صورة أرشيفية لمصر الجديدة. المصدر: أرشيف الانترنت.

قاهرة الامتداد.. بين مصر الجديدة ومجتمعات الأسوار "الكومباوند"

منشور الثلاثاء 20 فبراير 2018

لم تكن [مصر الجديدة] كيانًا منفصلًا عن القاهرة، بل كانت امتدادًا واضحًا ومؤثرًا في عمرانها، تقف على نفس القدر من الأهمية والتأثير، شأنها شأن أي نطاق منه.

ربما كان أمرًا مألوفًا في حقبتي الأربعينات والخمسينات، عند مرورك بشارع إبراهيم اللقاني بمصر الجديدة، أن تستمع لصوت غنائي لمطرب يُدعى بوب عزام، يغنى بعبارات مصرية وفرنسية: "يا مصطفى يا مصطفى ... أنا بحبك يا مصطفى"، ويظهر هنا اسم مصطفى في الوقت الذي كانت تتنوع أسماء سكان هذه الضاحية ما بين: چون، پول، پاولو، كوستا، أڤيداس.

ولم يكن هذا الخلط بين هذه الأسماء التي تنتمي لجنسيات وأعراق مختلفة بالشيء الغريب أو غير المعتاد، فهذه الضاحية التي سماها مصمموها "هليوبوليس"، أي مدينة الشمس، وعرفت من قبل العامة باسم "مصر الجديدة"، لم تكن كيانًا منفصلًا عن القاهرة، بل كانت امتدادًا واضحًا ومؤثرًا في عمرانها، تقف على نفس القدر من الأهمية والتأثير، شأنها شأن أي نطاق منه، كالقاهرة التاريخية، بمختلف عصورها، أو قاهرة الخديوي إسماعيل "الهاوسمانية".

ولذلك بعد مرور أكثر من مائة عام على إنشائها كامتداد للمدينة من الناحية الشمالية يستشعر القادم إليها من أقصى جنوب المدينة أنه لا يزال داخل مدينته المسماة بالقاهرة، ولم ينفصل عنها وجدانيًا أو مكانيًا على الرغم من اختلافها الواضح والظاهر عن أي حي آخر من أحياء القاهرة.

https://www.youtube.com/embed/CRTt9dtuvr0

على جانب آخر، يتحول هذا الشعور بالألفة والحميمية لإحساس آخر بالاغتراب والعزلة، إذا ما تحرك القادم من القاهرة الحالية صوب أطرافها، وذلك لاصطدامه بمجموعة من التجمعات العمرانية المسورة Gated Communities، والتي تعرف من قبل العامة باسم "الكومباوندات" Compounds، حيث تقوم أسوارها العالية ونطاقاتها الفاصلة Buffer Zones بتحديد حركته ومنعه من إدراك ما يدور داخل هذه الكيانات من حياة.

وهذه التجمعات لم يكن ليسمع عنها من قبل أو يستشعر أثرها على مدينته، لولا الإلحاح المتواصل من وسائل الإعلام  بكافة صورها على أن هذه التجمعات هي "الفردوس المفقود"  لكل من يبحث عن حياة أفضل ورفاهية أعلى، وهو الأمر الذي يظن الغالبية من سكان المدينة أنه غير حقيقي، لأنه بكل بساطة غير مسموح لهم باكتشافه أو التعرف عليه من قرب، إلا من خلال دعاية إعلانية، ربما تميل إلى الادعاء، وتفتقر إلى المصداقية، فشتان ما بين مصر الجديدة، كامتداد مؤثر وفعال للقاهرة قديمًا، وبين مجتمعات الأسوار حاليًا كامتداد منعزل ومنغلق على ذاته.

وعلى الرغم من أن مصر الجديدة كان بها وقت إنشائها مجموعة من المباني تدعم فكرة تمييز أشخاص عن آخرين وتقتصر على استعمالهم فقط دون غيرهم  كنادي هليوبوليس الذي كان مخصصًا للأجانب وحدهم، إلا أن الضاحية صُممت لتكون مفتوحة للجميع من قاطني القاهرة، بحيث يستطيع أي منهم الانتقال إليها والتفاعل معها، ولعل هذا من أهم عوامل نجاحها، كامتداد عمراني جديد ملتحم بنسيج المدينة القائم.

فبدءًا من النمط التخطيطي لمصر الجديدة، وعلى عكس ضاحيتي المعادى وجاردن سيتي اللتين تزامن إنشاؤهما مع ضاحية مصر الجديدة ووصفهما جمال حمدان فى كتابه "القاهرة" بتعقد أنماطهما التخطيطة حتى تكونا مقتصرتين على سكانهما، اختار المخططون لمصر الجديدة نمطًا شبكيًا بسيطًا Grid Pattern، يقطعه بضع محاور حركة رئيسية واضحة لتدعم فكرة "إمكانية الحركة Mobility" بداخلها سواءً لسكانها أوالقادمين إليها من الخارج.

