صورة تعبيرية
جنّة مارك زوكربرج الزرقاء

مذكرات ميّت افتراضي: أو كيف طردني فيسبوك من الجنة الزرقاء

منشور الثلاثاء 6 مارس 2018

لقد تم تعطيل حسابك، إذا كانت لديك أسئلة يرجى زيارة موقع الأسئلة الشائعة للتعرف على المزيد.

هل حدث معك وتلقيت رسالة تعطّل حسابك عند محاولتك الدخول إلى فيسبوك؟ إذا حدث ذلك فذلك يعني أنك خالفت إحدى القواعد أو السياسات الحاكمة للموقع، أو معايير المجتمع والتي تنطوي على اتفاق سياسة الاستخدام المبرمة بينك كمستخدم وبين إدارة فيسبوك. للوهلة الأولى قد يبدو الأمر طبيعيًا؛ موقع إلكتروني ربما قد خالفت شروط استخدامه فعطّل حسابك وحظره. قد يحدث هذا اﻷمر مع أي من المواقع الإلكترونية المستخدمة سواء جوجل أو أمازون أو تويتر. ولكن مع فيسبوك يبدو الأمر أكثر تعقيدًا وله تبعات قد تعاني منها إذا كنت مستخدمًا نهمًا لموقع التواصل الاجتماعي الأشهر والأقوى في العالم. فمع وصول عدد مستخدميه إلى قرابة ملياري مستخدم نشط في عام 2017، أصبح شبكة التواصل الاجتماعي الأولى عالميًا بلا منازع. 

الطرد من الجنة

مئات الملايين يتبادلون أخبارهم وآراءهم حول ما يجري من حولنا، دعوات أفراح، وإعلان عن وفاة قريب، أو ميلاد طفل، مرورًا بصور عائلية، نجاحات شخصية، احباطات، أصبحت معظم العلاقات الاجتماعية للفرد مع محيطه الاجتماعي والأسري، تُعرض من خلال نافذة زرقاء صغيرة يُمكنك من خلالها التعرف على ما يجري من حولك. ولكن كل هذا قد يُحظر عليك استخدامه إذا أصدر فيسبوك قرارًا بطردك من جنته الزرقاء.                                      

 

 

في الثالث عشر من فبراير الماضي، استيقظت متأخرًا على موعد الذهاب إلى العمل، ارتديت ثيابي مسرعًا، وانتزعت هاتفي من الشاحن، وانطلقت تجاه محطة المترو للحاق بموعدي في أسرع وقت ممكن. مرت دقائق قليلة قبل وصول المترو، نظرت إلى ساعة هاتفي ثم بدأت ممارسة الطقس اليومي؛ تصفح فيسبوك. إلا أن الأمر لم يمر كما في المرات العديدة السابقة، شاشة زرقاء لتطبيق فيسبوك تبدأ في التحميل للحظات ثم يتبعها رسالة: "لقد تم تسجيل خروج حسابك". الأمر غير اعتيادي بالمرة، ولكنه وارد، إذ ربما يحاول أحدهم اختراق حسابي مع تفعيلي اجراءات التأكد والحماية إضافية. حتى تلك اللحظة لا شيء يدعو للقلق، فالأمر بديهي أن أقوم بمعاودة الدخول بعد كتابة بريدي الإلكتروني وكلمة السر، تبدأ دائرة بيضاء تتوسط الشاشة الزرقاء - المميزة في تطبيق فيسبوك - في الدوران، وعيناي تبدآن أيضًا في الدوران حول الدائرة البيضاء تزامنًا مع إصدار الإرشادات المعتادة للمذياع الداخلي في عربة المترو قرب الوصول للمحطة القادمة "الباب يفتح جهة اليسار، برجاء عدم الإتكاء على الأبواب". لتظهر رسالة تخبرني أنه تم تعطيل الحساب. بدا الأمر عطلاً مؤقتًا سيعود بعده حسابي إثر مراسلات معتادة مع إدارة فيسبوك على البريد الإلكتروني.  

 

 

