عن"فتاة الإيميل" وثقافة الاعتذار.. استقيموا وغلاوة هياتم!

منشور الأحد 25 فبراير 2018

إذا كان اليسار المصري الذي خرجت من رحمه الحركة النسوية غير قادر على تحمل مسؤولياته الأيديولوجية والأخلاقية يبقى يشوف حاجة تانية يعملها.

موضوع فتاة الإيميل كشف عن محدودية قدرتنا على التعامل مع الواقع بمنطقية أو مع المنطق بواقعية.

منذ عامين، انضممت لمجلس إدارة منظمة Calgary Outlink للدفاع عن الحق في التنوع الجنسي بكندا. قبل انضمامي لها واجهت المنظمة انهيارًا داخليًا بسبب اتساع الهوة بين الجسد التنفيذي والإداري المنوط به رسم السياسات والإشراف على تنفيذها، وبالتالي فشلت المنظمة في جذب جمهورها المستهدف الذي شعر بعدم جديتها. ولَم يجد الممولون بدًا من سحب تمويلهم مما أدى لتسريح الموظفين.

قرر أربعة من المؤمنين برسالة المنظمة العمل من الصفر لإعادة إحيائها، واتفقوا على تلافي الأخطاء والتعلم منها، وخلال سنتين توسعنا في النشاط ليشمل مشاريع لدمج الأقليات الثقافية إلى جانب النشاط الأساسي المتعلق بحقوق الأقليات الجنسية، وقررت الحكومة دعم هذا التوسع.

أنا باحكي التجربة دي يمكن الحركة الديمقراطية في مصر، وخصوصًا حزب العيش والحريّة والمركز المصري للحقوق الإقتصادية والإجتماعية، يتعلموا إن الضعف أو التهديد الداخلي يمكن تلافيه في غياب المؤسس أو الزعيم الملهم عادي، إذا جاء أشخاص مؤمنون بهدفهم وقضيتهم، وتعلموا من أخطاء الماضي، وكانوا جادين في عدم تكرارها، بدلاً من المحاولات التعيسة للتملص من المسؤولية التي يدعي الحزب حملها.

تعاطينا مع القضية كشف عن قصور في فهم البديهيات فيما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وخصوصًا العلاقة الجنسية. ومن جهة أخرى واجهنا معضلة من نحن؟ وماذا نريد من وجودنا في الحيز العام؟ ومن جهة ثالثة، اتضح استمرار معاناتنا من الإرث الديني/ الأبوي/ الذكوري الذي نحاربه في ثورتنا المطروحة أرضًا.

زعيم حزب العيش والحرية وُضِع  في سياق حادثة تشير لاحتمالية تحرشه بفتاة، وعامِلَين سابقين بمكتبه كانوا جزء من قصة تشير لاغتصابها وهي فاقدة الوعي من أحدهم، فالتزم الحزب الصمت ومعه الأعضاء والمريدين أثناء معركة جمع التوكيلات لدخول خالد علي السباق الرئاسي.

اقرأ أيضًا: ما نعرفه إلى الآن: دليلك لفهم قضية "فتاة الإيميل"

لفترة تم تهميش الإيميل بحجة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، رغم أن المعترك مكانش فيه من وراه أمل أو مصلحة في المنظور القريب. وبالتالي ساد احتكار تحديد أولويات الحركة الديموقراطية وما الذي يجب أن يتم تهميشه، بشكل أبوي اتضح إن لسه بدري على مواجهته.

هنا دخل إرثنا الناصري ليبين أننا لسنا مستعدين لمواجهة مشاكلنا أو التفريق بين الذين مع الحق والذين ليسوا معه. مثلًا، من دعى لمقاطعة الانتخابات تعرض للتخوين من أصوات داخل الحزب، بينما خرجت أصوات أخرى تقول "روح اعمل توكيل وبعدين قاطع يا أخي".

على الناحية الأخرى، سيُفاجأ المتابع للأحداث من تعامل القنوات الإعلامية المحسوبة على الدولة والأجهزة الأمنية. بعكس ما هو متوقع، لم يهتم إعلاميو الأجهزة الأمنية بالإيميل رغم تسريبه بالفعل لواحد منهم، ورغم إشارته له في برنامجه تزامنا مع إعلان خالد على مشاركته في السباق الرئاسي. بل على العكس، بعد انفضاض المولد أثنت لميس الحديدي على اعتذار  خالد علي.

