AP/Hussein Malla

مسيحيو الشرق.. ما لهم وما عليهم

منشور الثلاثاء 19 يناير 2016

في حوار معه على قناة "بي بي سي عربي"، وفي معرض إجابته على سؤال يتعلق برأيه عن تشكل ميليشيات مسيحية في سوريا والعراق، أجاب رئيس أساقفة كانتربري بالمملكة المتحدة "جاستن ويلبي" بما معناه أنه ليس من حقه أن يحكم على ما قد يفعله أشخاص يتعرضون للعديد من الأخطار والتهديدات على أساس الهوية، وبأنه ليس من حق أحد أن يحكم عليهم وهو جالس في مكان ما من هذا العالم ويتمتع بالأمان الشخصي الذي يفتقدونه هم.

دائما ما يقفز مصطلح "مسيحيو الشرق" إلى الواجهة مع كل حدث كبير تواجهه المكونات المسيحية الموجودة في كثير من البلدان العربية، ودائما ما يصاحب الأمر الحديث عن تخوفات من فراغ الشرق من مسيحييه، ذلك الإفراغ أو الفراغ الذي بدأت أولى موجاته الكبرى في العراق بعد الغزو الأمريكي لها، واليوم في سوريا مع استمرار الصراع  واتخاذه منحى طائفيا بعد فترة قليلة من اشتعال الانتفاضة هناك. في هذه المقالة أحاول تناول تلك المسألة الشائكة، عن علاقة المسيحيين بالنظم الحاكمة في البلدان العربية وعلاقتهم أيضا بالمجموع الأكبر من سكان تلك البلدان وهم مسلمون سنة في الأغلب، عن هجرة كثير من المسيحيين من الشرق، وحَمْل البعض الآخر للسلاح وتفضيله للبقاء، وهل سيستمر ذلك البقاء أم قد يصبح الشرق في يوم من الأيام خاليا تماما من المسيحيين مثلما حدث مع اليهود الشرقيين.

دائما ما يتم اتهام المسيحيين، والأقليات بشكل عام في الحالة السورية، في سوريا أو في مصر بأنهم يقفون في صف النظم السلطوية الحاكمة في تلك البلدان. ففي سوريا يُتهم المسيحيون بأنه يصطفون خلف نظام بشار ويربطون مصيرهم بمصيره، وفي مصر كذلك دائما ما يُتَهَم المسيحيون بأنهم يقفون خلف النظام الحالي وبأنهم كانوا يعيشون في رغد في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، بل إنه كان يقال لي في بعض الأحيان إن من علامات ذلك الرغد هو عدم دخول المسيحيين لمقرات أمن الدولة التي كانت حكرا فقط على المسلمين. فهل بالفعل يحب مسيحيو سوريا بشار الأسد؟ وهل أحب مسيحيو مصر حسني مبارك؟ وهل بالفعل يربطون أمنهم وأمانهم بمصير نظام الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي؟

خلال الفترة القصيرة التي قضاها الرئيس الأسبق محمد مرسي في سدة الحكم، تمت محاصرة الكاتدرائية المرقسية بالعباسية من قبل مجموعة من البلطجية وفي حماية قوات الأمن، ذلك الحدث الذي مَثّل فارقة خطيرة في وعي مسيحيي مصر، فرمزية الحدث ولدت الرعب في نفوس الكثير من المسيحيين، الرعب الذي استشعرته بنفسي في أوساطهم. أن تتم مهاجمة المقر البابوي لأكبر الطوائف المسيحية في مصر، وهي الطائفة الأرثوذكسية، وفي ظل حكم الفصيل الذي كان دائما ما يقول "اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا"، نفس الفصيل الذي هدد وتوعد الكثير من قادته المسيحيين أثناء اعتصام رابعة العدوية، والذي بمجرد فضه كان الرد الأسهل والأبسط هو حرق العديد من الكنائس ونهبها كفعل انتقامي.

