حمائم أم صقور.. بم ينصحنا العِلْم لحظة المواجهة؟

منشور الأحد 25 مارس 2018

 

 

مع كل صباح جديد تُفرض علينا صراعات جديدة، ودائما أنت بين خيارين؛ هل تذهب نحو معركة ومواجهة مفتوحة كصقر يضرب بمخالبه؟ أم تلتزم بخيار السلام مهما نالك وعلى أي سبيل جرت عليه الأحداث!

ما دام هناك آخر؛ فهناك صراع. يبدأ الأمر عندما تجلس خلف عجلة قيادة سيارتك وتسير في طريق يشاركك فيه قائد عربة آخر. أمامكما مساحة خالية تكفي سيارة واحدة، فهل تنتزعها كصقر؟ أم تتنازل عنها كحمامة؟ لا يقف الأمر عند هذا السيناريو، بل يمتد ليسري على كافة منافسات الحياة مع الآخرين، حتى منافسات الشركات العابرة للقارات وصراعات السياسة الخارجية والهيمنة بالنسبة للدول.

مصير الصراع لا يتوقف على قرارك فقط، بل يتعلق كذلك على قرار الطرف الآخر، فلو أنك أسرعت نحو المكان الخالي وفعل هو نفس الشيء، فربما يفقد أحدكما حياته في حادث السير الناجم عن هذين القرارين، وقتها ربما كان اختيار أحدكما أن يكون حمامة وأن يدع فرصة المرور والاستيلاء على المساحة الخالية للطرف الآخر، هو القرار الصحيح كي تنجوا بحياتيكما. 

كيف يمكنني اتخاذ القرار السليم إذن؟ هل يمكن للعلم أن يساعد؟

العلم يمكنه أن يحلل معتقدات البشر وتصرفاتهم، وتبايُناتهم واختياراتهم الأخلاقية، يمكنه دراسة معتقداتهم وما يؤمنون به، ويستطيع أن يستخلص -أحيانًا- دليلا إرشاديًا بكل ذلك. دليل يمكنه التنبؤ بتصرفك التالي، وأن يدلك على أي الاختيارات أفضل ومن أية وجهة.

لكنه في النهاية يمدك بالمعلومات فقط، أما الاختيار فيبقى رهنًا بك وبما تعتقد فيه وما تظن كونه أخلاقيًا. ومع هذا؛ لا يمكن أن نتوقف عن الإيمان بذلك الطريق الذي يعبِّده العلم، وتلك البيانات التي يوفرها لنا.

نظرية الألعاب

كان أول حديث عن نظرية الألعاب في أربعينيات القرن الماضي. وُضعت النظرية للتنبؤ بسلوك الأشخاص اجتماعيا واقتصاديا، عبر تحليل دوافعهم والطريقة التي يتحركون بها. تستند النظرية لفرضية أننا نعيش في عالم تتحكم فيه تصرفاتنا؛ لكننا محكومون كذلك بتصرفات الآخرين. الأمر يشبه لعبة الشطرنج، لا يكفي من أجل المكسب أن تلعب جيدًا وأن تبتكر خططًا للفوز؛ وإنما يتعين عليك أن تتوقع حركات الخصم.

بدأت نظرية الألعاب من أجل تحديد ورسم العلاقات التي تربط الأشخاص أثناء تعاونهم أو تنافسهم، والتنبؤ بردود أفعالهم وكيف سيتصرفون، لترسم تصوُّرًا لكل تلك الاستراتيجيات وتحلل أسبابها ونتائجها بشكل علمي تحت مختلف الظروف والمواقف.

لكن سرعان ما استطاعت رياضيات نظرية الألعاب أن تتسرب إلى مجالات أخرى، منها على سبيل المثال منافسات الكائنات وصراعاتها في البرية، وتم تضمينها في نظريات التطور البيولوجي لترسم علاقات باتت مؤكدة وراسخة.

حمائم أم صقور؟

واحدة من أوائل التطبيقات لنظرية الألعاب في منظومة التطور، كانت بخصوص نشوء وتطور مستويات العدوان عند الأفراد. يخبرنا التطبيق أن التنافس والصراع ينتهي دائما إلى توازن، يشبه ذلك التوازن ما نعرفه في علم الاقتصاد بتوازن ناش (ناش الذي قام فيلم beautiful mind  بتخليد سيرته).

ينص توازن ناش أنه في نظرية الألعاب قد ينتهي الحال إلى أن يتبنى كل فرد استراتيجية ثابتة يلعب بها ولا يميل لتغييرها لأنها تحمل -في نظره- الرد الأمثل على استراتيجيات الآخرين في اللعب.

