عبد الكريم مارديني في بيته. تصوير: ميراندا بشارة

"المنصة" تفتح صندوق الثورة الأسود: كيف غَرّد المصريون حين انقطع الإنترنت

منشور الخميس 28 يناير 2016

سلامة الأمن الوطني إنما تعني سلامة أمن البلاد، لا سلامة أمن النظام الحاكم الذي لا تكفل سلامته سوى تعبيره الصادق عن آمال وطموحات الشعب، وفقاً للعقد الاجتماعي الذي قام النظام على دعائمه. وبالتالي لا تكون سلامة الأمن الوطني بتقطيع أوصال المجتمع وفصله عن بعضه البعض وعزل مواطنيه في جزر متباعدة، فالأمن يعني التواصل والتشاور والحوار وليس لأحد في مجتمع ديمقراطي أن يدعي الحق الحصري في صيانة أمن المجتمع؛ الذي يحافظ عليه ويحميه جموع المجتمع بالتواصل والتشاور والتحاور.

 

30 يناير 2011، الدقي

بعد يوم طويل في ميدان التحرير بالقاهرة، اتجهت منى إلى شقة صديقتها التي تقع في شارع جانبي بحي الدقي المزدحم بالجيزة. الشقة مزدحمة بنشطاء وصحفيين مجتمعين في غرفة صغيرة أسموها: "مركز تويتر الثورة"، غير أن تويتر لم يعد يعمل بعد انقطاع الإنترنت عن مصر ابتداء من ليلة السابع والعشرين من يناير، مرورًا بجمعة الغضب وما تلاها.

شقت منى طريقها وسط الزحام، لتدخل إلى غرفة جانبية وتغلق الباب خلفها. اتصلت من الهاتف الأرضي المزود بالخدمة الدولية على رقم (0069149140561)، وجاءتها رسالة تقول:

"علِّي صوتك يا مصري، لسماع تويت صوتي اضغط الرقم 1، لتسجيل تويت صوتي اضغط الرقم 2".

تضغط منى رقم 2 وبصوت يملؤه التفاؤل والهدوء تقول: "أنا منى سيف من القاهرة، أريد للعالم أن يعرف أننا انقطعنا عن الإنترنت..."

على بُعد 6300 كيلومتر جنوبًا، كان علاء عبد الفتاح في مدينة بريتوريا بجنوب أفريقيا يتصل بنفس الرقم كي يستمع إلى رسالة شقيقته منى.


مساء الخميس 27 يناير 2011، زيورخ، سويسرا

بدأت القصة في شقة متوسطة الحجم، تقع فوق تلة في قرية قريبة من مدينة زيورخ بسويسرا. وسط الطبيعة الهادئة المميزة للبلاد، كان المبرمج المصري عبد الكريم مارديني يتنقل بين شاشتي التليفزيون واللابتوب، متابعًا أخبار احتجاجات 25 يناير، مترددًا في اتخاذ قرار بالعودة إلى مصر التي تركها في 2009؛ حين التحق بوظيفة مدير منتجات شركة جوجل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تَدَخّل قَلَق زوجته ميراندا بشارة؛ لحسم قراره لصالح الانتظار وعدم العودة، خاصة بعد اختفاء صديقه وزميله في العمل وائل غنيم، وعدم قُدرة أي شخص أو جهة الوصول لأية معلومة عنه.

مثل العديد من المصريين الذين حالت الحدود الجغرافية دون مشاركتهم في الثورة، كانت شبكة الإنترنت هي وسيلة عبد الكريم وزوجته في ملاحقة الأحداث المتصاعدة على الأرض، والتفاعل معاها.

"الإنترنت هيقطع بالليل"، بدأ هذا الخبر في الانتشار يوم الخميس 27 يناير بعد ظهر القاهرة، ومع هذا لم يتوقع أحد انقطاع الخدمة بشكل تام، فالنشطاء الذين ظنوا أن الحكومة ستكتفي بحجب مواقع الشبكات الإجتماعية، تبادلوا برامج تمكنهم من كسر الحجب.