 

الهجوم على الكاتدرائية المرقسية، أبريل/نيسان 2013
Photo By: AP

مع دخول جيش الفتح، الذي يتكون من جبهة النصرة، أحرار الشام، جند الأقصى وفيلق الشام (الذي من المفترض أنه محسوب على جماعة الإخوان المسلمين في سوريا) بالإضافة لبعض الفصائل الأخرى، لمدينة إدلب، عاصمة محافظة إدلب بالشمال السوري، تم قتل كلا من السيد الياس ونجله نائل، وقد كانا يمتلكان محلا لبيع الخمور. حينما دخلت جبهة النصرة لبلدة معلولا المسيحية حرصوا على تشويه الرموز الدينية داخل الكنائس والأديرة ومن ثم اختطفوا مجموعة من الراهبات وأفرجوا عنهن في وقت لاحق ضمن صفقة تبادل أسرى كانت دولة قطر هي الوسيط فيها. اختطفت جبهة النصرة أيضا كاهن قرية اليعقوبية ذات الأغلبية المسيحية في ريف إدلب، ثم أطلقت سراحه بعد ذلك. وفي بلدة يبرود القريبة من دمشق، تواردت المعلومات عن قيام مقاتلي الجيش السوري الحر بفرض دفع مبالغ مالية بشكل شهري على وجهاء البلدة من المسيحيين كدعم لنشاطات الثورة، في حين أن ميليشيا جيش الإسلام، التي تتمركز في الغوطة الشرقية بريف دمشق، لم تبخل على العديد من الأحياء المسيحية القريبة من ريف دمشق كحي باب توما والقصاع بقذائف الهاون. وفي حلب أيضا لم تسلم الأحياء المسيحية أو الكنائس من القذائف التي تطلقها قوات المعارضة السورية.

الشرق الضَجِر من الأقليات

من الأمثلة السابقة يتضح أن من يحاولون أن يطرحوا أنفسهم كبديل للنظم القمعية السلطوية التي تحكم في سوريا أو في مصر، هم في حقيقة الأمر لا يختلفون عن تلك الأنظمة كثيرا ولكن بوجه أكثر طائفية ورفضا للأخر. المسيحيون في سوريا لم يأتوا بحافظ الأسد على سدة الحكم عام 1970 كما لم يلعبوا دورا في توريث الحكم لنجله بشار الأسد، ولم يتسببوا في مجزرة حماة في بدايات الثمانينيات من القرن المنصرم، كما أن المسيحيين في مصر لم يأتوا بمبارك على سدة الحكم ولم يدبروا لاغتيال السادات. نعم قد يقف المسيحيون في أغلب الوقت موقف المتفرج من كل تلك الأحداث ولكن في نهاية الأمر المسيحيون رقم هامشي في كل معادلات اللعبة السياسية في البلدان العربية، اللهم إلا في لبنان والتي هي أيضا أصبح يتحكم في اختيار رئيسها المسيحي المكونان السني والشيعي، فببساطة رحل ما يقرب من ثلثي مسيحيي العراق ولم تتغير المعادلة هناك في شيء، لا زالت المعادلة سنية شيعية بالأساس، في سوريا رحل ما يقرب من ثلث المسيحيين على مدار الأعوام السابقة من عمر الصراع ولم يتغير في المعادلة السنية العلوية الكثير. في مصر أيضا لا أظن أن خروج المسيحيين من المعادلة سوف يغير من الصراع الأبدي على السلطة بين العسكر والإسلاميين في شيء.

يبدو أن الشرق أصبح يضجر فعليا من الاختلاف، أصبح لا يطيق وجود أقليات تختلف عن المجموع السائد، بدأ الأمر باليهود واليوم يبدو أنه حان دور المسيحيين، أما أتباع الطوائف الباطنية كالدروز فمن الممكن ثنيهم عن غيهم تماما كما فعلت جبهة النصرة في القرى الدرزية بجبل السماق في ريف إدلب، حيث خرج بيان يقول إن وجهاء القرى الدرزية تبرأوا من الديانة الدرزية ويقرون بأنهم مسلمون من أهل السنة والجماعة، وكانت من بين بنود الإتفاق الذي تم بين أمير جبهة النصرة في المنطقة وهؤلاء الوجهاء نبش المقدسات الشركية وتسويتها بالأرض وفرض اللباس الشرعي للنساء خارج منازلهم ومنع ظاهرة الاختلاط في المدارس. ولكن هذا الاتفاق لم يشفع لأهالي إحدى تلك القرى(قرية قلب لوزة) بأن يتم ارتكاب مذبحة في حقهم على يد نفس الرجل الذي وقع معهم الاتفاق وهو أمير النصرة في المنطقة أبو عبد الرحمن التونسي؛ حيث تم قتل ما يقرب من 23 درزيا نتيجة لتشاحن حدث لرفضهم السماح لمقاتلي النصرة بمصادرة منزل يعود لأحد الأشخاص المجندين في الجيش السوري.

