من تونس إلى إيران والسودان.. رفض "التقشف" يوحّد المحتجين

منشور الأربعاء 17 يناير 2018

احتجاجات وتظاهرات انطلقت ثلاثة بلدان في منطقة الشرق الأوسط قبل أيام قليلة من بدء احتفالات العام الجديد، ثم تزايدت حدة بعض هذه التظاهرات فأدت في أحيان كثيرة إلى اشتباكات عنيفة أدت إلى سقوط قتلى وجرحى من المتظاهرين. القاسم المشترك الذي جمع بين دوافع المتظاهرين في شوارع طهران، والخرطوم، وتونس العاصمة، هو إقرار الحكومات الثلاث سياسات التقشف في الميزانية للسنة المالية الجديدة، في وقت شهد  ارتفاعًا كبيرًا في أسعار السلع الأساسية.

السودان.. انفصال فتضخم رغم رفع العقوبات الأمريكية

ميزانية مالية جديدة تنتهج مزيدًا من الاجراءات التقشفية، في بلدٍ تبلغ نسبة البطالة فيه 19.5 بالمئة، وترتفع فيه أسعار السلع الأساسية وفي مقدمتها الخبز قرابة الضعف، ما انعكس أثره باندلاع احتجاجات اجتماعية في المدن السودانية. وكان المجلس الوطني (البرلمان السوداني) قد وافق في ديسمبر/كانون الأول الماضي على الميزانية المالية للعام الجديد، في محاولة للحد من معدلات التضخم المتصاعدة باطراد. التي يعاني منها الاقتصاد السوداني منذ استفتاء انفصال جنوب السودان، والتي وصلت قرابة 35.52 في المئة في يونيو 2017.   اقرأ أيضًا: "أب كريشة حرمنا العيشة".. احتجاجات السودان تنضج مع الخبز فقدت الحكومة المركزية في الخرطوم ثلثا الآبار النفطية وعائداتها المالية مع انفصال الجنوب في يوليو/تموز 2011، وانعكس هذا على الاقتصاد السوداني في حقبة ما بعد انفصال.

على الرغم من التوقعات المأمولة من حدوث انفراجة في وضع الاقتصاد السوداني، مع رفع الولايات المتحدة في أكتوبر من العام الماضي، العقوبات الاقتصادية المفروضة على الخرطوم منذ عشرين عامًا. وبدء تدفق التحويلات المالية إلى السودان، إلا أن معدلات التضخم استمرت في الازدياد، مع الارتفاع المتكرر في أسعار  الوقود، والكهرباء. وهو ما انعكس في الميزانية المالية التي أقرها السودان والتي أدت إلى رفع الدعم الكلي عن القمح، ما أدى إلى تضاعف أسعار الخبز، واندلاع الاحتجاجات الاجتماعية في سنار الخرطوم وعدد من المدن السودانية اﻷخرى. مرورًا بتزايد الوضع المتأزم للجنيه السوداني مع قرار الحكومة السودانية رفع سعر الدولار الجمركي ليصل إلى 18 جنيهًا مقارنة بستة جنيهات. مع تزايد طلب المستوردين على العملة الصعبة في البلاد تزامنًا مع رفع العقوبات الاقتصادية. لينعكس اﻷمر على انهيار قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار ليصل إلى 23 جنيهًا في السوق الموازية -السوداء - مع تصاعد حدة الاحتجاجات في السودان والتي وصلت إلى إعلان الحركات السياسية المعارضة عن مسيرة -#السودان_موكب_16يناير  تجوب شوارع العاصمة بالقرب من القصر الرئاسي احتجاجًا على غلاء الأسعار وتردي الأوضاع الاقتصادية. وهو ما تصدت له الشرطة السودانية بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، كامتداد لنهج السلطات السودانية في التعامل بعنف مع المطالب الاجتماعي والاقتصادية للسودانيين، والذي أدى سابقًا إلى اعتقال العشرات، وتكرار سقوط قتلى من المتظاهرين.   