لم تكن أجواء التظاهر والاحتجاج بعيدة عن عالم المبرمج الشاب، يقول:"مكنتش شاب مصري عادي مالوش دعوة بالحياة السياسية والثورة حركته"؛ فقبل انتقاله للعيش في مدينة زيورخ بسويسرا، مثّل "الغزو الأمريكي للعراق" نقطة تحول في وعيه السياسي، شارك بعدها في عدة فعاليات احتجاجية ضد النظام المصري. وبعد ظهور حركة "كفاية"؛ شارك في مظاهراتها السياسية ضد التوريث عام 2005.

وكغيره من المبرمجين الشباب المنخرطين في الحراك السياسي، انضم مارديني لمجموعة النشطاء الداعمين للبرمجيات الحرة والمصادر المفتوحة "لينكس"، التي جعلته على اتصال بمن صاروا لاحقًا في الصفوف الأولي للثورة المصرية، ومنهم المبرمج والمدون الأشهر: علاء عبدالفتاح. وعندما بدأ عبد الكريم مارديني بالعمل في "جوجل"؛ كان زميله هو وائل غنيم، الذي شغل وقتها منصب مدير تسويق منتجات جوجل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولاحقًا أسس غنيم مع صديقه الصحفي والمدون الشاب عبدالرحمن منصور صفحة "كلنا خالد سعيد" الداعية لتظاهرات الخامس والعشرين من يناير.

حتى صباح جمعة الغضب (28 يناير)، كان مارديني واحدًا من آلاف المصريين بالخارج الذين حلموا بالتغيير؛ وحينما جاء وقته لم يكن في استطاعهم أكثر من المتابعة بحماس، والتضامن، ومشاركة الأصدقاء في مصر، عبر فيسبوك وتويتر، البرامج البديلة التي تمكنهم من التحايل على الحظر المتوقع على بعض المواقع الإلكترونية. ولكن 11 رسالة تلقاها صندوق الرسائل الصوتية لهاتفه؛ أنذرته بأن الوضع في مصر يسوء، وأن الأمور لن تقف عند حجب بعض المواقع للسيطرة على عمليات الحشد. إحدى هذه الرسائل قالت: "بكره هيبقي يوم تقيل"، وانتهت بعبارة: "ابقى اسأل علينا".

 

انفوجراف من تقرير الشفافية الخاص بشركة جوجل عن استخدام منتجاتها في مصر يظهر فترة انقطاع الانترنت عن مصر. المصدر: جوجل

الرسالة التي وصلت إلى بريد مارديني فجر يوم الثامن والعشرين من يناير، قبل دقائق من انقطاع خدمات الهواتف المحمولة، أخبره فيها صديقه رجل الأعمال القاهري غير المهتم بالسياسة؛ أنه بات شبه مؤكد، وفقًا  لمعلومة تلقاها من أحد معارفه بإحدى شركات الاتصالات الكبرى، أن الحكومة لن تكتفي بقطع الإنترنت؛ بل سيشمل المنع الهواتف المحمولة. بالفعل؛ انقطع الاتصال بمصر بعد هذه المكالمة بقليل. قلقه على أسرته وأصدقائه، حال دون ذهابه إلى العمل، قامت زوجته ميراندا بتوصيل طفليهما إلى المدرسة، بينما تصارعت أفكاره مرة أخرى حول ضرورة حجز تذكرة طيران عائدًا إلى مصر.

وفي مساء الجمعة، انتشر على شبكة الإنترنت والقنوات الفضائية الفيديو الشهير"معركة قصر النيل"، الذي وثق زحف المتظاهرين إلى ميدان التحرير، وصمودهم في مواجهة التسليح العارم لقوات وزارة الداخلية.

"مش هتتلم ولو هيعملوا إيه"، فكر مارديني أثناء مشاهدته للمتظاهرين الذين تصدوا بأجسادهم لمدرعات الأمن المركزي. وعلى الفور، حاول الاطمئنان على والدته وشقيقته من خلال الهاتف الأرضي. ومن هنا جاءته فكرة أن يصل الخط الأرضي بشبكة الإنترنت، بعد حجب الحكومة شبكات اتصال الهاتف المحمول والإنترنت، ربما يمكن بهذا تحويل المكالمات إلى تسجيلات صالحة للنشر على الإنترنت في صيغة تدوينات صوتية أو مكتوبة، يمكن بثها لاحقًا عبر شبكة تواصل اجتماعي تحظى بالمتابعة الواسعة دوليًا مثل تويتر.


