فليكر برخصة المشاع الإبداعي
آلة الساكس

"الأذن الموسيقية": واحدة من صفيح وأخرى من ماس

منشور الثلاثاء 6 مارس 2018

يروي طبيب الأعصاب البريطاني أوليفر ساكس حكايات طريفة عن أشخاص يستقبلون الموسيقى بطريقة تختلف كليًا عن تلك التي يستقبلها بها معظم الناس، فبينما كانت دي آل وهي امرأة سبعينية تشعر أن أحدهم يلقي بأواني مطبخها على الأرض عندما تستمع إلى أي مقطوعة موسيقية، فإن عازف الكمان جوردون بي استطاع أن يميز أن نغمة طنين أذنيه هي نغمة فا.

دي آل مُصابة بما يُعرف بـ"العمى النغمي"، وهو يمنع من يُصاب به من تمييز الموسيقى، فتتحول أصوات التنغيم إلى ضجيج يشبه قرع قطع معدنية ببعضها البعض بطريقة مزعجة وشاذة ومضطربة وبغيضة، عديم المعنى ولا مغزى لها. 

وهناك آخرون مصابون بدرجة أدنى من هذا العمى، فيما يطلق عليه اسم "الصمم النغمي"، وهؤلاء لا يستطيعون الغناء أو الدندنة بشكل صحيح، ولكنهم يحبون الاستماع إلى الموسيقى، وربما لا يدرون أنهم ينشزون عند التنغيم.

أما بي فقد كان في مكانٍ آخر، حيث الأذن المطلقة، الماسية، التي تستطيع أن ترى النغم، كما يرى الشخص العادي الألوان. 

الصمم الموسيقي 

ولا ينبغي أن يشعر المصابون بالصمم الموسيقي بالخزي وفقدان الأمل، فحسب بحث لنورمان واينبركر، عالم النفس والمتخصص في البيولوجيا العصبية في التعلم والذاكرة والموسيقى، أثبتت الدراسات "أن الأجنة قبل الولادة بقرابة أسبوعين ميزت بين موسيقى غير مألوفة والنغم الموسيقي المصاحب للعرض التلفزيوني Neighbors (جيران) الذي تسمعه أمهاتهم يوميًا ولمدة أسابيع". 

وأيضًا فإنه بإمكان الأطفال وبشكل فطري قبل النطق بالكلمات، التمييز بين النغمات والإيقاعات وتسارع الموسيقى والمناغاة من الوالدين بأصوات شبه موسيقية. بذلك لا يبدو الأمل بعيدًا لأن التدريب له عامل أساسي في تحسين الأذن الموسيقية، وهذا ما أثبتته إحدى الدراسات حول تعلم الموسيقى في جامعة هايدلبرك، حيث أعلن شنايدر وزملاؤه أن هناك اختلافًا في حجم القشرة السمعية لدى الموسيقيين تفوق غير الموسيقيين بنسبة 130%، والأهم أنه استنبط علاقة مؤكدة بين زيادة هذه النسبة المئوية ومستويات التدريب الموسيقي، ولذلك يتضح أن التدريب الموسيقي عامل رئيسي في زيادة قدرة الأعصاب التي تعالج الموسيقى بشكل مطرد على أداء وظيفتها.

ومن أسس التدريب الموسيقي لتحسين الذائقة الموسيقية، هو الانصات المتأمل للموسيقى، مهما كنا نعتقد أنها رديئة، كما تقول رحاب حسين الصائغ، وهي أستاذة بكلية الفنون الجميلة، في مقال بعنوان "في التذوق الموسيقي"، وفي هذا الصدد تميّز الصائغ بين السماع Hearing والاستماع Listening، فالسماع هو سماع مثير صوتي ما دون الاهتمام به، أما الاستماع فهو الانصات التام، والتأمل في المثير الصوتي أو بتعبيرها فإنه ما "يتعلق بوظيفة العقل، ويعني السماع مع توافر الهدف، وهذا يتضمن الاستماع إلى الموسيقى للتعرف على جوانبها المختلفة، ويعتبر الاستماع هدف التعليم المنظم".