فلنفترض أن لدينا عدد من الأفراد ضمن مجموعة ما، هؤلاء الأفراد يتنافسون على شيء، ما وليكن التزاوج أو السيادة على إقليم أو مورد للمياه أو الغذاء. لدينا هنا احتمالين للطريقة التي سيواجه بها الفرد منهم منافسه من أجل إعلان السيطرة، فهو إما سيواجه متبنيًا استراتيجية الحمائم Dove، أي أن يتخذ موقفًا تَجَنُّبيًا عند كل منافسة بألا يقاتل، أو أن يواجه متبنيًا استراتيجية الصقور hawk بأن يعمد للقتال عند كل مواجهة.

فلنفترض أن المنافسة على قطعة من الذهب، فاحتمالات الربح مع الاستراتيجيات المختلفة سيكون كالتالي: إذا ما تبنى المتنافسان معا استراتيجية الحمائم، فعندها من الممكن أن يحصل أي منهما على القطعة الذهبية، وفي هذه الحالة فسيكون المكسب المحتمل لأي منهما هو نصف قطعة الذهب. أما إذا تبنى أحد الأفراد استراتيجية الحمائم في حين تبنى المنافس الآخر له استراتيجية الصقور، فعندها سيفوز دائما الصقر الذي يعلن رغبته في القتال، بينما يخسر الحمامة الذي لا يقاتل وبالتالي ينسحب مسلما. في هذه الحالة سيكون مكسب الصقر قطعة الذهب كاملة في كل مرة، بينما مكسب الحمامة لا شيء.

عندما يتبنى الفردان معا استراتيجية الصقور فإن إمكانية الفوز بالمغنم لديهما ستكون متساوية كذلك، إلا أن الرابح هنا لن يكون مكسبه بأي حال من الأحوال مساويا لقطعة الذهب كاملة، ذلك لأنه في سبيل الربح تعرض لإصابات وخسائر جراء المعركة مع الصقر المنافس. أي أن مكسبه هو قطعة الذهب مطروحًا منها قيمة الإصابات التي ألمت به، والأموال التي سينفقها في سبيل التعافي. ولأن الفردين قد لعبا كصقور، فاحتمالات فوز أي منهما متساوية، وعلى هذا فاحتمالات المكسب لأي فرد فيهما ستكون نصف قطعة الذهب فقط -على اعتبار أنهما يتبادلان الفوز- مطروحًا من ذلك النصف قيمة الإصابات التي ألمت بهما، وما عليهما دفعه من أموال في سبيل التعافي من آثار المعركة.

الآن فلنفترض أن هناك جماعة متوطنة resident population يلعب كل أفرادها كحمائم، فإن الاستراتيجية الأمثل لأي متطفر- متطور mutant، هي أن يلعب كصقر، ذلك لأنه كل مرة يلعب فيها صقرًا؛ فإن خصمه من الجماعة سيهرب تاركا له المغنم. وهكذا يعمل الانتخاب الطبيعي في صالحه. لكنها ليست النهاية، نقطة النهاية لهذا الموقف هي أن يعمل الانتخاب الطبيعي على فناء كل تلك الحمائم التي تنهزم دائما أمام أي صقر، لتبقى الصقور فقط.

لكن ماذا لو افترضنا أن جماعة يلعب كل أفرادها كصقور؟ ستكون أنسب استراتيجية لأي متطفر هي أن يلعب كحمامة، لكن ذلك في حالة واحدة، هي أن تكون الخسائر من المعركة التي ستدور أكبر من مكاسب المغنم نفسه، أي أن التعافي (تعافي الصقور) من الإصابات الناجمة عن المعركة يتكلف قيمة أكبر من مكسب المعركة ذاتها، عند هذه الحالة فاللعب كحمامة وعدم خوض القتال وتركه للصقور فيما بينها هو الذي يُزيد من كفاءة الفرد وعلى هذا يمنحه أفضلية، فهو يمكنه من تجنب الإصابة. في حين أن ذلك الذي دخل المعركة كصقر، قد تكبد إصابات أثرها أكبر من قيمة أية مغانم يمكن أن ينالها عندما ينتصر بعد الحرب، هكذا سيبيد الصقور بعضهم البعض، وتبقى الحمامة لتغنم المكسب. 

