الرؤية بين الرواية والسينما

منشور الخميس 15 فبراير 2018

في البدء كانت الكلمة. ومن الكلمة ارتسمت أشكال الفنون الإبداعية كلها، شعر، قصة، رواية وسيناريو، واتخذت مساراتها المختلفة لتصل لعقل الإنسان وفكره، صانعة من الكلمة صورة، ومن الصورة خيالًا ذهنيًا يصبح مشهدًا مترائيًا لدى القارئ؛ القارئ الذي غيرته الكلمة، وحولت سلوكياته إبداعًا، فلجأ إلى صهرها بشكل آخر صانعًا من الكلمات التي قُدمت من الكاتب على شكل رواية أو قصة شريطًا من الصور المرئية، وأطلق على هذه الحالة الإبداعية من الصهر اسم فن السينما أو الفن السينمائي كنوع من الفنون الإبداعية الجديدة.

تعمل الرواية والسينما منذ نشأتهما على اختزال الحالات والرؤى والمواقف التي تعبر عن حياة الفرد والمجتمع كل على طريقته، من خلال العمل على تحريك عجلة المشهد الثقافي والمضي به تلقائيا لتغير مثالي في كينونة المجتمع الفكرية ومن ثم الاجتماعية.

نستطيع ان نعرف أن كلا من الرواية والسينما ما هما إلا لونين تعبيريين، يغوصان في محاور المضمون ليقدما رؤية عن المجتمع وتداعياته، قد يختلفان في الشكل الخارجي لطريقة توصيل الخطاب، إلا أنهما يلتقيان في توصيل الغاية وتجسيدها.

فالرواية هي ذاك الفن الأدبي الذي يتيح للقارئ الارتحال بذهنه وخياله عبر مجموعة من الجمل والكلمات السردية التي تحتويها، والتي تتضمن حكاية ما، يرويها كاتبها باستخدام مفرداته الأدبية، والتي ينتقيها في كثير من الأحيان من تجربته الواقعية، ومن خبرته الأدبية التراكمية والخيالية أحيانا ، ليقدم لقارئه تجربته بين ضفتي كتاب سُمي بالرواية.

بينما الفن السينمائي هو الفن الذي يستخدم الصور المرئية بشكل متتال وبصيغة احترافية وبشكل متواصل وراء بعضها البعض على شكل شريط بصري يعرض للمتلقي الحكاية ويترجمها من صورة كانت مقروءة ومكتوبة سابقًا فوق صفحات الورق إلى مشهد حي مرئي.

أي أن السينما هي التي طوعت الرواية ومحتوياتها الخيالية لصالحها، محولة إياها لنص سينمائي ومن ثم شريط مرئي مقوماته الحركة والتفاعل الحسي والبصري لكل من العناصر السابقة (الشخصيات ،الزمان ، المكان) ضمن حيز مقولة هادفة، مختزلة ببعض الساعات أو الدقائق النص الروائي الذي تعب مؤلفه أعوامًا أحيانا في كتابته وإتمام إنجاز كتابة روايته لتقديمها للقارئ بالشكل النهائي المتاح بين يديه.

وبالتالي يكمن الخلاف بين فني الرواية والسينما في كيفية عرض المضمون الممثل لرؤية الكاتب. فالأولى تعبر عن ذاتها بالكلمة، والثانية تتخذ الصورة وسيلة للتعبير.

ولكن تبقى الأهمية في كلا الفنين في كيفية المحافظة على الجوهر والهدف الذي ولدا لأجله، وهو إيصال الرسالة الفكرية ومحتوياتها لذاك المتابع والمستقبل لنتاجهما. ويظهر الخلاف الأكبر في هذه العلاقة المضمونية و الارتباطية بينهما بطريقة خاصة عندما يتم تحويل الرواية إلى عمل سينمائي، وذلك في مقدرة الفيلم في الحفاظ على مضمون الرواية، وعدم تشويشها عن طريق الكثير من الاختزالات التي تتعرض لها عن طريق نقلها إلى السينما، بسبب ضرورات القالب السينمائي ومنها: الضرورة التزامنية للحدث، وتجنب الإسهاب السردي، إضافة لذرائع المؤثرات الخارجية والبيئية والسياسية والاجتماعية. 

وفي كثير من الأحيان قد يستغني النص السينمائي عن كثير من الأحداث الجوهرية والمفصلية، ويحذف بعض الخطوط المكتوبة، وقد يغير في النهايات وكذلك قد يستغني نهائيا عن بعض الشخصيات والأحداث البنيوية للرواية، وذلك بحجة عدم موائمتها إنتاجيًا، ويبقى المنتج السينمائي تحت إمرة رؤية المخرج وشركة الإنتاج للفيلم، الذي قد يقيد رؤية كاتب الرواية وحكايته و صيرورتها التتابعية، الأمر الذي قد يؤدي لانحراف ضمني وجوهري عن رسالة الرواية ومقولاتها.

