من فيلم الدرجة الثالثة- إخراج شريف عرفة وتأليف ماهر عواد

ثورة ماهر عواد و"شريف الأول"

منشور الاثنين 19 مارس 2018

يقول ستيفن سبيلبرج في أحد حواراته أنه كثيرا ما غبط أورسون ويلز، سكورسيزي وهيتشكوك، "فلكل منهم أسلوب مميز، ولكني بدون أسلوب. أنا أعرض القصة جيدا، أرويها كما كتبها المؤلف، أنا أخدم المؤلف". يُشبِّه سبيلبرج نفسه بمايكل كورتييز وفيكتور فليمنج، مخرجيكازابلانكا وذهب مع الريح على الترتيب. فهما مثله أيضا بلا أسلوب، يستطيعان التنقل بين ألوان مختلفة وعوالم مغايرة والتأقلم معها بسهولة.

على غرار ويلز وسكورسيزي، شهدنا في مصر مجموعة كبيرة من مخرجي الأسلوب، سواء ممن يكتبون أفلامهم بأنفسهم مثل رأفت الميهي وداوود عبد السيد، أو ممن يملكون لغة سينمائية طاغية تفرض نفسها على كل السيناريوهات التى تعاملوا معها مثل محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة، وغيرهم من أجيال أسبق.

 لا شك أن شريف عرفه الذى ظهر في فترة متأخرة عن السابقين، وفي سن أصغر مقارنة ببداياتهم، استطاع أن يحفر لنفسه مكانا في تاريخنا السينمائي. إلا أن عرفة مثل سبيليرج، لم يكن صاحب أسلوب أو رؤية متفردة واضحة، كان دائم الاحتياج إلى من يندمج معه وتتضافر موهبتهما وتنصهرا سويا لتصنعا لغة مميزة. ولذا فإننا لا يمكن أن نتعامل مع شريف عرفه بمعزل عن مؤلفي أفلامه. ولا يمكن أيضا أن نتعامل معه كمخرج واحد، فهناك حتى الآن ثلاث نسخ من شريف عرفة؛ شريف الأول الذي أكمل نصفه الآخر ماهر عواد، وشريف الثاني الذي تعاون مع وحيد حامد ليُتم كيانه، وشريف الثالث -الحالي- الذي ظل نصفًا غير مكتمل.    

                                       

من فيلم الدرجة التالتة - شريف عرفة وماهر عواد

  استمرت رحلة الثنائي شريف عرفة وماهر عواد على مدار خمسة أعوام قدما فيها أربعة أفلام، بداية من "الأقزام قادمون" في 1986، مرورا بـ"الدرجة الثالثة" و"سمع هُس"، وصولا إلى "يا مهلبية يا" في 1991.

  كانت نية الشابين في تقديم سينما مغايرة واضحة بداية من فيلمهما الأول. فعند عرض "الأقزام قادمون"، كتب النقاد والصحفيون مستبشرين بجيل شاب قادر على صناعة سينما جديدة، لا علاقة لها بسينما المقاولات المنتشرة حينها، وبعيدة عن موجة أفلام المخدرات الصاعدة، وكذلك فهي مختلفة عن موجة الواقعية الجديدة التي بدأت في تثبيت أقدامها بالثمانينات.

يقدم شريف وماهر في "الأقزام قادمون" رحلة صانع الإعلانات الشهير شهاب- يحيى الفخراني، المُنتَقل من عالم رجال الأعمال والمتنفذين وأصحاب السطوة والسلطة إلى عالم الأقزام، بعدما تَكَشّف له زيف العالم الأول وقسوته، مقابل بساطة مجتمع الأقزام ونقائه. يستعرض شريف عرفة عمل صانعي الإعلانات، قبل أن يصبح هو نفسه واحدا منهم، بشكل يمزج بين الواقعية والفانتازيا في أسلوب مختلفٌ حتى عما قدمه رأفت الميهي في أفلامه الفانتازية.

  في فيلمهما التالي "الدرجة الثالثة" نخوض رحلة عكسية، وهي رحلة سرور - أحمد زكي من الدرجة الثالثة نحو المقصورة، من صفوف الجماهير إلى مجلس إدارة جمعية حبايب النادي. رحلة صعود هي في حقيقة الأمر هبوطًا، كما كان الهبوط في الفيلم الأول في جوهره صعودًا.