                                            

على هذا فالاستراتيجية المُثلى تبنى على تصرفات الآخرين، لكن ما هي الاستراتيجية المثلى في هذه المجموعة التي تلعب دائما كصقور، وتواجه إشكالية أن قيمة المغنم أقل من فداحة الإصابات الناجمة عن الصراع؟ أي أن المكسب من القتال لن يعوض الخسارة التي تصيب هؤلاء الصقور.

 اللعب كحمامة طوال الوقت يمكن أن تصبح استراتيجية جيدة. لكن الاستراتيجية المُثلى هي اللعب كصقر لكن ليس دائما، وإنما عند تساوي الغنيمة التي يحصل عليها الفائز مع نسبة الإصابات التي سيتكبدها.

 لتوضيح الأمر فلنفترض أن الفائز سيحصل على شجرة توت إذا ما فاز، لكنه متى انهزم فسيحتاج علاجه لشجرتي توت، حينها تكون الاستراتيجية المثلى لذلك الكائن أن يلعب صقرا بنسبة 1 إلى 2 أي نصف عدد المرات. هذه هي الاستراتيجية المُثلى التي يمكن استنتاجها بإجراء بعض الحسابات. 

على هذا فلو كانت لدينا مجموعة متوطنة تلعب كصقور في حدود النسبة المذكورة -عندما تكون تكاليف المعركة أكبر من مكاسبها-؛ إذن فكفاءة الفرد فيها مثالية. وعلى هذا فالاستراتيجية المثلى لأي متطفر ينبغى أن متطابقة مع استراتيجيتهم، وإلا سيكون الانتخاب الطبيعي ضده. هذه النقطة هي نقطة تحقُّق توازن ناش. لأنه متى أصبح جميع الأفراد يلعبون صقورًا في حدود تلك النسبة 1 إلى 2، فإنه لن يتم الانتخاب ضدهم أبدا، لأنهم يتبنون الاستراتيجية المُثلى التي لا يمكن لأحد أن يلعب أفضل منها.

ماذا إن كانت قيمة المكسب أكبر من فداحة الإصابات التي تحدث من المعركة؟ أو كانت القيمتان متساويتين؟ الاستراتيجية الأمثل في هذه الحالة ستكون في اللعب كصقر دائما.

هذه هي النقاط التي يتحقق عندها توازن ناش وتمثل استراتيجية تطورية مستقرة evolutionary stable strategy.

الشاهد هنا أن نقاط التوازن هذه تمثل الاستراتيجيات المُثلى للفرد فقط، لكنها ليست المثلى للجماعة ككل. فكما بينَّا؛ الاستراتيجية المثلى للجماعة التي ستضمن أكبر كفاءة هي أن يلعب كافة أفراد المجموعة دائمًا كحمامة، حينها سيكون المكسب دائما موزعًا على كل الأفراد، وسيتم اقتسام الموارد بشكل عادل دون أي خسائر تخصم من قيمة ذلك المغنم بسبب الإصابات التي تلحق بالأفراد المتصارعة - حيث لا صراع هنا-. لكن ما يقف ضد تبني الطبيعة لتلك الاستراتيجية هو أن أي فرد متطفر  يلعب كصقر بينهم، ستكون فرصه ومكاسبه -كفرد- أكبر، لذا فستنتخبه الطبيعة.

الثابت أن كل فرد يحاول تعظيم مكاسبه بغض النظر عن الكفاءة الكلية للجماعة والتوزيع المثالي العادل، لذا فالأفضل للفرد كي يتحقق توازن ناش، هو أن يلعب دائما كصقر متى كانت الفائدة المرجوة من المكسب أكبر من الخسارة (الإصابات). أو اللجوء للعب كصقر بنسبة تعادل قيمة المكسب مقابل الخسارة من الإصابات، وذلك في حالة كون الخسائر من القتال اكبر من المكسب المنتظر.

يبدو أن قواعد المنافسة البدائية تخبرنا أن الأفضل لنا في عالم غير آمن أو عادل في أن نلعب كصقور. لكن اللعب كصقور يحمل احتمالات كبيرة بالخسائر. فالمكسب يُخصم منه الإصابات التي سببتها المعركة. في حين أن اللعب كحمائم هو الاستراتيجية المُثلى للجميع، متى التزم بها الجميع ولم يحاول أحدهم أن يخادع ويلعب كصقر لينال المكسب كله.

اللعب كحمائم هي الاستراتيجية الأفضل في عالم آمن وعادل، فذلك العالم العادل الذي يلعب فيه الجميع كحمائم؛ هو عالم الفائدة القصوى للجماعة..