صباح الجمعة 28 يناير، الساحل الغربي للولايات المتحدة

في ولاية كاليفورنيا، تلقى ستيف كروسَن، اتصالا عبر الإنترنت من صديقه مارديني الذي التقاه قبل سنوات من زمالتهما في جوجل. التقى الصديقان في القاهرة أثناء زيارة قصيرة لكروسَن في مصر. يعرف مارديني شغف زميله الإنجليزي بأحوال الشرق الأوسط، ومتابعته للقضية الفلسطينية. مما شجعه على طلب مساعدته في تحويل الفكرة إلى واقع من خلال استغلال علاقته بشركة تويتر في الولايات المتحدة.

فأجا كروسن صديقه المصري بخبر شراء شركة جوجل لتوها، شركة أخرى اسمها SayNow، الأخيرة تملك البنية التحتية اللازمة لتنفيذ فكرته. فالشركة كانت توفر نحو 50 رقم تليفون أرضي حول العالم، تُمَكِّن المتصل من ترك رسالة صوتية على الموقع، ليتمكن الطرف المرسل إليه من الاطلاع عليها. مما يعني وجود وسيلة جاهزة لتلقي المكالمات الهاتفية في شكل تدوينات صوتية بالفعل.

سرعان ما أصبحت المحادثة الثنائية عبرالإنترنت ثلاثية، بعد أن دعا كروسن إليها أُجوال سينج المسؤول عن الجانب التقني ومؤسس شركة SayNow. بدأت الفكرة تتبلور حول استقبال "تويتات" صوتية عبر هواتف أرضية، ونشرها كملفات صوتية تظهر روابطها تلقائيا على حساب speak2tweet على موقع تويتر.

وبينما كانت زوجته ميراندا توافيه بأخبار الثورة من أمام التلفزيون بعد أن اطمأنت لنوم الطفلين؛ كان مارديني يساهم في صنع التاريخ من داخل غرفة ابنته، التي احتل مكتبها الصغير لأيام متواصلة تالية.


مساء الجمعة، زيورخ - صباح السبت، كاليفورنيا

مع تبلور الفكرة، ظهرت عوائق أمام تنفيذها. أولها عدم توفر خط أرضي مصري في SayNow، لذا قرروا استخدام "أقرب" البدائل لمصر، فكانت الخطوط الأولى من البحرين وإيطاليا وانجلترا.

تقول منى سيف: "ارتباط الخدمة بخط أرضي دولي كان عائقًا أمام انتشارها بين معتصمي الميدان". وهو ما حاول أن يتغلب عليه مارديني لاحقا بالحصول على رقم مصري أرضي ولكنه فشل. اتصل مارديني بأصدقاء داخل جهاز تنظيم الاتصالات، وداخل شركات الاتصالات الكبرى، ولكن الجميع قال إن هذا سيجلب معه عواقب أمنية غير محسوبة، وأن بإمكان الحكومة إلغاء الخط بسهولة شديدة.

لم يكن غياب هاتف أرضي مصري يتيح الخدمة هو العائق الوحيد أمام بدء التفعيل؛ العائق الثاني تمثل في خوف مارديني وزملائه من أن توسع الحكومة المصرية من حظرها للاتصالات؛ كي يشمل الهواتف الأرضية كذلك. أطلق هذا التخوف نقاشًا بين فريق العمل الذي تشكل منذ ساعات، لكنهم انتهوا لمتابعة العمل نظرًا لضعف احتمال لجوء الحكومة المصرية لذلك التصرف الذي يهدد الدولة بالشلل.

ثالث العوائق كان التخوف من أن تنتهي المظاهرات سريعًا، وينتهي معها الاحتياج لتلك الخدمة الجديدة، ولكن مشهد عبور المتظاهرين كوبري قصر النيل، ترك في نفس عبد الكريم يقينا بأن الانتفاضة التي اندلعت ستستمر، أكد هذا اليقين مشهد انسحاب الشرطة مساء الجمعة، وتشكيل اللجان الشعبية.