 قد نعتبر أن "الأقزام قادمون" هو النسخة الزيرو من أفلام شريف عرفة وماهر عواد. كان رحلة استكشاف لقدراتهما ولنفسيهما، فبالرغم أنهما قدما في ذلك الفيلم بعضًا من سمات الأسلوب الذي يعتزمان انتهاجه؛ إلا أنهما لم يكشفا عن كل أدواتهما. فالفيلم يخلو من الاستعراضات، كما لم يستغل فيه شريف عرفة موسيقى مودي الإمام كما سيعتاد أن يفعل لاحقًا، جاعلاً من موسيقى الإمام لاعبًا أساسيًا وعنصرًا فعالاً في لغته السينمائية.

اقرأ أيضًا: بهاء جاهين ومودي الإمام.. صوت المجاميع 

 

من فيلم الاقزام قادمون - شريف عرفة وماهر عواد

  في فيلم الدرجة الثالثة، بدأت ملامح السينما التي يطمح الثنائي لصنعها في الإفصاح عن نفسها. وبدا أنهما مشغولان بالصراع الممتد والأزلي بين رجال السلطة والنفوذ من ناحية، والشعوب والمطحونين من ناحية أخرى. فكما قام جميل راتب في الفيلم الأول بدور رجل الأعمال، ملك الهامبورجر،  ظهر في الثاني بشخصية مدير جمعية حبايب النادي وممثل المقصورة، الشخصيتان اللتان مثلتا طرف الصراع الآخر، في مواجهة الأقزام وجماهير الدرجة الثالثة على الترتيب.

كان الهم الفكري نفسه يطارد مخرجين آخرين مثل عاطف الطيب. إلا أن ما ميز شريف وماهر هو طريقة عرضهما لأفكارهما بنظرة خيالية لا تخلو من غرابة، ولكنها ليست بعيدة عن الواقع. 

  لاقى الدرجة الثالثة هجومًا عنيفًا من بعض السينمائيين والنقاد، وانصرف عنه الجمهور أيضًا حتى سُحب سريعا من السينمات، كما أنه لم يُعرض بالتليفزيونات قبل عصر القنوات الفضائية، وظل حبيس العلب حتى سنين قليلة مضت. ورغم أن الفيلم لم يشاهده حينها سوى مئات، إلا أن شهرته صارت واسعة وبات اسمه يتردد كثيرًا على خلفية المعارك النقدية والملاسنات الممتدة بين المدافعين والمهاجمين.

كان الاهتمام بالفيلم استثنائيًا، كونه من بطولة سعاد حسنى التى ظهرت فيه بشكل ضعيف فنيًا. وزاد الأمر تعقيدًا بعدما تم الربط بين الفيلم وبين تدهور حالتها النفسية قبيل انصرافها المبكر عن السينما. وفي حوار مع ممدوح الليثي، علَّقت سعاد على فشل الفيلم بأن السيناريو كان عبقريًا، وكذلك الإخراج، إلا أن العديد من المشاهد قد حُذفت بعد ضياع أو تلف بعض البكرات، ما أصاب نسخة الفيلم الأخيرة ببعض السوء. وأضافت سعاد أنها تستعد لتقديم فيلم جديد مع ماهر عواد – زوجها في ذلك الوقت - إلا أنها لم تمثل بعدها إلا في فيلم الراعي والنساء، قبل أن تتوارى خلف ستار المرض والاكتئاب. 

اقرأ أيضًا: جريمة في جزيرة الماعز.. أصل وصورتان

 

حوار حسام الدين مصطفى الذي هاجم فيه

في الوقت نفسه كان حسام الدين مصطفي يشن حربًا شعواء على كل أفلام الموجات الجديدة. فحينما كان مصطفي يقدم أفلام السكاكيني والمشاغبات الثلاثة والمدبح وشهد الملكة، كان لا يتورع عن مهاجمة أفلام خيرى بشارة، ووصف فيلم أحلام هند وكاميليا لمحمد خان بأنه "فيلم صراصير". وكذلك لم يفوِّت الفرصة لينال من فيلم الدرجة الثالثة، فصرح في أحد الحوارات تعليقًا على فشل الفيلم "أُحذِّر ولا يسمعون. فمنذ عام مضى التقينا نحن المنتجين الفنانين في غرفة صناعة السينما، وحذرتهم من الأفلام التى تتعمق في مآسي الناس والتباهي بالاسقاطات السياسية، لأن هذه النوعية من الأفلام ملّها الناس".

