ما فعلته حرب الملوك الخمسة بوستروس: مقتطف من "عاصفة السيوف"

منشور الاثنين 22 يناير 2018

يقول چورچ مارتن إن حُبَّه الشَّديد للموسيقى كان أحد أسباب استخدامه كلمة "أغنيَّة" في عناوين مؤلَّفاته، وهو ما نراه في أعمالٍ أخرى له بخلاف "أغنيَّة الجَليد والنَّار"، منها على سبيل المثال "أغنيَّة ليا" و"أغاني النُّجوم والظِّلال"، كما أن الكلمة وغيرها من التَّعابير الموسيقيَّة لها في متن النَّص حضور يعيه القُرَّاء جيِّدًا. أمَّا باقي عنوان السِّلسلة فاستوحاه مارتن من قصيدة روبرت فروست الشَّهيرة "النَّار والجَليد" التي نُشِرَت سنة 1920، والمستوحاة بدورها من جحيم دانتي، وتصفُ جدلًا متخيَّلًا بين مَن يقولون إن نهاية العالم ستكون إلى الجليد ومَن يقولون إنها ستكون إلى النَّار.

الجدل رمزي إلى حَدٍّ كبير، وإن كان جزء منه حرفيًّا عند مارتن، يتمثّل في طرفَيْ النَّقيض؛ التَّنانين الوليدة في حرارة الشَّرق والمُشاة البِيض القادمين من أقصى الشَّمال المتجمِّد، وكلا الضدَّين يملكان من القوَّة المدمِّرة ما هو كفيل بإنهاء الحياة.

لكن بين الجليد والنَّار وحرفيَّتهما في عالم مارتن طيفًا كاملًا من شخصيَّاتٍ زاخرة بالرُّموز، ارتبطَ بها القارئ، وارتبطتُ شخصيًّا كمترجِم، بعددٍ منها على مَرِّ الصَّفحات، وشهور العمل الطَّويلة.

بأعيُنها نرى الوجوه المختلفة لحرب الملوك الخمسة في وستروس، والمستوحاة من حربٍ حقيقيَّة، هي حرب الوردتين التي دامَت أكثر من ثلاثين عامًا في إنجلترا، وأحداث تاريخيَّة أخرى لا تقلُّ عنها بشاعةً، مِثل حادثتَيْ العشاء الأسود ومذبحة جلنكو في أسكتلندا.

يرى النُّقَّاد، وأتَّفقُ معهم، أن "أغنيَّة الجَليد والنَّار" في قلبها قصَّة مناهِضة للحرب، خصوصًا أن مارتن نفسه معارض كبير لها، ورفضَ في شبابه أن يُجَنَّد في حرب ڤيتنام وقادَ حركةً طُلَّابيَّةً ضدها، لاعتقاده أن لا حرب في التَّاريخ كان لها معنى أو انتفعَ بها أحد، باستثناء الحروب التي لها هدف نبيل؛ تخليص العالم من هتلر على سبيل المثال.

ثم إنه درسَ تاريخ العصور الوُسطى علاوةً على دراسته الصَّحافة، ويقول إنه قرأ كثيرًا جدًّا عن الحروب الطَّاحنة والصِّراعات في تلك الحقبة وغيرها، ولهذا السَّبب تحديدًا يلعب العُنف دورًا أساسيًّا في سلسلة مارتن هذه، في سبيل إبراز الفظائع التي تترتَّب على كل معركة، ويدفع ثمنها دائمًا العامَّة بمختلِف ألوانهم والجُنود البُسطاء الذين يُنَفِّذ معظمهم الأوامر لا أكثر، بينما يبقى القادة والآمرون بمنأى عن الآثار أغلب الوقت، وهذا ما تُلقي عليه هذه الرِّواية مزيدًا من الضَّوء من خلال رحلتَيْ اثنتين من الشَّخصيَّات في أنحاء أراضي النَّهر التي عانَت تبعات هذا الصِّراع أكثر من أيِّ منطقةٍ أخرى، كما نرى الجوانب السِّياسيَّة المتشابكة عن طريق شخصيَّاتٍ أخرى.