مع الفارق الزمني بين كاليفورنيا وزيورخ الذي يبلغ عشر ساعات، واصل فريق العمل الصغير ليل الجمعة بنهار السبت، للحصول على خطوط وأرقام الهواتف المطلوبة. واستمر كروسَن في التواصل مع أحد مسؤولي تويتر، للحصول على استثناء لفتح الموقع أمام استقبال روابط أوتوماتيكية للرسائل الصوتية. بينما انشغل مارديني بصياغة الرسالة الصوتية المسجلة التي سيسمعها المتصل بأرقام الهاتف المخصصة. هذه الرسالة ذاتها هي ما استمعت إليه منى؛ قبل أن تترك رسالتها المطمئنة لأخيها علاء.


مساء الجمعة - مساء الأحد، القاهرة ، دبي، زيورخ

الانترنت غائب، ولا توجد وسيلة يعرف بها العالم ما يحدث في ذلك اليوم -الذي توقع الجميع أن يكون عاصفًا- سوى شاشات التليفزيون التي تبث أخبارًا عن انسحاب كامل للشرطة، ومواجهات مسلحة في الأقسام، ثم فتح السجون وهروب المساجين، وأنباء عن سرقة ونهب للأحياء السكنية، وحالة عامة من الفزع.

"كيف سيعرف المصريون بوجودنا؟" كان هذا أول سؤال يقف عنده الفريق بعد الانتهاء من اختبار الخدمة على الخطوط الجديدة من كاليفورنيا وزيورخ. وبناء عليه؛ اتصل مارديني ظهر السبت على الخط الأرضي بأحد أصدقائه المصريين، طالبا منه اختبار الخدمة الجديدة.

جاءت المبادرة من أفراد صاغوها وعملوا عليها بجهودهم الفردية، دون أن تتدخل الشركتان الكبريان جوجل وتويتر بشكل مباشر؛ مما جعل الخدمة الجديدة تفتقر للقدرات الدعائية للشركتين، وعرف العالم بوجود الخدمة لأول مرة - يوم 30 يناير- عبر تغريدة على حساب مارديني الشخصي على تويتر، الذي كان يتابعه بالأساس عدد محدود نسبيًا من الأصدقاء في مصر، وبعض زملاء العمل. ولكن هاشتاج #Jan25 حمل التغريدة إلى عدد أكبر من المتابعين. يقول عبد الكريم للمنصة: "راجعت التغريدة التي صارت الآن تاريخية مساء 28 يناير الجاري، ووجدت أنني كتبتها بخطأ لغوي ولم انتبه لذلك أبدًا. هذا ذكرني بالإيقاع اللاهث الذي كنا نعمل به".

كان نجيب جرار وقتها مقيمًا في دبي حيث يعمل في تسويق منتجات جوجل في الشرق الأوسط، وكان زميلاً وصديقًا لوائل غنيم، وعلى اتصال شخصي بأصدقاء يعملون في قنوات العربية والجزيرة، ويتابع مع عبد الكريم لحظة بلحظة تطور فكرة بث المكالمات الصوتية عبر تويتر. وبهذا لم تمض ساعات قليلة على نشر تغريدة عبد الكريم؛ حتى كانت أرقام الهواتف الأرضية تحتل مكانا دائمًا على شريطي الأخبار في الفضائيتين الأكثر متابعة لدى المصريين والعرب. يقول جرار للمنصة: "كنا نتابع الأحداث لحظة بلحظة، ونتحدث سويًا ونحاول أن نطمئن على أصدقائنا في مصر".

اختفاء صديقه وزميله وائل غنيم كان دافعًا قويًا لديه للبحث في كافة الأخبار المتعلقة بالثورة، وعندما انقطعت خدمات الإنترنت، وجدها أسوأ قرار أقدم عليه نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك. يقول جرار: "كنت أتحدث مع عبد الكريم عدة مرات في اليوم، فهو صديق شخصي لي. وكنت متابعًا لـ speak2tweet منذ أن كان فكرة، وحتى جرى اختباره ووجدناه يعمل جيدا.

