عن الغربة والوطن مرة أخرى

منشور الأربعاء 10 يناير 2018

قضيت في القاهرة صيفًا أطول مما كان مرتبًا. قرب نهاية إجازتي الصيفية واستعدادي للعودة المخططة موعدًا وتفاصيل، واستعدادي المرتعش للاستقرار في المدينة الجديدة، أتت رسالة الكترونية واحدة لتحقق نبوءة الخريف الماضي وأكبر مخاوفي: "كل ما هو موجود الآن مهدد بالفقد".

أظهرت المدينة الجديدة وجهها الآخر. هناك، حيث كل شيء على ما يرام لدى الجميع، وحيث يبتسم الجميع لي طوال الوقت، وحيث الكل منبهرين دائمًا بعملي المتقن هناك وبإنجازات الماضي هنا، وبكل ما هو جديد وطريف ولا يعرفونه عن "الشرق"، أفهم أخيرًا جانبًا من شعوري الغامض بأنني لا أنتمي للمكان، ولا أثق في استمرار وجودي به. أرى في مسار الرسائل الالكترونية الآتية من هناك نذر انهيار وجودي الهش. أفهم معنى ألا تحتوي أوراقي ديمومة الكارت الأخضر، وأفهم مدلول أني لست رجلًا أبيض يدّعي المعرفة المطلقة بشيء ما.

يمكن لسكان المدينة الجديدة بسهولة إرسال ملفي إلى مفرمة الأوراق، ثم مواصلة ابتسامهم الدائم بدوني. يحدثني الرجل الأبيض المسؤول في مكتب الموارد البشرية بالمؤسسة العريقة عن عزم مؤسسته مواصلة نضالها ضد عنصرية الرجل الأبيض الآخر القابع في البيت الأبيض. يمكن للجميع مواصلة الحديث عن بغض العنصرية وعن حماية حقوق الأجانب، دون أن يبغضوا العنصرية فعلًا أو أن يكترثوا لحقوق العاملين الأجانب حقًا.

تخبرني حقائق الأوراق أن التعريف الضيق للوطن هو مكان لديك فيه عنوان ثابت، ولا يطالبك أحد بأوراق إضافية للإقامة.

اقرأ أيضًا: أحاديث الغربة والوطن 

***

أول الصيف يكون الشوق لزيارة القاهرة ورؤية الأصدقاء جارفًا. أختبر جيدًا معنى "الحنين للوطن" حين تطول أشهر الإقامة خارجه. طوال السنة الماضية كنت لا أزال أستغرب خيار الاستقرار بعيدًا. في الإجازات أحتضن الوجه الدافئ للقاهرة، وتحتضنني أماكني المفضلة وحفاوة الأصدقاء. في الإجازات أتجاهل ثقل المرور عبر تقاطع رابعة العدوية المؤدي لمنزل عائلتي، واتجاهل الظلام الذي ضرب محيط وسط البلد، وكآبة منظر المقاهي الموصدة كأنها تعلن حالة الحداد.

 

اتجاهل الظلام الذي ضرب محيط وسط البلد، وكآبة منظر المقاهي الموصدة كأنها تعلن حالة الحداد

بضع أسابيع في القاهرة كافية لتذكرني بوخز تركة الأعوام الماضية، وتذكرني لماذا غادرت أنا، ولماذا يغادر المزيد من الأصدقاء كل خريف.

علاء لا يزال قابعًا في سجن طرة بعد أن أيدت محكمة النقض الحكم الصادر ضده. شوكان لا يزال قابعًا في سجن الاستئناف بدون محاكمة. ماهينور عادت الى سجن القناطر لسبب لا أتذكره. أحمد ماهر قضى عقوبته وخرج من السجن، إلا أنه لا يزال عليه أن يبيت ليلته داخل قسم شرطة القطامية تنفيذًا لعقوبة المراقبة لمدة ثلاث سنوات. ذات مرة طلب منه أحد الضباط أن يمسح بلاط القسم، وعوقب لأنه رفض.