  في السياق نفسه، بدأت الحكومة السودانية في اتخاذ  أول رد فعل تجاه الاحتجاجات اليومية بإصدار الرئيس عمر البشير قرارًا بتشكيل لجنة لدراسة زيادة الأجور في ظل الاجراءات الاقتصادية اﻷخيرة. وفي حال إقرارها ستكون هذه هي الزيادة الثانية للأجور، التي أقرتها الحكومة، في أقل من عامين. وتراوحت الزيادة الأخيرة بين 11% و55% وفقا للدرجات الوظيفية في القطاع الحكومي، وأدرجت في الموازنة المالية للعام الماضي. 

إيران.. "الغلاء" أقوى من " الديمقراطية"

"ليس من الواضح بعد نية التظاهرات. نحن نسمع هتاف بعض المتظاهرين بعودة الشاه، ونسمع أيضًا الموت للديكتاتور، وقد رأينا متظاهرين يصرخون الله أكبر. وهذا ليس مماثل على الإطلاق لما رأيناه خلال الحركة الخضراء عام 2009. الظروف الاقتصادية هي القوة الدافعة، ولكنها أيضًا تؤدي إلى الإسلاموية في نهاية المطاف. إنه ائتلاف من مختلف الفصائل المناهضة للحكومة بعد تخييب آمالها في أعضاء النظام السياسي".  بهذه الكلمات علق أحد الإيرانيين على مقال للصحفي الاقتصادي الإيراني "إسفنديار باتمانليجدج" في موقع " بورس وبازار" المعني بالاقتصاد الإيراني.

يعكس هذا التعليق الهتافات التي دوت في شوارع طهران وعدد من المدن الإيرانية وعلى رأسها مدينة مشهد، المنددة بولاية الفقيه، والحكم المتشدد في البلاد، مرورًا بهتافات إسقاط المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، إلا أن الاحتجاجات تقف على أرض صلبة تمتد جذورها إلى اجراءات التقشف الاقتصادي التي تنتهجها حكومة الرئيس الإصلاحي حسن روحاني. وهو ما يختلف كليًا عن احتجاجات الطبقة الوسطى عام 2009 فيما سمي وقتئذ "الحركة الخضراء" احتجاجًا على نتائج الانتخابات الرئاسية، والتي فاز بها التيار الديني المحافظ ممثلاً في أحمدي نجاد.

تلك الاحتجاجات كانت تقف على أرض الحقوق المدنية والسياسية والديمقراطية لكافة الإيرانيين، ربما في تجاهل لأي مطالب اقتصادية، على عكس الاحتجاجات العفوية المنطلقة من مطالب اقتصادية بالأساس.   اقرأ أيضًا: "تظاهرات سراسري".. من تطبيق "تيليجرام" إلى شوارع طهران  فمنذ التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبرى في يوليو/ تموز 2015، وتزامنًا مع دخول الاتفاق حيز التنفيذ الفعلي في يناير/كانون الثاني 2016. تقدم حسن روحاني بالميزانية المالية إلى البرلمان الإيراني لإقرارها بعد 42 يومًا من الموعد الرسمي للتقدم بالميزانية. والتي استندت ربما على الآمال العريضة للحكومة الإيرانية عقب رفع العقوبات المفروضة على طهران بموجب اتفاق لوزان النووي. تقدم روحاني بمزانية تقدر بـ 315 مليار دولار أمريكي إلى البرلمان. وأوضح روحاني آنذاك أن الموازنة العامة صيغت على افتراض أن العقوبات الغربية سترفع بموجب الاتفاق النووي. وهى الموازنة التي اعتمدت على تقليل الاعتماد على العائدات النفطية في ظل التدهور العالمي في أسعار النفط في ظل معدل تضخم بلغ 10 في المئة.

في العام الحالي وبعد خمسة أشهر من فوزه بولاية رئاسية ثانية، بنسبة 56 بالمئة  فقط من اﻷصوات، فيما اعتبره مراقبون انهيارًا لشعبية الرئيس الاصلاحي، تقدم روحاني بميزانية إجمالية إلى البرلمان بلغت 337 مليار دولار بزيادة قدرها 6 في المئة عن العام الماضي. مع تخصيص 100 مليار دولار لتحسين قطاع الخدمات الحكومي، وتضمين برنامج جديد للضمان الاجتماعي. إجراءات التقشف التي ينتهجها روحاني منذ عام 2013، نجحت فعليًا في السيطرة على التضخم بدرجة كبيرة، إلا أن الآثار الاقتصادية المترتبة على تطبيق تلك السياسات التقشفية أدت إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، والزيادة المتكررة في أسعار الوقود، في بلدٍ يصل معدل البطالة فيها بين الشباب في الشريحة العمرية من 15 - 29 عامًا إلى 29.2 %