ويضيف "أخذت 3 ساعات أفكر كيف يمكنني أن أعرّف الناس في مصر بوجود هذه الخدمة؛ بينما انقطعت عنهم خدمات الرسائل النصية والإنترنت؟ هنا جاءت فكرة التليفزيون، ولكن تطلب الأمر أولا أن تصدر جوجل بيانًا ما، حتى يحث الإعلام على الكتابة والنشر عن الموضوع. وثانيا علينا اختيار القنوات الأكثر مشاهدة للمصريين وقتها. وبالفعل تم نشر البيان الذي صاغه عبد الكريم  واتصلت أنا بوسائل إعلام عديدة أذكر منها قنوات الجزيرة والعربية والسي إن إن العربية، والتليفزيون الفرنسي، والإذاعات الأمريكية ووكالات الأنباء الأردنية والمصرية".

حين اتصل بالإعلام، كان على جرار أن ينفق بعض الوقت في شرح التقنية للإعلامين "كان الأمر غريبًا عليهم. ولكن بعد شرح الخطوات التي على المتصل أن يقوم بها؛ أعجبوا بالفكرة وبساطة تنفيذها".

صباح الاثنين 31 يناير، ومع انتشار خبر تفعيل الخدمة؛ تدفقت المكالمات، معظمها من مصريين بالخارج أو أجانب متضامنين مع الثورة. وهو ما كاد أن يبتعد بالمبادرة عن عن تحقيق هدفها الأصلي بإسماع صوت المتظاهرين والمواطنين المحرومين من الإنترنت داخل مصر. ولكن اختلف الأمر، عندما التقط بعض المتظاهرين تلك الأرقام من شريطي أخبار الجزيرة والعربية، ونقلوها إلى لافتات استقبلتها أعمدة الإضاءة بميدان التحرير.

تلقت الخطوط الدولية التي أعلن عنها عبد الكريم مارديني أكثر من 1000 مكالمة مسجلة، مما يصعِّب من القدرة على تصور عدد المكالمات التي كان من الممكن أن تتلقاها الخدمة، لو تمت إتاحة أرقام اتصال محلية.

بعد ثلاثة أيام من العمل المتواصل دون نوم أو راحة، بدأت مكالمات الميدان في الورود إلى الهواتف المخصصة. وعندها؛ التقطت أذنا عبد الكريم عبارة زوجته ميراندا: "قوم استحمى ونام"، ففعل.


الأحد 30 يناير 2011، الولايات المتحدة

في نفس الوقت، على بُعد آلاف الأميال، كان الشاب الأمريكي برايان كونلي يقود سيارة تقل عائلته من ولاية فلوريدا، متجها إلى ولاية أوريجون في أقصى الساحل الغربي للولايات المتحدة، حيث سينتقلون للمعيشة بعد عام  قضوه في الهند. كان برايان مشتتًا أثناء القيادة وهو يتابع الأخبار الواردة عن مصر.

برايان هو أحد المؤسسين لمنظمة إعلامية مهتمة بصحافة الفيديو في مناطق النزاع، تدعى أخبار العالم الصغير small world news، وحسابه على تويترإلى يومنا هذا يدعى brianbaghdad، بسبب شغفه الصحفي بنقل أصوات الناس بعد الغزو الأمريكي للعراق، الذي دفعه للسفر لبغداد، ونقل أصوات العراقيين وقت الغزو.

 

برايان كونلي، مؤسس Alive.in/Egypt ومنسق فريق المتطوعين.

أقنع برايان زوجته أن يتوقفا لثلاثة أيام في منتصف الطريق، يقضياها في منزل والدها في ولاية أريزونا حتى يتسنى له متابعة أخبار الثورة عن كثب، ومنها أخبار حجب الاتصال. وخلال تلك الأيام الثلاثة، انضم برايان إلى الفريق العامل على نقل أصوات المصريين عبر تويتر، ونجح في إطلاق صفحة مخصصة للتسجيلات ونصوصها على موقع أسسه حديثًا، وإطلاق الدعوة للمتطوعين للمشاركة في ترجمة التويتات الصوتية. بعدها استقل سيارته مرة أخرى واستأنف الرحلة إلى أوريجون.