تأخر الثنائي قليلاً في الرد على مهاجميهم، لكن ردهم كان أكثر تمكُّنًا وإتقانًا. بعد ثلاثة أعوام تقريبًا، وفي صيف 1991، قدم ماهر وشريف فيلمهما الأيقوني سمع هُس. كان الفيلم محملاً في هذه المرة بغضب شخصي، وروح ثورية منكسرة، بحنق وسخط على كل ما هو مزيف وكاذب، مما أضفي عليه بُعدا ميلودراميا آخر. قدم الثنائي في فيلمهما صرخة في وجه سارقي الأحلام، وتحية إلى الصادقين القابضين على فنهم ونقاء روحهم، حتى أنك قد تسمع الصرخة المصاحبة لمشهد النهاية (هتشوفوووووا) بصوتهيما، صوتى شريف وماهر.

                                                  

من فيلم سمع هس

  لم يبتعد الثنائي الشاب عن مشروعهما الفني بعد ما نالهما من هجوم، بل توغلا أكثر في عمقه، وقدما نموذجًا متكاملاً لمشروعهما المتعثر جماهيريًا وربما نقديًا. وإن بدا في "سمع هس" اختلاف وحيد عن باقى أفلامهما، فعلى عكس نهايتي الفيلمين الأولين اللتين بشرتا بانتصار جموع الشعب والمظلومين على أذرع النفوذ والسلطة، يعترف "سمع هس" بهزيمتهم، أو هزيمتهما (ماهر وشريف)، ولكنها هزيمة مؤقتة، على وعد بلقاء آخر وجولة تالية يتوعدون فيها أعداءهم. "هتشوفوا طريقنا مودّي لفين، على ما تهل سنة 2000، هنكون فوق، فوق، فوق، فوق. أطول واحد فيكوا هييجي تحت ركبنا كده بشبرين".

 يقدم لنا ماهر عواد تفسيرًا لجنوحه للنهايات السعيدة، وذلك في حوار بمطلع فيلمهما الرابع "يا مهلبية يا". يدور الحوار بين رجل الأعمال بعكوك والمؤلف الذى أدى دوره أحمد راتب، حين سأل أولهما الآخر عن الحكمة من انتصار الخير على الشر في الأفلام، مضيفًا أن هذا بعيد جدًا عن الواقع، ليجيبه المؤلف "مادام الشر بيكسب في الواقع، ماتسيبوا الخير يكسب في السيما، ولا أنتم عايزين تكوشوا على كل حاجة؟ ولا هي الكحكة في ايد اليتيم عجبة؟!".

  وصل شريف وماهر في فيلمهما الأخير إلى أعلى درجات الفانتازيا والتجريب في مشروعهما القصير، وقدما حبكتين متداخلتين، الأولى في التسعينيات حيث مواجهة المؤلف والمخرج، لرجل الأعمال بعكوك ورجاله في التموين والضرائب والمصنفات. أما الحبكة الثانية فتدور في الأربعينيات، وفيها يسخر الثنائي من الوطنية الزائفة وادعاء الثورية.

لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها شريف وعواد لتلك الفكرة، فقد ألمحا لها همسًا في الأقزام قادمون، عبر رضوان- جميل راتب، الذي يُعرِّف نفسه قائلاً "رجل أعمال وطني.. مهمة أوى وطني ديه". وكذلك في فيلم سمع هس في أغنية "أنا وطني بأنشد وبأطنطن، وأتباهى بمجدك يا وطنطن". أما في يا مهلبية يا، فقدما لنا عصابة من النصابين واللصوص الذين يدَّعُون الوطنية كستار لأعمال النصب. وينتهي الفيلم بأغنية "يا مهلبية يا، كُلك شطة حامية يا، يا أرزقية يا، يا خسارة الوطنية".

  استكمل ماهر وشريف في فيلمهما الرابع استخدام لغتهما السينمائية الخاصة، مستعينين بالعديد من الاستعراضات التي شارك في غزلها بهاء جاهين وعاطف عوض، وطبعا مودي الإمام الذين أصبحوا من أسس تلك التجربة السينمائية الفريدة. إلا أن هذا الفيلم الذي يتعرض لحرب 1948 وقصور الملك وتياتروهات الأربعينات واستعراضاتها الفخمة، كان في احتياج إلى إنتاج ضخم لم يتوفر له، مما ظلم صورته النهائية نسبيًا.

