر منصتها الإلكترونية، خلال انتخابات التجديد النصفي التي أجريت في الولايات المتحدة في عام 2010. ووجدت شبكة فيسبوك أن تلك الرسائل زادت من احتمالية توجه الفرد للتصويت بنسبة 0.4% تقريبًا، عن طريق إخباره أن أصدقائه قد صوتوا بالفعل، وتشجيعه على القيام بالفعل نفسه. 

وكررت شبكة فيسبوك التجربة في عام 2012، وتوصلت لنتائج مماثلة. قد لا تبدو هذه النسبة كبيرة، لكنها على المستوى القومي تُتَرجَم إلى حوالي 340،000 صوت إضافي. لقد فاز جورج بوش بانتخابات عام 2000 ببضع مئات من الأصوات في فلوريدا. وفاز دونالد ترامب لأنه تمكن من كسب 100،000 صوت في منطقة "الحزام الصدئ" (منطقة شمال شرق الولايات المتحدة).

 

مصوتون في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016

في بلدان مثل المملكة المتحدة، حيث يتحدد الفوز في الانتخابات من خلال اتجاهات تصويت بعض الدوائر الانتخابية الهامشية التي تركِّز فيها الأحزاب جهودها؛ تغدو الأعداد الصغيرة ذات أهمية. حيث تشير دراسة أجريت على  انتخابات العام الماضي إلى أن حزب المحافظين لم يكن ينقصه إلا 401 صوتًا فقط للفوز بالأغلبية المطلقة.

بناءً عليه؛ في عام 2013  تعاقد المحافظون مع مدير حملة أوباما في 2012. كلتا الحملتان (حملة حزب العمل وحملة صوتوا لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي) عمدتا للمباهاة باستخدامهما للبيانات في استهداف المصوتين. مكتب مفوض المعلومات، الذي يشرف على حماية البيانات وتنظيم الخصوصية في المملكة المتحدة، يقوم الآن بالتحقيق في اللجوء لهذه الممارسات في بريطانيا. كما أن اللائحة الجديدة لحماية البيانات العامة للاتحاد الأوروبي، تعد بوضع حد لهذه الممارسات مع دخولها حيز التنفيذ في مايو/ أيار المقبل.

لكن هناك مجموعة ثالثة تستفيد من حصيلة البيانات التي تجمعها شركات "رأسمالية المراقبة" حول تفاصيل الحياة اليومية لمليارات الأشخاص، وهي "الدولة".

تصدِّر الكشف الذي حققه سنودن في عام 2013 بخصوص GCHQ (مكتب الاتصالات الحكومية البريطانية- جهاز أمني)، وأنشطة وكالة الأمن القومي الأمريكية العناوين الرئيسية للأخبار في العالم. تركز الاهتمام وقتها على البرامج التي استهدفت، ضمن أمور أخرى، إضعاف معايير التشفير، ووضع برمجيات تكفل خلق أبواب الخلفية للولوج للشبكات الآمنة، ووضع أجهزة اعتراضية على كابلات الإنترنت الأساسية من أجل سحب البيانات التي تمر من خلالها. وتسجل هذه البرامج مليارات المدخلات كل يوم. ويتمثل هدف GCHQ المعلن في تجميع ملف تعريفي بعادات كل مستخدم على الويب.

 

إدوارد سنودن

لكن؛ كان هناك عنصر آخر تم التغاضي عنه إلى حد كبير، وهو مشاركة البيانات التي تتم بين رأسمالية المراقبة وأمن الدولة ووكالات الاستخبارات. ففي الولايات المتحدة، ولوقت طويل، ظلت شركات التكنولوجيا مجبرة على تقديم معلومات تخص مستخدميها إلى وكالة الأمن القومي. وعندما رفضت "ياهو"، تم تهديدها بدفع غرامة قدرها 250،000 دولار  يوميًا، على أن تتضاعف تلك الغرامة أسبوعيًا مع استمرار الشكة في رفض التنفيذ (أي تدفع الشركة 250 ألف دولار عن كل يوم في الأسبوع الأول، ثم 500 ألف دولار عن كل يوم في الأسبوع الثاني، ثم مليون دولار عن كل يوم في الأسبوع الثالث وهكذا).  وفي مواجهة هذا الخراب المالي؛ أذعنت الشركة.

أما في المملكة المتحدة، فيمنح قانون "قوى التحقيق" -المعروف شعبيًا باسم "ميثاق التلصص"- لسلطات التحقيق وسلطات الأمن والمخابرات قوة قانونية، تخولهم الحصول على البيانات الشخصية من شركات التكنولوجيا بكميات كبيرة. وتكشف الحكومة عن اتفاق مع الولايات المتحدة يمنح بريطانيا ووكالات الاستخبارات الوصول بشكل أفضل إلى قواعد البيانات المعنية.

الممارسات التي تتعلق بالمراقبة تثير أسئلة صعبة حول العلاقة بين المواطن والدولة. فمنذ عام 2013، يطرح العديدون هذه التساؤلات - على الأقل يطرحونها على محكمة العدل الأوروبية ECJ، التي حكمت في عام 2016 بأن الاحتفاظ العشوائي بالبيانات لا يتماشى مع مجتمع حر وديمقراطي.

وأدى ذلك إلى قيام الحكومة البريطانية بالتشاور مؤخرًا، بشأن التعديلات التي أُدخلت على أجزاء من قانون "سلطات التحقيق"، والتي تسمح للحكومة بأن تطلب من مقدمي خدمات الإنترنت الاحتفاظ بسجلات تاريخ التصفح لكل مستخدم في المملكة المتحدة، وتقديمها إلى وكالات الأمن والاستخبارات، والشرطة، ومجموعة أخرى من الهيئات العامة بناءًا على طلبهم، وبدون أمر قضائي أو أي إشراف قضائي مباشر آخر. وقد أحيل طعن مُقدم من "الخصوصية الدولية" إلى محكمة العدل الأوروبية في أيلول / سبتمبر بخصوص جُملة السلطات الكبيرة الممنوحة للهيئات الحكومية بخصوص بيانات الأفراد ضمن قانون "سلطات التحقيق".

إن رأسمالية المراقبة مع الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والأعداد المتزايدة من أجهزة "إنترنت الأشياء" التي تشكل البنية الأساسية لمشاهدة وتتبع كل ما نفعله، ووجود الجمهور العام كمشارك فعال في عملية المراقبة، هي أمور تزيد من قدرة الشركات والمنظمات السياسية، وفوقهم جميعًا الدولة، على التتبع والتوجيه والتحكم في البشر على نطاق واسع.

هذا يعود بالفائدة على تلك الشركات والمنظمات السياسية وأجهزة الدولة، اقتصاديًا وسياسيًا، ويحقق مسعاها المتزايد للسيطرة تحت دعوى "المطالب الأمنية". فهذه هي الطريقة التي بنوا بها إنترنت اليوم. ليس لنا؛ ولكن لهم. هذا هو المستقبل الذي مشينا إليه مغمضي الأعين. نحن بحاجة إلى النظر وراء كامبريدج أناليتيكا وفيسبوك. لقد حان الوقت لإجراء نقاش أوسع حول دور المراقبة في مجتمعنا المتوسع في الرقمنة.