قبل قيام الثورة بقليل، حصل برايان على اسم النطاق www.alive.in، وكان ذلك بغرض التغلب على ضعف إمكانيات الأرشفة والبحث المتقدم في تويتر في ذلك الوقت. في يوم 30 يناير 2011، بعدما نشر عبدالكريم مارديني تغريدته القصيرة الداعية لاستخدام Speak2tweet، قرر برايان أن هذا هو الاستخدام العملي الأنسب لموقعه الجديد، وقام بإنشاء صفحة خاصة على الموقع لتغريدات حساب تويتر الذي ينشر رسائل المصريين الصوتية، كي يتم أرشفتها وتسهيل البحث النصي فيها. لم يمض وقت طويل حتى قام شخص لا يعرفه برايان يدعى حبيب حداد بتقديمه إلى ستيف كروسَن، الذي عرفه بدوره على عبد الكريم مارديني. يقول برايان: "اتصالي بالمجموعة التي تعمل على speak2tweet قصة معقدة، ولكن هكذا يعمل عالم الانترنت المتشابك".

يقول برايان للمنصة: "فكرت أن الملايين من الناس لن يتمكنوا من معرفة ما يحدث في مصر، علينا ترجمة التسجيلات المسجلة باللغة العربية إلي الإنجليزية". أطلق برايان دعوة علي تويتر طلب فيها مترجمين متطوعين، للمشاركة في تحويل الملفات الصوتية إلى نصوص مكتوبة باللغة الإنجليزية. ثم أسس مجموعة مغلقة على فيسبوك للمتطوعين.

وبحلول يوم الإثنين 31 يناير؛ وبينما كان مارديني يعمل على تطوير تقني للخدمة بحيث يمكنها من تحديد الموقع الجغرافي للمتصل من خلال الرقم الذي يتصل منه، لإضافة بلد المتصل تلقائيا بالرابط المنشور للمكالمة على حساب الخدمة على تويتر؛ كان برايان يتواصل مع ثلاث مجموعات شكلت نواة المترجمين والمتطوعين من ثلاث مؤسسات؛ ميدان، ويملي ومؤسسته هو small world's news. يقول برايان: "كان هذا المشروع مثالا حيًا علي كيفية استغلال الإنترنت للتعاون بين الناس، لتحقيق أفضل نتيجة ممكنة دون وجود أحد يفرض عليهم أوامر وتعليمات".

يقول آرون هسليج، أحد المشاركين في تنسيق المتطوعين، في شهادته المنشورة عن التجربة: "سبب نجاح Alive in Egypt هو أننا فكرنا في المحتوى والأشخاص قبل التفكير في التقنية وتفاصيل التطبيق. فمهما كانت جودة الأدوات؛ ظلت التقنية بها قصور. وساعدنا قصور تلك الأدوات على التواصل والتقارب مع بعضنا البعض كفريق وعلى حل المشكلات بسرعة وبطرق مختلفة".

عبر خدمة ملفات جوجل المشتركة Google docs، كان 1400 متطوع يعملون سويًا على ملف تشاركي لترجمة أصوات المصريين، التي حملها أكثر من 1000 تسجيل صوتي تلقتها خدمة  Speak2tweet. تابع برايان هذا الفريق بعدما كلف ثلاث سيدات مصريات بإدارة المتطوعين الذين كرسوا وقتهم للمشروع. من بين الفريق الضخم تم تقسيم العمل بين تفريغ المكالمات وترجمتها، وبلغ عدد المترجمين المتفرغين 200 مترجم، إلى جانب المساهمين الآخرين.

في شهادتها المنشورة على مدونة ميدان تقول نور العلي، إحدى المترجمات المتطوعات: "كان الأمر تلقائيا، بلا مجهود يذكر، وكان جميلا. كنا نعمل باستخدام أدوات غير معتادة للترجمة: سكايب، وثائق جوجل، تويتر، وفيسبوك. ببطء ولكن بثبات. وبعدما بدأنا العمل، انضم إلينا متطوعون للترجمة إلى عدة لغات: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الهولندية، حتى اللغة الأردية".