 

علاء لا يزال قابعا في سجن طرة، وماهينور عادت إلى سجن القناطر

نعرف أن هؤلاء "المعروفين" يدفعون ضريبة كونهم ما اصطُلح على تسميته "نشطاء الثورة". إلا أن قوائم المعتقلين تطول كل يوم لتشمل أعدادًا لا نعرف حصرها على وجه الدقة، ولا نعرف تماما منطق التنكيل بها. كل يوم تحمل صفحات التواصل الاجتماعي صورًا للمعتقلين من "غير المعروفين"؛ وجوه عشرينية تشبه جيكا ومينا ومحمد محسن، ووجوه ثلاثينية أو أكبر قليلًا لهؤلاء اللذين ظلوا على دين العمل الحزبي يناضلون ضد موت السياسة. حتى من لم يشتغل يومًا بالسياسة، وبنى شهرته من نشر التهريج الصرف؛ خُرم، صار متهمًا بالإرهاب. وصل اللا منطق في التنكيل حد اعتقال أنصار أحمد شفيق. بل أن الإصرار على موت السياسية جعل التنكيل بأحمد شفيق نفسه أمرًا عاديًا.

صار البطش عشوائيًا وغاشمًا بلا منطق ولا خطوط حمراء. صار من الممكن أن يحدث أي شيء لأي شخص مهما كان يتصور أنه متمتع بالحماية، أو أنه بعيد عما يسبب لسواه المشكلات. طالت قوائم الممنوعين من السفر والممنوعين من العودة لتشمل أسماءً لم أسمع بها من قبل، وتُهمًا غير العمل بمجال حقوق الانسان أو "التمويل الأجنبي". وطالت قوائم المواقع المحجوبة خلال أسابيع قليلة لتشمل تقريبًا كل ما أقرأه، مع موقع "المنصة" هذا، كما موقع "مدى مصر"، اللذين يحملان أرشيف معظم ما نشرته على مدار الأعوام الماضية. يفقد المزيد من الأصدقاء وظائفهم المرموقة بأوامر جهات مجهولة لأسباب مجهلة. 

يضاعف إحساس الفقد إحساسٌ دائمٌ بانعدام الأمان. يعود الثقل الذي يمسك برأسي ويرسل إشارات الألم ليدي اليمنى، يزداد وينهكني حتى يرسلني إلى فراشي أيامًا لا أغادره.

ويعود نفس السؤال الذي أطل برأسه منذ خريف 2014؛ كيف نحيا ما بعد الهزيمة؟ وأي حياة لا زالت ممكنة داخل الوطن؟ وكيف يحيا الأصدقاء دون أن تصيبهم نوبات الفزع التي تصيبني؟

***

على مدار السنوات الثلاث الماضية، حمل كل خريف علامة رحيل.

في خريف 2014 أنهت زينب مهدي حياتها. لم أعرف زينب بشكل شخصي، لكنني وجدت في انتحارها علامة فارقة تكفيني كي أنعى الثورة وأودع الحلم، وأبدأ رحلة البحث عن طريق "الهروب إلى حيث لا يوجد كل هذا العنف والقسوة والتعقيد". منذ ذلك الخريف تشكلت زينب في ذاكرتي كأروى صالح هذا الجيل.

ظلت أروى رمزًا لهزيمة جيل السبعينيات طوال عقود. أما هزيمتنا فمتعددة الصلبان. منذ خريف 2014 تتوالى أخبار الرحيل. صار الحديث عن أسباب الانتحار والبحث في أنواع الاكتئاب جزءًا من الحياة اليومية في القاهرة. على النقيض من حالة الابتسام الدائم السائدة في المدينة الجديدة، يكتسي وجه القاهرة بحالة من العبوس الدائم.

كنت حبيسة فراش طفولتي في القاهرة حين أتى صباح سبتمبري بخبر رحيل علا. لا أدعي قربًا خاصًا من علا، ولا فهمًا لتفاصيل حياتها. لكني أتذكرها في كل ما جمعنا خلال أعوام الثورة وبعدها كشخص مرح ومبدع ونشيط دائمًا، وأتذكر رسائلها لي بعد رحيل أمي عن تجربتها مع رحيل أمها. وأدعي فهمًا لحجم الألم الذي يمكن أن يسببه كل هذا الفقد.

تواتر الفقد لا يحمل معه اعتياد الفقد.

في خريف 2014 زرت طبيبًا نفسيًا للمرة الأولى أشكو من ثقل الهزيمة وألم الفقد وإحساس طاغ باللا جدوى. حينها كان طريق الفقد لا يزال في أوله. صرفني الطبيب مؤكدًا أنني لا أحتاج مساعدة من النوع الذي يمكن أن يقدمه. أعطاني بعض نصائح عامة لتحسين حالتي النفسية. في الخريف الذي تلاه غادرت للإقامة خارج الوطن للمرة الأولى. بعد أن مضت شهور الانبهار الأولى وسعادة البدايات، بدأ شعور غامض بذنب الناجي يخالط شعورًا واضحًا بالاغتراب. ثم تكاثف الفقد، وصارت زيارة معالجين نفسيين بين الساحل الشرقي والقاهرة أمرًا متكررًا.