انعكس هذا في خارطة الاحتجاجات العنيفة  في القرى والمناطق النائية، والتي تعيش على هامش السياسة الإيرانية، بخلاف  للمدن الإيرانية الكبرى التي وصل إليها قطار الاحتجاج لاحقًا. تزامنًا مع توقعات صندوق النقد الدولي، أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في إيران (GDP) بنسبة تتراوح ما بين 3.5 إلى 3.8 في المئة خلال عامي2017 و2018. إلا أن الطفرة الاقتصادية مع رفع العقوبات على طهران لم تكن على القدر المتوقع حدوثه خاصة مع وصول رجل الأعمال دونالد ترامب للبيت الأبيض، وتهديداته المتكررة بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.

تونس.. التقشف للشعب والمصالحة لنظام بن علي

"فاش نستناو؟" عبارة بالعامية التونسية  تعني "ماذا ننتظر؟" تُلخص الاحتقان المتصاعد في الشارع التونسي تزامنًا مع إقرار البرلمان التونسي قانون المالية - الموازنة العامة  - لعام 2018، لتستمر الاجراءات الاقتصادية التقشفية التي تنتهجها الحكومة التونسية بقيادة يوسف الشاهد، والارتفاع المتتالي في أسعار الوقود في بلدٍ يعاني من التضخم بشكل مطرد منذ يناير 2016. 

"أكدت السلطات التونسية أن من أولوياتها للمدى القريب تحصيل مزيد من الإيرادات الضريبية على نحو عادل وكفء، وترشيد فاتورة أجور القطاع العام لخلق حيز أكبر أمام الاستثمار العام، وتنفيذ آلية تعديل أسعار الوقود" بهذه الكلمات نص البيان الإعلامي الصادر عن صندوق النقد الدولي بعد زيارة تفاوضية مع الحكومة التونسية في فبراير/شباط 2017. وهو ما انعكس في الموازنة العامة التي أقرها البرلمان التونسي في أكتوبر من العام الماضي.  اقرأ أيضًا: التونسيون يتساءلون: "فاش نستناو" بعد قانون المالية فبحسب المرصد التونسي للاقتصاد من المتوقع وصول الدين العام في عام 2018 إلى مستوى قياسي يمثل 22% من النفقات العمومية. مع استمرار صندوق النقد الدولى في الضغط على البنك المركزي التونسي لتخفيض قيمة الدينار التونسي، والذي فقد أكثر من 49% من قيمته، بدءًا من توقيع الحكومة التونسية في يناير 2013 على الشريحة الأولى من قرض الصندوق، مرورًا بالمراجعة الأخيرة لصندوق النقد لحركة الاقتصاد التونسي في يوليو 2017.

اندلعت التظاهرات والاحتجاجات العنيفة في عدد من المدن التونسية من أجل إسقاط قانون المالية، ما ادى إلى سقوط قتيل وجرح العشرات، وموجة من الاعتقالات السياسية اﻷكبر منذ الإطاحة بنظام بن علي في يناير 2011.

يأتي قرار الحكومة التونسية الرامي إلى زيادة الضرائب على الأجور، في محاولة لسد العجز في الموازنة، تزامنًا مع قانون "المصالحة الوطنية والاقتصادية" المقدم من الرئيس التونسي قائد السبسي والذي وافق عليه البرلمان بأغلبية كبيرة. القانون المقدم من السبسي والذي ينص على اتخاذ تدابير خاصة فيما يتعلق بقضايا الفساد المالي، تفضي إلى غلق الملفات نهائيًا مع عدد من رجال الأعمال، تحقيقًا لما أسماه "المصالحة الوطنية". أثار إقرار القانون السخط والغضب وسط القطاعات الشبابية الغير منظمة في البرلمان التونسي، لتولد حركة احتجاجية اخرى تحمل اسم "مانيش مسامح" اعتراضًا على اجراءات المصالحة التي تنتهجها الدولة مع رجال أعمال متهمين بالفساد المالي إبان حقبة الرئيس الهارب إلى السعودية زين العابدين بن علي.