 لا تخلو الأفلام الأربعة من إشارات متكررة بينها، مثل ضياع عقد "المبايعة" في فيلمي الأقزام قادمون وسمع هس، واستدعاء الأقزام في عرض بافتتاحية سمع هس، ومشهد نُصُب الجندي المجهول الذي يتكرر في الدرجة الثالثة ثم يا مهلبية يا. 

يقول أنطونيوني إن لكل مخرج مهم فيلم واحد، بمعنى أن الفنان الحقيقي يطارده همُّ، وتؤرقه أفكار معينة تجعل من إبداعه مشروعًا متكاملاً ممتدًا. ولذا فيمكننا أن ندَّعِي أن تلك الأفلام تمثل رباعية متكاملة، يكشف كل فيلم فيها عن أسرار سابقة أو لاحقة، ترسم رؤية ضد السلطة بألوانها المختلفة؛ ضد قوى الرأسمالية والملك، ضد المُغني الوطني غندور ومنتجي الكاسيت، ضد بعكوك وضد مجلس إدارة حبايب النادي، وضد ملك الهامبورجر وصانعي الإعلانات. وفي المقابل يقف الأقزام وجمهور الدرجة الثالثة وحمص وحلاوة وعنّاب والمخرج والمؤلف في صف واحد.

يصل الصراع بين الطرفين إلى حد التظاهر والثورة، سواء في مظاهرات الأقزام أو مظاهرات جمهور الدرجة الثالثة ودبيبهم على الأرض فوق مدرجات الاستاد. تنتهي الأفلام الأربعة بمشاهد الاشتباك الحتمي، في مواجهة لا فكاك منها بين المطحونين وأصحاب السلطة والنفوذ، تصل حد استخدام الديناميت لتفجير الملك وقصره في نهاية "يا مهلبية يا".

شريف الثاني

 في 1991، عرض وحيد حامد على شريف عرفه سيناريو "اللعب مع الكبار". كان وحيد دائم الدعم لشريف، وتحديدًا بعد أزمة الدرجة الثالثة.  تشكك عرفة في موافقة عادل إمام على اختياره لإخراج الفيلم، إلا أن وحيد تعهد بإقناع عادل الذي لم يُبد اعتراضا. كان فيلم اللعب مع الكبار قريبًا في رؤيته من رباعية شريف وماهر عواد، وكأنه مرحلة انتقالية من شريف الأول إلى شريف الثاني. أما ماهر عواد فقد تمسك بمشروعه، وحاول إكمال التجربة مع سعيد حامد الذي كان مساعدًا لشريف، وقدما بعد عامين فيلم الحب في التلاجة ثم توقفا.

  لسوء الحظ لم ينجح رهان حمص وحلاوة. فبحلول سنة ألفين كان شريف الثالث منغمسًا في كوميديا جيل جديد، وبات يتنقل من لون سينمائي إلى آخر، مستنفذًا موهبته الواسعة في أفلام دون فكرة أو هَمّ أو لغة مميزة، وكأنه "شهاب-يحيى الفخراني" مخرج الإعلانات قبل انضمامه للأقزام. ومثل شهاب، يحقق شريف نجاحات جماهيرية كبيرة دون مردود فنى موازٍ. أما ماهر فقد عاد إلى الساحة في 2001 بعد توقف دام لثمانية أعوام، وقدم فيلم رشة جريئة، وتبعه بصاحب صاحبه. ولكن حضوره الأبرز حينها –للأسف- كان بعد رحيل زوجته النجمة سعاد حسني، حيث تردد اسمه في رحلة البحث عن حقيقة موتها. ومن بعدها عاد ماهر إلى عزلته لمدة وصلت الآن إلى ستة عشر عامًا.

  لم يُقدِّر حمص وحلاوة مدى قسوة الحياة، ولم يتصورا ما ينتظرهما حقًا في سنة 2000، لا يزالا حبيسي الهامش، ولا يزال غندور مسيطرًا. إلا أن صيحتهما ظلت مُلهمة لأجيال من الحالمين، معبرة عن زمن مليء بالهزائم والانكسارات. ظلت تتردد ويرن صداها فى الآذان.