على أن أهمَّ ما في هذه الرِّواية أننا نشهد تأثير الحرب على الشَّخصيَّات التي نراها بها من خلال وجهة نظرها، إذ يُؤمِن مارتن بمقولة ويليام فوكنر إن القصص الوحيدة التي تستحقُّ أن تُكتَب هي تلك التي تحكي عن نزاع قلب الإنسان مع نفسه، وهو ما تخوض فيه "عاصفة السُّيوف" بشدَّة، فنرى كيف تتغيَّر شخصيَّات تأثُّرًا بالحرب وبما في أنفُسها من صراع، منها مَن نكتشف له جوانب مدهشةً ونعرف عنه ما قد يدفعنا إلى تغيير رؤيتنا له، ومنها مَن يَرسُخ اعتقادنا الأوَّلي عنه، وفي كلتا الحالتين نرى شخصيَّاتٍ تنحدِر أو تسمو لكنها تتطوَّر بلا انقطاع وسط زوبعةٍ من الأحداث الكُبرى والمفاجآت، وكلُّ هذا يُقَدِّمه مارتن بقُدرته الفائقة على الكتابة عن مختلِف أصناف البشر والتَّعبير عنهم ببراعةٍ فائقة، بأسلوبه السَّلس ولُغته المرنة التي كانت العربيَّة نِدًّا لها في هذه التَّرجمة.

حتى الآن يعدُّ  "عاصفة السُّيوف" أطول كُتب السِّلسلة، إذ يقع في 82 فصلًا من وجهة نظر 12 شخصيَّة على امتداد أكثر من 1200 صفحة في طبعته الأصليَّة، حتى إن الطَّبعة البريطانيَّة صدرَت في مجلَّديْن منفصليْن تحت عنوانيْن فرعيَّيْن هما "الفولاذ والثَّلج" و"الدَّم والذَّهب"، على حين انقسمَ في التَّرجمة الفرنسيَّة والألمانيَّة والإيطاليَّة -وغيرها من ترجماتها الثَّلاثين- إلى أربعة مجلَّدات، فازَت الرِّواية عام 2001 بجائزة "لوكوس" لأدب الخيال العلمي والفانتازيا، وجائزتَيْ "إجنوتوس" و"جيفن"، علاوةً على ترشُّحها لجائزتَيْ "هيوجو" و"نبيولا"، واقتُبِسَت أحداثها في الموسمين الثَّالث والرَّابع وجزء من الموسم الخامس من مسلسل "Game of Thrones"، ومنذ عام 2006 تحتلُّ المركز الأول في قاعدة بيانات "قائمة الإنترنت للكُتب".

كمترجِم، كانت قراءة روايات "أغنيَّة الجَليد والنَّار" والمتعة الشَّديدة الذي وجدتها فيها هي الفيصل في اتِّخاذ قرار ترجمتها إلى العربيَّة، وهذه التَّرجمة التي بين يديك الآن هي نتاج عمل شهور طويلة مرهِقة لتقديم عالم چورچ مارتن المعقَّد وشخصيَّاته المتشابكة للقارئ العربي بأفضل شكلٍ ممكن.


مقتطَف من الرواية

 

نُقِشَ غطاء الضَّريح على صورة الرَّجل الذي يستقرُّ رُفاته تحته، لكن الأمطار والرِّياح محَت أغلب التَّفاصيل، فرأوا أن الملك كان ملتحيًا، لكن باستثناء هذا يبدو وجهه الآن أملسًا بلا ملامح، ولم يتبقَّ إلَّا إيحاء طفيف بفمه وأنفه وعينيه والتَّاج حول صُدغيه، بينما تنطوي يداه حول مقبض مطرقةٍ حربيَّة من الحجر على صدره. في الماضي كنت لتجد اسمه وتاريخه محفوريْن عليها، لكن كلَّ هذا انطمسَ على مَرِّ السِّنين، كما تصدَّع الحجر نفسه وبدأ يتفتَّت عند الأركان، وهنا وهناك تُشَوِّبه رُقع بيضاء منتشرة من الأُشنة، بينما يزحف الورد البرِّي على قدمَيْ الملك ويكاد يَبلُغ صدره.

هناك وجدَت كاتلين روب يقف عابسًا في الغَسق المتوغِّل ولا أحد معه إلَّا جراي ويند. كان المطر قد توقَّف للمرَّة الأولى، فكشفَ روب رأسه، وبهدوءٍ سألَها حين دنَت منه: "ألهذه القلعة اسم؟".