في تجمعات –صارت متباعدة- لأصدقاء الثورة في القاهرة تتكرر الشكاوى من الإرهاق الدائم، والبكاء لأسباب غير مفهومة أحيانَا، وصعوبات في التركيز وفي إنجاز الكثير من المهام. الناجون هم من نجحوا في عزل مشروعاتهم الشخصية في فقاعات بعيدة عن المجال العام، واستعانوا ببعض الحيل الدفاعية التي تعين على الضحك كثيرًا والتنفس جيدًا.

هذا الخريف حدثت طبيب القاهرة عن الإنهاك العام وانفجارات الغضب ونوبات البكاء، عن إحساس عارم بالظلم لا أطيقه يتعاظم مع كل فقد صغر أو كبر، وشعور ثابت بالذنب لا أعرف كيف أفسره. يحدثني هو عن ضرورة مصالحة الفقد. يقول طبيب القاهرة إن "كل الأشياء تنتهي. الحياة نفسها تنتهي. كلنا مفارقون، كل من يدخل حياتك اليوم يمكن أن يخرج منها غدًا. لا استثناءات لهذه القاعدة".

رسم علا أبو الشلاشل

***

يتهمني عز الدين بأنني مريضة بداء الحنين المزمن، وأنني أمضي في طريق حياتي شاخصة إلى الخلف، أفكر في الماضي. أحاول أن أشرح له أن الماضي ليس خلفي. الماضي يقبع فوق كتفي. أحمله طوال الوقت. يتحول إلى ألم فعلي في الرقبة وأعلى الظهر، ويتحول في خيال مفرداتي الى الترجمة الفعلية لمصطلح "كسرة الضهر".

الماضي تأتي أخباره من مصر كل صباح. الماضي يتحول نوبات فزع، ومحاولات لمحو شعور بالذنب لأنني على قيد الحياة دون سواي، وأنني لم أفقد عينًا ولم أمض ليالٍ في زنزانة أو على ظهر مركب هجرة في عرض البحر، وأنني ربما كان بوسعي أن أفعل شيئًا ما بشكل أفضل ليشكل فارقًا ما-لي أو لأمي، أو لرفقاء الثورة، أو للاجئين السوريين اللذين كنت أعمل معهم، أو للإنسانية بشكل عام.

إلا أن الأمر صار مرهقًا جدًا.

تكتب صديقتي اليمنية أمل عن اضطراب مشاعرها وهي مطالبة بالقيام بكل مهام الحياة الطبيعية خلال إقامتها بكندا، بينما عائلتها وأحباؤها تحت قصف نيران حرب اليمن. أقول لها ما يقولونه في تعليمات الأمان على ظهر الطائرة "عليك تثبيت قناع الأوكسجين لنفسك أولًا قبل البدء في مساعدة الآخرين". أخاطب نفسي وأنا أحدث أمل: عليّ تثبيت قناع الأوكسجين لنفسي أولا.

لا ذنب في محاولة النجاة، بل إن محاولة النجاة فرض.

ربما المعركة الآن هي الصمود في محاولة تثبيت قناع الأوكسجين، والبحث عن مشروع شخصي يعيد للحياة بعض المعنى.

ربما يكفي من الانتماء للمكان توافر الحد الأدنى من الأمان، وبعض الألفة، ويد تعرف كيف تربت على مكامن الألم ريثما يزول، وأوراق إقامة تحمل أرضًا صلبةً لعنوان شبه مستقر، ودفاع عن حق في وجود أكثر راحة وأقل هشاشة.

ربما يكفي أن يمنح الوطن البديل قناع أوكسجين سخي ومساحة كافية كي أستطيع أن أفرد ظهري وأنا أسير دون ذلك الإحساس بالانكسار الدائم. ربما ضريبة النجاة أن أظل عالقةً في حالة النصف غربة/نصف وطن، دون أن أنتمي مجددًا بشكل تام؛ لا للمدينة الجديدة المبتسم أهلها دون سبب، ولا للقاهرة المتشحة بثقل الأحزان الدائمة.

يقول مريد البرغوثي "يكفي أن يواجه المرء تجربة الاقتلاع الأولى حتى يصبح مقتلعًا من هنا إلى الأبدية".

ربما الاقتلاع على الطريقة الفلسطينية هو مصير المقاتلين حين الهزيمة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.