خرج اليهود من البلدان العربية ولم تتحسن أحوالها وحينما يخرج آخر مسيحي من بلدان الشرق لن تتحسن أحوال تلك البلدان أيضا. على المشرقيين وبالأخص المسلمين أن يسألوا أنفسهم عن جدوى ما يفعلونه، عليهم أن ينظروا للغرب الذي مر بمرحلتين في غاية الأهمية، الأولى هي فصل الدين عن الدولة والقضاء على دور الكنيسة في الحياة العامة، الأمر الذي نتج عنه بالقطع صراع تاريخي بين البروتستانت والكاثوليك، ولكن عن طريق علمانية حقيقية استطاعوا التغلب على ذلك الأمر ثم كانت المرحلة التالية من إدراكهم بأنه ليس هناك جدوي من التناحر الدائم والحروب التي لا تنتهي فكانت الوحدة الأوروبية. اليوم يمر عالمنا العربي بنفس الأمر تقريبا، حروب مذهبية في كل مكان تظللها مظلة الصراع السني الشيعي الكبرى، إذ تقود السعودية المعسكر السني، بينما تقود إيران المعسكر الشيعي.

على الأغلبية في البلدان العربية أن تسأل نفسها لماذا حمل مسيحيو وادي النصارى في ريف حمص السلاح اعتقادا منهم بأن جيران الأمس بقلعة الحصن يهددون أمانهم ولماذا يحمل مسيحيو محردة والسقيلبية في ريف حماة السلاح أيضا. على الأغلبيات أن تسأل أنفسها لماذا فضل الموارنة والدروز سكنى جبل لبنان ولماذا فضل الدروز في سوريا سكنى الجبال أيضا في السويداء أو في جبل السماق بإدلب ولماذا انتفض دروز السويداء حينما علموا باقتراب الجبهة الجنوبية التي تضم في معظمها مكونات من المفترض أنها تتبع الجيش السوري الحر بالرغم من أن دروز السويداء غير واقعين في غرام الأسد أو أجهزته الأمنية، بل على العكس دائما ما كانت تحدث مناوشات بين الطرفين وصلت لقيام محتجين دروز بتحطيم تمثال حافظ الأسد بعد مقتل الشيخ وحيد البلعوس المعروف بمعارضته للنظام السوري وللإسلاميين على حد سواء، ولكن قبلها مباشرة شهدوا ما جرى لأتباع نفس ديانتهم في جبل السماق.

إذن هل مطلوب من المسيحيين أن يحملوا السلاح لكي يستبدلوا نظاما قمعيا يصادر الحياة السياسية وينهب خيرات البلاد ويفسدها بنظام آخر قد تحكمه جماعات دينية كل ما تريد فعله هو مصادرة الحياة بمجملها وفي أفضل الأحوال قد يعتبرون المسيحيين أهل ذمة، وغيرها من تلك المصطلحات التي يتم استيرادها من أزمنة سحيقة، وهل يريد المسيحيون أن يعاملون كذميين؟ أظن أن كل ما يطلبه المسيحيون في الشرق هو دولة قانون لا تفرق بين مواطنيها بناء على الغلبة العددية. وعلى الأغلبيات أن تضع نفسها محل الأقليات ولو للحظة، عليها أن تستمع لهمومها وتحاول فهمها، المسلمون في الغرب يخشون مع كل حادثة إرهابية من ازدياد نبرة معاداة الإسلام في تلك الدول، فما بالنا بأشخاص تُفَجَّر كنائسهم وتُهدَم أديرتهم ويُهَجَّرون من منازلهم ويعاملون دائما على أنهم كفار لا يجب أن تأمن لهم لأنهم لن يرضوا عنك.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.