- "في صِباي كان العامَّة يُسَمُّونها (الحجر العتيق)، لكن لا شَكَّ أنها حملَت اسمًا آخَر حين كانت لا تزال مقرًّا للملوك". لقد خيَّمت هنا ذات مرَّةٍ مع أبيها في الطَّريق إلى (سيجارد). وكان پيتر معنا أيضًا...

قال متذكِّرًا: "هناك أغنيَّة، چيني بنت (الحجر العتيق)، ذات الزُّهور في شَعرها".

- "كلُّنا في النِّهاية مجرَّد أغانٍ، إذا كنا محظوظين". في ذلك اليوم مثَّلت دور چيني ووضعَت أزهارًا في شَعرها، بينما تظاهرَ پيتر بأنه حبيبها أمير (قلعة اليعاسيب). وقتها لم تكن كاتلين أكبر من اثني عشر عامًا، وكان پيتر مجرَّد صبي.

رمقَ روب الضَّريح متسائلًا: "قبر مَن هذا؟".

كان أبوها قد روى لها القصَّة ذات يوم، فأجابَت: "هنا يَرقُد تريستيفر الرَّابع، ملك الأنهار والتِّلال. كان يَحكُم من (الثَّالوث) إلى (العُنق) قبل آلاف السِّنين من چيني وأميرها، في الأيام التي تساقطَت فيها ممالك البَشر الأوائل كالذُّباب أمام اجتياح الأنداليِّين. كانوا يُلَقِّبونه بمطرقة العدالة. قاتلَ تريستيفر في مئة معركة وانتصرَ في تسعٍ وتسعين، أو أن هذا ما يقوله المغنُّون، وحين شيَّد هذه القلعة كانت الأقوى في (وستروس) كلِّها"، ووضعَت يدها على كتف ابنها متابعةً: "ماتَ في معركته المئة عندما تحالفَ سبعة ملوكٍ أنداليِّين ضده، لكن تريستيفر الخامس لم يكن نظيره، وسرعان ما ضاعَت المملكة ثم القلعة وآخِر السُّلالة. بموت تريستيفر الخامس ماتَت عائلة مود التي حكمَت أراضي النَّهر طوال ألف عام قبل مجيء الأنداليِّين".

تحسَّس روب الحجارة الخشنة التي أتلفَتها الأجواء، وقال: "خذلَه وريثه. كنتُ آملُ أن أترك چاين بطفلٍ في بطنها... لقد حاوَلنا كثيرًا، لكني لستُ متأكِّدًا...".

- "الحمل لا يَحدُث من المرَّة الأولى دائمًا". مع أنه حدثَ معي. "ولا حتى المرَّة المئة، وأنت صغير جدًّا".

- "صغير وملك، ولا بُدَّ أن يكون للملك وريث. إذا مِتُّ في معركتي التَّالية فيجب ألَّا تموت مملكتي معي. قانونًا سانزا هي التَّالية في الوراثة، وهكذا تنتقل (وينترفل) والشَّمال إليها"، وزَمَّ روب فمه مضيفًا: "إليها وإلى السيِّد زوجها، تيريون لانستر. لا يُمكنني أن أسمح بذلك، ولن أسمح به. القزم لن يَستحوذ على الشَّمال أبدًا".

قالت كاتلين مؤيِّدةً: "نعم. عليك أن تُسَمِّي وريثًا آخَر حتى تُنجِب لك چاين ابنًا"، وتفكَّرت لحظةً قبل أن تُواصِل: "أبو أبوك كان بلا إخوة، لكن أباه كانت له أخت تزوَّجت ابنًا أصغر للورد رايمار رويس من فرع العائلة الصَّغير، وأنجبا ثلاث فتيات تزوَّجن كلُّهن لوردات من (الوادي)، اثنان منهم من عائلتَيْ واينوود وكوربراي بالتَّأكيد، والثَّالث... ربما كان من آل تمپلتون، لكن...".

قاطعَها روب بنبرةٍ حملَت شيئًا من الحدَّة: "أمَّاه، تنسين أن أبي أنجبَ أربعة أبناء".