"فيديو من إعداد موقع The Next Web يظهر عمل أكثر من 1400 مترجم متطوع على نفس وثيقة جوجل في نفس اللحظة للترجمة إلى عدة لغات وإيصال صوت المصريين للعالم"

في تلك الأثناء، قررت جوجل وتويتر أن تصدرا بيانًا مشتركًا يعلن عن وجود الخدمة التي أطلقها أحد موظفي الأولى، دون أن تتبناها الشركتان. فكتب مارديني وسينج البيان الصحفي الوحيد المنشور على مدونة أخبار جوجل بتاريخ 31 يناير. وبعدها بدأت وسائل الإعلام الدولية تهتم بتغطية الحدث، وإن أظهر معظمها أن جوجل وتويتر هما من أطلقا المبادرة، التي أطلقها وعمل عليها أفراد مساندون للثورة في ذلك الوقت. وتشي الحالة المتواضعة التي تبدو عليها الصفحة الحاوية لنتاج هذه المبادرة، بعدم وقوف الشركتين الكبريين خلف الخدمة، بكل ما تملكان من قدرات تقنية.

تلقت الخدمة خلال الأيام الأولى طوفانًا من مكالمات المصريين المغتربين، خاصة المقيمين باستراليا والسعودية وكندا والولايات المتحدة، ممن تتوفر لديهم بالفعل خدمات الإنترنت. يعلق مارديني: "الغرض من الخدمة في البداية، لم يكن مفهومًا للبعض. كانت الرسائل أشبه بمكالمات المشاهدين في برامج التوك شو". فالخدمة التي تتيح إمكانية الاستماع إلى رسائل المتصلين الآخرين، أصبحت وسيلة المصريين بالخارج لإظهار دعمهم النفسي للمتظاهرين في التحرير.

في أول فبراير ظهر موقع  Alive/Egypt، للنور بنصوص مكتوبة لتسجيلات المصريين التي أودعوها خدمة speak2tweet، وهو ذات التوقيت الذي بدأت فيه اللجان الإلكترونية الداعمة للحزب الوطني والرئيس الأسبق حسني مبارك تعود لنشاطها، عقب الخطاب الذي ألقاه مبارك عشية موقعة الجمل. وجدت تلك اللجان في الخدمة هدفًا لبث الرسائل المؤيدة لمبارك، والداعية لمساندة استكماله للفترة الرئاسية التي كانت ستنتهي في سبتمبر 2011. وظل الموقع ينشر ترجمة اتصالات المصريين بعد تنحي مبارك حتي مارس 2011.

كانت تجربة الموقع الثرية، دافعا لمؤسسة برايان أن تطلق مواقع أخرى مماثلة لتغطية الثورة في ليبيا وسوريا.


مساء الأحد 30 يناير، القاهرة

أثناء مشاركتها في اعتصام التحرير يوم 30 يناير شاهدت منى سيف لافتة يحملها متظاهر يجول الاعتصام، كتب عليها أرقام الهاتف الدولي، مشجعًا المعتصمين على تسجيل رسالة صوتية وإرسالها مجمعة إلي الخدمة، بغرض كسر الصمت التي فرضته الحكومة على المحتجين بإقدامها على قطع الإنترنت. حدث ذلك بعد ساعات من انتشار تغريدة مارديني عن الخدمة، ووصول الأرقام إلى شريط أخبار قناة الجزيرة الفضائية. وبعدها، أصبحت الخدمة معروفة في ميدان التحرير، يتذكر مارديني قول أحد أصدقائه: "الرقم كان مكتوبًا على لافتات معلقة على عواميد النور بالميدان".

في المساء اتجهت منى إلى منزل الصحفية الشابة الذي كان أحد نقاط الاتصال القليلة الباقية لمصر مع العالم الخارجي بين يومي 28 و30 يناير 2011، لكون صاحبة المنزل مشتركة عبر مزود خدمة الإنترنت "نور"، آخر شركة اتصال نفذت قرار الحكومة بقطع الإنترنت. كل ليلة كان النشطاء والصحفيون يتجمعون في منزلها، وينشرون على حساباتهم على موقع تويتر ما التقطته عدسات كاميراتهم من صور وفيديوات، ويكتبون في تغريدات ما لا يعلمه أحد عن الجزيرة المنعزلة بفعل "انقطاع خدمات الاتصال والإنترنت" في مصر.