أيضا ًدعمت فكرة "إمكانية الحركة" من قبل مخططي مصر الجديدة بفكرة أخرى وهى "سهولة الاتصال Connectivity"، عن طريق ربطها بالمدينة بوسيلة نقل جماعي قوية وهي الترام (سكك حديد مصر الجديدة الكهربائية)، وبذلك تحقق الالتحام الجيد للضاحية ببقية أجزاء المدينة. أما مجتمعات الأسوار الحالية، الداعمة لفكرة "مدينة الحلم الأمريكى American Dream City"  والتى لاقت الكثير من التحفظات، فلم تلتزم بأي نمط تخطيطي محدد، فأنت تفعل ما تشاء وما تريد داخل أسوارك من طرق مقفولة النهايات Cul du Sac، ومسطحات خضراء بها ملاعب جولف وبرك مياه، فى بلد يعانى من الفقر المائى، بغض النظر عن تأثيره على شكل المدينة العام. وإذا أردت أن تأتي إلينا في الكومباوند فاستقل سيارتك وتعال "عيش الحلم"، وابتعد عن المدينة التي تبلغ نسبة المالكين لسيارات خاصة بها 14% من جملة سكانها.

 

(يمين) النمط التخطيطى الشبكى / المتعامد لمنطقة مصر الجديدة .... (يسار) نمط المسارات ( المغلقة النهايات) داخل أحد كومباوندات التجمع الخامس بالقاهرة

من ضمن العوامل التي ساعدت أيضًا على نجاح مصر الجديدة، كامتداد جيد للقاهرة، أنها أخذت في الاعتبار عند إنشائها أن تحقق تنوعًا في الطبيعة الاقتصادية للسكان المستهدف إقامتهم بها، فمصر الجديدة بها الفئات الثرية أصحاب رؤوس الأموال مرورًا بفئة الموظفين والعاملين بالقطاع العام وانتهاءً  بفئة العمال وصغار الحرفيين.

وعلاوة على أن هذا التنوع حافظ، نوعًا ما، على مفهوم العدالة الاجتماعية داخل هذه الضاحية، إلا أن فائدته الواضحة تجلت في جعل مصر الجديدة نموذجًا واضحًا "للمدينة الحية Livable City" المتجددة والنابضة بكافة صور الحياة، وليست مكانًا للاسترخاء والراحة المبالغة "Chill Out"، وهو المفهوم الذي تصدره مجتمعات الأسوار لساكنيها وتعدهم به.

ويمكن استقراء هذا التنوع عند مقارنة نصيب الطبقات الأقل اقتصاديًا من سكان مصر الجديدة من النسيج العمرانى لهذه الضاحية: المنطقة المحصورة بين شارع هارون الرشيد، وشارع سباق الخيل المخصصة لفئة الموظفين ، عزبة المسلمين بنمط إسكانها الاقتصادى ذو الأفنية الخلفية، وبين نصيب مثل هذه الطبقات داخل مجتمعات الأسوار المتقلص من جزء من النسيج العمراني إلى مجرد فراغ داخلي صغير ملحق بالوحدة السكنية وربما لا يفي باحتياجاتهم الوظيفية: غرفة مربية، غرفة حارس، غرفة عامل، مالم يكن هؤلاء فى الأغلب مضطرين لعبور أسوار هذه التجمعات لأداء وظائفهم ثم العودة مرة أخرى لمنازلهم البعيدة عنها.

ولايمكن إخفاء أو إنكار الدور الذى لعبته مصر الجديدة في الأحداث الهامة التي طرأت على القاهرة ولا سيما السياسية منها، وهذا الدور أضاف لها بعدًا مكانيًا مميزًا Sense of the Place، ربما لم ولن يتواجد داخل مجتمعات الأسوار، التي يفضل سكانها الانفصال عما يدور من أحداث في العالم الخارجي، حتى لا تتضرر خصوصياتهم أو نمط حياتهم الهادئ. فمصر الجديدة بها فندق هليوبوليس بالاس الذي تحول لمستشفى ميداني إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبار دي فرانس (ملابس الأهرام حاليًا) الذي كان مقرًا لاجتماعات ضباط المقاومة الفرنسية، عقب غزو الألمان لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، وصولًا لمحيط قصر الاتحادية وما أحاط به من أحداث بعد ثورة 25 يناير 2011.

 

اعتصامات قصر الاتحادية فى مصر الجديدة - نوفمبر 2012

يمكننا إذًا أن نستخلص مما سبق أن الامتداد العمراني للمدينة وإن كان يلزمه العديد من المقومات لنجاحه، إلا أن فكرة اتصاله بالمدينة وعدم انفصاله أو عزلته عنها هو من أهم هذه المقومات، ولذلك إن أرادت هذه المجتمعات المسورة أن تصبح خالدة ومؤثرة في تشكيل عمران القاهرة فلتبدأ بإزالة أسوارها وتلتحم بالمدينة سكانًا وعمرانًا، ومن يدري، ربما حينها تدخل كمشهد صادق معبر عن المدينة ضمن أغنية كريم شكري، المعاصر لبوب عزام،  أعدنى للقاهرة Take me Back to Cairo.