لم تنسَ، بل لم ترغب في التَّطرُّق إلى هذا، لكن ها هي مرغمة. "سنو ليس ستارك".

- "چون فيه من دم ستارك أكثر من بضعة لوردات صغار من (الوادي) لم يروا (وينترفل) في حياتهم مرَّةً".

- "چون أخ في حَرس اللَّيل، أقسمَ ألَّا يتزوَّج أو يملك أراضيَ. مَن يرتدون الأسود يخدمون طيلة العُمر".

- "وكذا فُرسان الحَرس الملكي، لكن هذا لم يمنع آل لانستر من تجريد السير باريستان سلمي والسير بوروس بلاونت من المعطف الأبيض عندما انتفَت حاجتهم إليهما. إذا أرسلتُ لحَرس اللَّيل مئة رجلٍ بدلًا من چون، فأراهنُ أنهم سيجدون وسيلةً لعتقه من يمينه".

فكَّرت كاتلين عالمةً عناد ابنها: إنه عاقد العزم على هذا، ثم قالت: "النُّغول لا يرثون".

- "ما لم يُشَرعَنوا بقرارٍ ملكي. هناك سوابق لهذا أكثر من تحرير أخٍ محلَّف من قَسمه".

قالت بمرارة: "سوابق، نعم. إجون الرَّابع شرعنَ نغوله كلَّهم وهو في فِراش الموت، فكم أثمرَ هذا من ألمٍ وحزنٍ وحروبٍ واغتيالات؟ أعرفُ أنك تثق بچون، لكن هل في وسعك الثِّقة بأبنائه؟ أو بأبنائهم؟ مدَّعو آل بلاكفاير قضُّوا مضاجع آل تارجاريَن طيلة خمسة أجيال إلى أن قتلَ باريستان الباسل آخِرهم في (الأعتاب). إذا جعلت چون شرعيًّا فلا سبيل لإعادته نغلًا من جديد، وإذا تزوَّج وأنجبَ فقد لا يعيش أبناؤك من چاين في أمانٍ أبدًا".

- "چون لن يُؤذي ابنًا لي أبدًا".

- "كما لم يُؤذِ ثيون جرايچوي بران وريكون؟".

وثبَ جراي ويند فوق ضريح الملك تريستيفر كاشفًا أسنانه، بينما ظَلَّ وجه روب باردًا وهو يقول: "قولكِ قاسٍ وغير عادل. چون ليس ثيون".

- "هذا ما تتمنَّاه. هل فكَّرت في أختيك؟ ماذا عن حقوقهما؟ أوافِقك في أن الشَّمال يجب ألَّا يذهب إلى العِفريت أبدًا، لكن ماذا عن آريا؟ إنها تلي سانزا قانونًا... أختك الشَّرعيَّة...".

- "... الميتة. لا أحد رأى آريا أو سمعَ منها منذ قطعوا رأس أبي. لماذا تخدعين نفسكِ؟ آريا ماتَت مِثل بران وريكون، وسيَقتُلون سانزا أيضًا بمجرَّد أن تلد ابنًا للقزم. چون هو الأخ الوحيد المتبقِّي لي، وإذا مِتُّ بلا ذُرِّيَّة فأريده أن يخلفني كملكٍ في الشَّمال. كنتُ آملُ أن تدعميني في اختياري".

- "لا أستطيعُ. في كلِّ شيءٍ آخَر يا روب، في كلِّ شيء، لكن ليس في هذه... هذه الحماقة. لا تَطلُب هذا مني".

قال روب: "لستُ مضطرًّا لأن أطلب، إنني الملك"، ودارَ على عقبيه مبتعدًا، فقفزَ جراي ويند من فوق المقبرة وتواثبَ وراءه.

فكَّرت كاتلين بقنوطٍ إذ وقفَت وحدها عند ضريح تريستيفر الحجري: ماذا فعلتُ؟ أولًا أغضبتُ إدميور، والآن روب، وكلُّ ما فعلته أني قلتُ الحقيقة. هل الرِّجال حقًّا بهذه الهشاشة التي تجعلهم لا يُطيقون سماعها؟ كانت لتبكي لولا أن السَّماء بدأت تبكي بالفعل، وتطلَّبت عودتها إلى خيمتها لتجلس هناك بصمتٍ قوَّتها كلَّها.