هناك كثير من الروايات العربية والعالمية التي تم نقلها وتحويلها لأفلام سينمائية. منها ما شهدت تدخلًا إيجابيًا، أضاف لرصيدها وقعًا ومتابعة، ومنها ما غير واجتزأ وحذف الكثير من الشخصيات التفاعلية الهامة والفواصل التاريخية المحورية في سرد الحدث وأهمية هذا التاريخ وضرورة عرضه ضمن سيرة الحكاية المرئية ليتمكن المشاهد من ربط وتوثيق المرحلة والحقبة التي مرت بها الأحداث حينها وإسقاطاتها الحالية مقارنة مع الزمن الذي يعرض به الفيلم.

فعلى سبيل المثال لا الحصر روايات نجيب محفوظ وخاصة رواية "القاهرة الجديدة" التي حولت لفيلم تحت اسم "القاهرة 30"، ورواية حنا مينة في فيلم "الشراع والعاصفة". فالمتابع لكلا الروايتين والفيلمين يحس بالفصل بينهما، وبشرخ يتشكل على هيئة فجوة إدراكية بين المقروء والمرئي. فبينما يبحر الشخص المتلقي للرواية المقروءة بخياله بصور ومشاهد مختلفة، يدهش حينما ترجمت إلى  صور مرئية كيف أنها لا تطابق خياله و ذهنيته التسلسلية التي كونها من القراءة، وبالتالي يقود ذلك إلى الانتقاص من القيمة الفعلية للرواية.

وبالعكس تماما أجادت كثير من الأفلام الغربية حصرًا تحويل الرواية لفيلم، فأضافن من المتعة والمتابعة والشهرة للرواية وكاتبها نفسه أكثر بكثير مما لو بقيت في صيغتها المكتوبة فوق أرفف المكتبات أو على بسطات الطرقات لا تلقى من يقرؤها ويعرف كنوزها ويبحر فيها. ومن أهم هذه الأفلام في تاريخ السينما، فيلم "ذهب مع الريح"، عن الرواية التي تحمل الاسم نفسه للكاتبة مارجريت ميتشل، والذي منح الرواية شهرة أكبر بكثير، وذلك من خلال إجادة المخرج في تقديم رؤيته لهذه الرواية بصريًا وسينمائيًا أي برؤية الكاميرا لا رؤية الكلمة.

بينما قدم بأمانة ودقة بالغتين المخرج مايكل كاكويانس عن رائعة كازانتزاكس فيلم "زوربا اليوناني" الشهير ، غير مبتعد أبدًا عن رؤية الكاتب، وأبدع الممثل أنتوني كوين في تصوير الشخصية الرئيسية في الفيلم بأداء عالي البراعة والاحترافية فاستحق أن تكون صورته على غلاف الرواية ذاتها، في طبعاتها اللاحقة. وكذلك الأمر في فيلم "طعام، صلاة، حب" التي أدت الدور الرئيسي فيه جوليا روبرتس والتي كانت سببًا كبيرًا في إعادة قراءة هذه الرواية لمقارنتها مع الفيلم ومعرفة التفاصيل أكثر من قبل عدد كبير من الناس عبر العالم.

إضافة إلى أن كثيرًا من المخرجين  السينمائيين استطاعوا الاقتباس بنجاح عن الأعمال الأدبية المشهورة وتقديمها بحلة فنية سينمائية جديدة ورائعة، حققت أيضا شهرة عالمية سينمائيًا وأدبيًا ومنها نذكر "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي، و"شيفرة دافنشي" لدان براون، و"الحرب والسلم" لتولستوي وغيرها. ولم تعتمد هذه اﻷعمال على نقل الرواية حرفيًا، وإنما عرضها من خلال رؤية المخرج الفنية مستخدمًا الكاميرا والممثلين لتجسيد الفكرة وتحويلها إلى لغة تفهمها العيون والآذان.

إن العلاقة بين الرواية والسينما هي علاقة تبادلية، فكلاهما يلهم الآخر، ترسم الأولى فكرتها بالأحرف وتترجمها الثانية بلغة بصرية ملفتة للناظر، مشكلة لغة مشتركة بين النص الأدبي والسينمائي،  سواء قدمت هذه الرؤية الفنية اعتمادًا على رؤية المخرج دون الارتكاز على سرد الرواية أو اعتمادًا تطابقيًا يتعادل فيه النص الأدبي في الرواية مع النص السينمائي. وبالتالي القاسم والهدف المشترك واحد لكلا الفنين مهما اختلفت طريقة المعالجة. وحاليًا يسعى كثير من الأدباء للارتقاء بالفن السينمائي بكتابة النص السينمائي بأنفسهم. وهذه الحالة السائدة حاليًا في السينما العالمية.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن في ظل هذا التدفق البصري في عالم تسوده الشاشات، هل بقي للرواية قارئين؟ وهل سنلجأ يومًا إلى تحويل كافة الروايات إلى أعمال سينمائية، قد تكون احترافية فتذكرنا بالرواية ذاتها، وخاصة أننا نعيش في مجتمعات لا تقرأ بل تشاهد فحسب؟