 

بعدما انفض المولد الانتخابي ماذا حدث؟

بسبب ثقافة الزعيم واختزال كفاح الناس في شخصه، ساد منطق حماية الشخص على حساب الكيان- الحزب، وأصبح الحفاظ على شخص الزعيم مساويًا للحفاظ على الكيان. ونتيجة لهذه الثقافة كان طبيعي أن يخرج الزعيم الملهم في مشهد نهاية الفيلم عشان ينهي القصة في بوست فيسبوك يدعي فيه أن الهجوم على شخصه هو هجوم على الكيان الوليد "وأناشد الجميع بمساندة الكيانين فى ظل السيناريوهات المعدة للنيل منهما من قبل أجهزة الدولة". ولأنه زعيم قرر النزول إلى الساحة لمواجهة مصيره، رغم الأصوات التي طالبته بتهميش الاتهامات، ثم انسحب من المشهد، ولتكملوا الكفاح من بعدي، "وأنا اعتذر عما إذا كان تصرفي مع "المدعية" قد أوحى لها بما ليس صحيحًا".

السؤال هنا، هل من حق خالد قفل الموضوع على كده؟ آسف، مش من حقه. مهما قام المريدين بالصياح "لا تتنحى.. لا تتنحى" و"كم أنت عظيم يا خالد" و"ستظل رئيسي"، لأن الموضوع مش في إيده!

بيان الحزب الذي برأ خالد علي من تهمة التحرش وقع في إشكالية كوميدية! من ناحية برَّأه من التهمة لعدم وجود تحقيق مع الضحية صاحبة الإدعاء، ومن ناحية تانية عمل له لفت نظر في شكل نصيحة تستلزم إنه يفصل بين العام والخاص. وبذلك تكون اللجنة التي قامت بالتحقيق اعترفت إنه غازل أو راود موظفة سابقة عنده في مكان العمل، ولكن رغم كده البيان لم يدينه لمحاولة استغلال منصبه وسلطته في الوصول لهدف شكله كدا جنسي! وطبعًا هو فرح وروج لفكرة إن البيان لم يدنه! فلماذا يعتذر؟

اقرأ أيضاً: بيان حزب العيش والحرية.. الرقص على الحبل

كي نضع ركيزة لبناء المجتمع لابد من الاعتراف بالخطأ وأخذ خطوات جادة لإصلاحه وعدم تكراره. هذا يستدعي ندم، ومجهود، والتزام، غير كدا يبقى تهريج لأن مصداقية الحزب لن تعود بخطابات رنانة سهل كشفها بقليل من المجهود النقدي. وبالتالي فإن جدية الاعتذار تتطلب أي شيء تاني غير رد فعل خالد علي وحزبه!

فلسفة "مَن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد، ومَن اجتهد وأصاب فله أجران" هي فلسفة تعيسة جدًا، ومنطق "على الأقل الراجل حاول نديله أجر المحاولة" هو منطق فاشل جدًا، لأن خالد في الحقيقة لم يعتذر. جميل إننا نبدأ غرس ثقافة الاعتذار، لكن مع القصور في فهم بديهياته يفقد الاعتذار معناه، وتستمر المنظومة الأبوية الذكورية في دهس المزيد من الضحايا.

الاعتذار عن الخطأ يستلزم الندم على ارتكابه ومحاولة تصليحه، ولو الخاطيء في موقع مسؤولية فعليه المبادرة بهدم الثقافة المؤدية لتكرار الخطأ، أو بناء ثقافة بديلة تمنع تكراره. لكن الاعتذار عما قد تشعر به الضحية لا يعني الندم أو العمل على عدم تكرار الخطأ. بقراءة تفاصيل بيان خالد يتضح لنا سياق أبوي غير ديمقراطي وغير منصف، وتغوله على ضحية كانت من الوعي بعدم التعاون مع لجنة التحقيق المُشكَّلة من الحزب.