 

منى سيف في ميدان التحرير

بعيدًا عن الغرفة الممتلئة بصخب رفقاء التحرير، وأثناء متابعتهم لنشرات القنوات التليفزيونية التي تقتبس من تغريداتهم، دخلت منى إحدى غرف النوم وأغلقت الباب، واتصلت من خلال هاتف أرضي بخدمة Speak2tweet، لتسجل رسالتين إحداهما بالعربية لطمأنة أخيها علاء عبدالفتاح، الذي كان يقيم مع أسرته في ذلك الوقت في جنوب إفريقيا، والأخرى كانت باللغة الإنجليزية.

جاء صوت منى في الرسائل المسجلة، هادئا ومتفائلا، على النقيض من حالة الهلع التي كانت أصابتها مساء الخميس 27 يناير، بعد تداول أخبار قطع الإنترنت. فعشية جمعة الغضب؛ دفعها خوفها من "وقوع مذبحة في الشوارع محدش هيعرف عنها حاجة"، إلى استعارة خط هاتف دولي، اتصلت من خلاله بكل الأرقام الدولية للصحفيين الذين حاولوا التواصل معها خلال الأيام الثلاثة الأولى للثورة، "كنت عاوزه أقولهم يتصرفوا بأي شكل، يغطوا أخبارنا ويوصلوا صوتنا للعالم".

"المرة دي أنا عارفه أنا هعمل إيه.. أنا هروح ميدان التحرير"، هكذا اختتمت منى رسالتها الصوتية التي أملتها من بيت صديقتها الصحفية مساء الثلاثين من يناير. وبحلول صباح اليوم التالي، كان علاء في جنوب إفريقيا يستمع إلى رسالة شقيقته الصوتية. كان هذا آخر اتصال بينهما؛ قبل أن يلتقيا بعدها بيومين في الميدان، بينما كانت الجمال تقتحم التحرير فيما عُرِف بيوم موقعة الجمل.


القاهرة - زيورخ.. حصاد 5 سنوات

قبل أن تصبح تغريدات المصريين الصوتية على حساب تويتر، مجرد روابط تالفة، اهتمت الفنانة المصرية المقيمة بألمانيا هبة أمين بتضمينها في عدة أفلام قصيرة صنعتها ونشرتها على موقع يحمل نفس اسم خدمة Speak2tweet.

لاحقا، تمت الاستعانة بتجربة مارديني في العديد من الكتابات الأكاديمية في مجال علم الاجتماع والسياسة. وعلى النقيض، لم يعن أي من أفراد أو منظمات المجتمع المدني في مصر المهتمين بتوثيق الثورة بالتواصل مع مارديني، للحصول على أرشيف المكالمات الصوتية، يقول عبدالكريم مارديني صاحب فكرة الخدمة ومُطْلِقها للمنصة: "أنا شخصيا مكنتش أعرف أن التسجيلات لسه موجودة لحد يومين فاتوا".

ورغم أن الخدمة استخدمت لاحقًا في دول عربية أخرى مثل ليبيا وسوريا، اللتان لحقتا بركب الثورة المصرية والتونسية، ودول أفريقية مثل كينيا بعد قطع الإنترنت في انتخابات 2013، كما استخدمت في جنوب السودان؛ إلا أنها لم تحقق نفس قدر الانتشار والاستجابة اللذين تلقتهما مع تطبيقها لأول مرة في مصر، كما قال برايان.

ولكن بالنسبة للمصريين أنفسهم، لم تعد speak2tweet الآن أكثر من تسجيلات يعودون إليها كل حين، بحثا عن روح كان يملؤها التفاؤل والأمل بتغير أحوال بلادهم إلى الأفضل. كما فعلت منى سيف مع نهاية عام 2011، حين تلاحقت الأحداث الدرامية للثورة: "كانت التسجيلات دي إحدى الطرق اللى باسترجع بيها ومضات ال18 يوم. لتشجيع نفسي كنت بأرجع أسمع رسالتي ورسائل غيري".

توالي المنصة قراءة محتويات الصندوق الأسود للثورة:

 

اعترافات ووصايا ما قبل الموقعة

 

مكالمات التنحي.. فرح وفخر ومخاوف