التماس العودة 

لا يُعطيك فيسبوك اختيارات جادة يُمكنك من خلالها استرجاع حسابك بعد تعطيله، كما في حالة الإيقاف المؤقت للحسابات الإعلانية والتي يمكنك التواصل فوريًا مع خدمة الدعم الفني. يبدو الأمر بديهيًا؛ دعم فني على مدار الساعة مقدم من قبل فيسبوك طالما لازالت هناك إعلانات وأرباح يمكن جنيها بتفعيل حسابك، ولكن الامر لم يعد كما في السابق، فمع فترات تسجيل دخولنا على فيسبوك والتي تمتد قرابة عشر سنوات أو ربما خمس سنوات. ربما لم يخطر ببالك إمكانية البدء في قضاء أيام دون تصفح ما يجري من حولك عبر النافذة الزرقاء.  فعقب تعطيل حسابك، لا يُتيح فيسبوك وسيلة للتواصل إلا بتقديم "عريضة التماس" مرفق معها صورة واضحة لإثبات هويتك الشخصية، مثل البطاقة الشخصية أو جواز السفر أو رخصة القيادةـ وذلك للتحقق من أن الحساب يخص فعلًا مُقدم الإلتماس ولا يعود شخص آخر، إلى جانب تلك الخطوة، لابد من إضافة بريد الإلكتروني واسم الحساب الذي تم تعطيله، ورقم هاتفك مع معلومات إضافية تشرح فيها لماذا يجب قبول التماسك وإعادة تفعيل حسابك مجددًا.  الأمر أصبح كما لو إنك تُقدم التماسًا إلى المحكمة للإفراج، أو التماسًا لهيئة حكومية من أجل إعادة ابنك إلى المدرسة بعد فصله. 

خوارزميات في مواجهة البشر

يمكنك البحث بشكل مبسط عن تعطيل حسابات فيسبوك، لتجد إنك أمام آلاف حالات تعطيل حسابات الأفراد على مدار سنوات تزامنًا مع توسع فيسبوك في الاعتماد على الخوارزميات والتعلم الآلي لبناء شكل آخر من فيسبوك يعتمد بشكل كلي على الذكاء الاصطناعي، إذ مازال المئات من الناشطين الفلسطينيين عبر فيسبوك يتعرضون إلى حظر حساباتهم الشخصية، ما دفع صحفيين فلسطينيين إلى إطلاق وسم بعنوان "#FBCensorsPalestine" بعد تكرار غلق حسابات لصحفيين دون سابق إنذار.

ولعل أبرز مثال على اعتماد فيسبوك بشكل أكبر على خوارزميات في تطبيق سياساته الحاكمة على المستخدمين، ما كشفت عنه صحيفة جارديان البريطانية. في قضية "عبد الرحمن الشرباتي" والمنظورة أمام القضاء البريطاني. اتهمت المحكمة البريطانية الشرباتي ببث محتوى دعائي لتنظيم الدولة الإسلامية عبر صفحته الشخصية فيسبوك، ولكن المفاجأة التي كشفت عنها المراسلات البريدية بين فيسبوك والشرباتي، أن حسابه قد تم تعطيله تسع مرات من قِبَل فيسبوك، ولكن في كل مرة كان ينجح في استعادته مرة تلو أخرى. وذكرت الصحيفة البريطانية أن فيسبوك أبلغه في إحدى الرسائل أنه "بعد مراجعة الالتماس الذي تقدمت به، لقد قمنا بإعادة تنشيط حسابك. يرجى أن تضع في اعتبارك أن واحدة من أولوياتنا الرئيسية هي الراحة والسلامة للأشخاص الذين يستخدمون فيسبوك. نحن لا نسمح للتهديدات الموثوقة بإيذاء الآخرين، أو دعم المنظمات الداعية للعنف".

هكذا يعطي فيسبوك  الأولوية في تطبيق المعايير الحاكمة في التعاقد مع المستخدمين إلى ترجيح كفة الخوارزميات الآلية - المؤتمتة - على حساب الإدارة البشرية كما كان في السنوات الأولى لظهور الجنة الزرقاء في عالم الإنترنت.

 

وبالعودة إلى إشكالية تعطيل فيسبوك لحسابك، فمع الاعتماد الكلي على الخوارزميات، لم يعد بإمكانك كما في السابق إنشاء حساب جديد، فأي حساب جديد تتشابه بياناته مع بيانات الحساب المحظور يتم تعطيلها بشكل تلقائي، أو ربما تقف أمام ضرورة رفع صورة شخصية لك ليتأكد فيسبوك من هويتك، ففي حال استخدمت صورة رُفعت من قبل عبر الحساب القديم يتم حظرك تلقائيًا وذلك من خلال خاصية التعرف على الوجوه، أو إذا قمت بتسجيل حساب عبر رقم الهاتف ذاته أو من خلال هاتفك الذكي باستخدام شبكة الإنترنت المسجلة في قواعد بيانات فيسبوك، ربما يتم تفعيل حسابك لفترة وجيزة قبل أن يتم حظرك مجددًا. ليس من قبل متابعة بشرية بل عبر مجموعة من الخوارزميات الآلية.