يذكر خالد في بيانه أنه طلب "من الهيئة التنسيقية للحملة بالتعاون مع الحزب أن يتولوا تشكيل لجنة تحقيق مستقلة للتحقيق [معي] فى الوقائع المنسوبة لي". يعكس هذا التعبير سياق أبوي وقدرة على التأثير على مجريات أمور حزب وحملة انتخابية لإنشاء لجنة يفترض فيها الاستقلالية، للتحقيق. وهذا الأمر وضع علامات استفهام كثيرة حول اللجنة وإجراءات اختيارها وجدية منهجها.

اقرأ أيضاً: نص ملخص تقرير لجنة التحقيق في اتهامات ضد عضوين بحزب "العيش والحرية"

مثلاً يقول خالد "ورغم علمي بعدم استجابة الضحية لطلب اللجنة لم أطلب من اللجنة وقف أعمالها، وكان من المنطقى أن أطلب منهم هذا الطلب، ولم يكن هناك مفر أمام اللجنة حينها من إنهاء مهمتها عند هذه النقطة، وكان سيسجل لي أنني طلبت التحقيق وخضعت له وأنها هي التي رفضته، لكن لم أفعل ذلك عن وعي وإرادة لتقول لجنة التحقيق كلمتها، فضلاً على أن لجنة التحقيق هى صاحبة الحق فى التصرف بمجريات التحقيق ومساراته". طب منين اللجنة هي صاحبة الحق، ومنين خالد بيدي لنفسه الحق المنطقي لتوجيه مجريات التحقيق وبيذكر قدرته على وقف عمل اللجنة.

لذلك، عدم التعامل مع المواضيع بمسمياتها فتح مجال لسجال عنيف، لدرجة أن المتهمين أصبحوا غير متأكدين إذا كانوا براءة ولا لأ، وهذا خلق معضلة طغت على طريقة الإعتذار الذي خرج في شكل التفضل من خالد وليس فرضا عليه. عندما قال "ورغم أن النتيجة المنتهية إليها لجنة التحقيق فى سياق ما سمعته مني ومن الشهود وما ورد بالإيميل الذى كتبته صاحبته تُبْرِء ساحتي، إلا أننى مدين بعدة أمور".

شكره لـ"كل الذين قدموا لى النصح فى طريقة التعامل مع هذا الحدث"، كان من الأفضل أن يتحول لاعتذار بالنيابة عنهم عن كل الخروقات التي مارسوها من خلال السوشيال ميديا ضد كل من تعاطف مع حق الضحية، وكل من شارك في محاولات الحوار المجتمعي لخلق آلية أكثر تقدمية تضمن حق المعنفة والمغتصبة أو المتحرش بها. أليس الأجدى الاعتذار عن الأفكار الرجعية التي خرجت من دوائر العصف الذهني المحيطة بخالد علي بدل شكرهم؟ 

أخيرًا، وبعد كل هذا، لماذا يعلن خالد استقالته من عضوية حزب العيش والحرية ومن عمله كمستشار للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، طالما أن اللغة والصيغة المستخدمة لا يشيران إلى ندم على ما حدث؟ لِمَ الاستقالة إذن؟ هل هو عقاب للضحية أم لجماهير لم تقم بدورها في قمع الضحية؟ تمامًا مثل دور الجماهير التي خرجت بعد تنحي جمال عبد الناصر الصوري، ومثل انسحاب كثير من الجماهير المشاركة في الميدان بعد خطاب مبارك العاطفي.

نستنتج من هذا أن التحليل اللغوي للخطاب للأسف لم يبين غير خطاب أبوي مسيطر، يميع القضية ويهدر حق الضحية،  ويهدد الجماهير بالضياع إذا استسلموا لتلك الهجمة والمؤامرة من الدهماء غير المسيسين. للأسف الخطاب أسوأ مما كنت أتخيل، وبيتناسق ويتناغم مع الهجوم على كل من تعاطف مع الضحية وحقها، أو صدق روايتها ولم يحدد سقف مكاسبها بالمنطق القانوني السائد الذي يحرمها من حقوق كثيرة لصالح المؤسسة الذكورية.

إذا اليسار المصري الذي خرجت من رحمه الحركة النسوية مش قادر يتحمل مسؤولياته الأيديولوجية والأخلاقية يبقى نشوف حاجة تانية نعملها.

تحميل النساء مسؤولية العنف ضد النساء هو عنف في حد ذاته يا أساتذة.. استقيموا وغلاوة هياتم عندكم!