خصوصية وأمان رقمي في طي النسيان

مخاوف بيتير سوند - مؤسس موقع بيرات باي - بدت حقيقة واقعة مع استمرار تغلغل فيسبوك في حياة مئات الملايين من البشر دون وجود بديل فعلي يكبح جماح فتى بالو ألتو. يقول سوند "لقد منحنا جميع بياناتنا لرجل يدعى مارك زوكربيرج، الذي هو في الأساس أكبر ديكتاتور في العالم كما أنه لم ينتخب من قبل أي شخص".

انعكس هذا الأمر في قرارات فيسبوك تجاه المستخدمين في الهند. حيث أجرى الموقع حيلة جديدة على خطى أمازون عند إنشاء حساب جديد من داخل الأراضي الهندية، وذلك بضرورة استخدام الأسم الحقيقي، مرورًا بإضافة 12 رقمًا المدون على بطاقات الهوية الهندية المعروفة باسم "Aadhaar"، والتي تصدر لكل المقيمين في الهند على أساس البيانات الديموجرافية وهي بطاقة هوية لا يُعتد بها كجنسية، ولكنها تصدر من قبل هيئة تحديد الهوية والتي انشأت عام 2009، وهى هيئة تابعة لوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الهندية.

         

بطاقة Aadhaar الهندية

وبحسب آخر الاحصائيات يبلغ عدد المواطنين الحاملين لبطاقات "آدهار" قرابة  مليار و200 مليون مستخدم. ربط بطاقات الهوية من أجل إنشاء حساب على مواقع التواصل الاجتماعي؛ جعل خصوصية وأمان بيانات المستخدمين على المحك، تزامنًا مع تسريب قاعدة بيانات مستخدمي البطاقات الهندية في يناير/كانون الثاني الماضي، إذ اشترى صحفي في صحيفة "تريبيون إنديا" قاعدة بيانات مستخدمي "Aadhaar" من مجهولين تواصل معهم عبر جروب واتساب في مقابل 500 روبية هندية ما يعادل سبعة دولارات أمريكية. 

هويات شخصية للتحايل على فيسبوك

من تداعيات توغل فيسبوك في حياة مئات الملايين، أنه أصبح أحد أكبر منصات الاعلام حول العالم في معرفة الأخبار وتبادل الآراء في أكبر مجتمع افتراضي نشط في العالم، ليضاهي النقاشات الواقعية في حياة البشر. انعكاس تغلغل فيسبوك وزيادة اجراءات صرامة معايير إنشاء حساب جديد عبر فيسبوك، دفع البعض إلى اللجوء إلى حيل في محاولة للتغلب على الخوارزميات الحاكمة لفيسبوك، منها إنشاء هويات شخصية مزورة في محاولة لإعادة تفعيل الحسابات المعطلة.

باتت هناك إذن سوق رائجة عبر المجموعات المغلقة في فيسبوك، وإنشاء تطبيقات مخصصة لذلك تنتشر على المنتديات العربية والمدونات، إذ بإمكانك صنع هوية شخصية تتطابق مع بيانات الشخصية في الحساب المراد تفعيله على فيسبوك، على سبيل المثال، إذا كنت تمتلك حساب يحمل اسم معين، وتاريخ ميلاد محدد تم إضافته عبر الموقع، وأوقف فجأة فيسبوك حسابك، يمكنك مراسلة فيسبوك وإرفاق هوية شخصية تظهر اسمك الذي اختارته وتاريخ الميلاد.

ذلك الإجراء والذي لم يكن أمرًا شائعًا في السنوات الأولى لظهور فيسبوك، أصبح شائعًا الآن، مع تزايد المعايير الجديدة التي وضعها فيسبوك لإنشاء حساب جديد، مرورًا مع المضي قدمًا في اعتماد سياسة "خوارزميات أكثر، بشر أقل" التي ينتهجها فيسبوك للتحكم فيما يراه المستخدمون عبر التايملاين الخاص بهم، وتفضيل ظهور التحديثات من قبل الأفراد على حساب الناشرين.  

مع انتشار فيسبوك في كافي مناحي الحياة، أصبحنا نري مئات البشر أينما نسير، منكبّين على هواتف حديثة يشع منها ضوء أزرق. لتتشكل أجسادنا جميعًا كشعار فيسبوك -F - وذلك بانحنائنا على الهواتف، ليصبح فعليًا فيسبوك أكبر حكومة مستبدة تمارس الرقابة على العالم ككل، كما وصفته الناشطة والكاتبة جيليان يورك المختصة في دراسة تأثير التكنولوجيا على قيمنا الاجتماعية والثقافية، وهو ما يدفعنا إلى تشجيع محاولات البحث عن بديل فعلي مع تزايد توغل "الجنة الزرقاء" لفتى "بالو ألتو" في حياة مئات الملايين من البشر، لتجعله واحدًا من أكبر مالكي البيانات والمعلومات والأرشيف الإلكتروني من صور وفيديوهات على وجه الأرض.