ثم تسوق تصنيف علماء الموسيقى للاستماع إلى ثلاثة مستويات؛ المستوى الحسي وهو أبسط مستويات الاستماع، حيث نستمع إلى الموسيقى بينما ننشغل بأعمالنا الأخرى فتكون في خلفية ما يجري دون أن تشغل تفكيرنا، والمستوى التعبيري وهو الاستماع إلى الموسيقى مع معرفة ما تعبر عنه من شعور وتعبير ومعان قد تعجز اللغة عن التعبير عنها، ويعرف المستمع حينها إن كانت الموسيقى حزينة أو مفرحة أو متوترة أو قلقة أو آملة إلخ.

أما المستوى الثالث، بحسب الصائغ، فهو المستوى الموسيقي البحت، ويرتقي إليه المستمع عندما يتذوق الموسيقى على إطلاقها دون ربطها بتعابير معينة، فالموسيقى في علم الجمال فن لا يحيل إلى موضوع معين، أو معنى بعينه، بل مجرد تعبير جمالي بحت.

وترى رحاب الصائغ أن هذا المستوى الأخير لا يرقى معظم المستمعين إليه، وتقول "هنا يأتي دور الثقافة الموسيقية في التذوق، التي تعتبر الطريق الذي يمهد إلى تهذيب النفس ويعمل على تنمية حاسة التذوق والجمال".

تتفق الصائغ هنا مع الدكتور فؤاد زكريا الذي يشرح في كتابه "التعبير الموسيقي" كيف أن الأذن الموسيقية بحاجة إلى صقلها عن طريق الاستماع إلى الموسيقى، ففي البدء تتقبل الأذن الألحان البسيطة البدائية الساذجة، الخالية من الهارمونية أو تعدد الأصوات، والتي تكون فيها النغمات متقاربة، بدون قفزات غير متوقعة.

بحسب زكريا، هناك خبرات ومراحل موسيقية ينبغي على المستمع اجتيازها إلى أن يصل إلى الاستمتاع بالموسيقي الكلاسيكية، وربما ذلك يوضح لنا ولع معظم الناس بالأغاني الشعبية، التي بلا شك لا تخرج من جعبتها سوى بعض النغمات البسيطة الساذجة، فيألفها المستمع غير المتمرس، أما المستمع المتمرس، فسيصل في النهاية إلى الموسيقى الحداثية ويستطيع أن يتذوقها، ومن أشهر أعلامها سترافنسكي في القرن السابق.

لا ينبغي أن نخجل إن كان لدينا صمم نغمي، أو لا نستطيع أن نغني بشكل صحيح، أو نميز بين الإيقاعات المختلفة، فقد كان تشي جيفارا يعاني الصمم الإيقاعي والنغمي فيرقص المامبو بينما الفرقة تعزف التانجو.

والذين يعجزون عن التصفير أو الغناء بشكل جيد ولكنهم يدركون ذلك لا يعانون الصمم النغمي، فهو ما يأتي عندما ينحرف البعض عن المقام الرئيسي، ويدندنون بنغمات شاذة، دون أن يدركون ذلك، ويظنون أنهم مصيبون، هذا هو الصمم الموسيقى، أما العمى الموسيقي فهو تجربة مختلفة تمامًا. 

العمى الموسيقي

يعرفه أوليفار سكاس بالعمى الموسيقي المطلق، ويذكر أن الموسيقى بالنسبة للمصابين به تفقد خاصيتها الموسيقية، وتتحول إلى أصوات بغيضة، ويقال إن أحدهم شكا ذات مرة قائلًا إنه يسمع صرير إطارات سيارة كلما استمع إلى الموسيقى.

ويقص أوليفار ساكس علينا تجربته الشخصية مع عمى الموسيقى، إذ أصيب به مرة بشكل مؤقت عام 1974، إثر نوبات الصداع النصفي التي كانت تأتيه "كنت أقود على طول شارع نهر برونكس، مستمعًا للحن شعري لشوبان على الراديو، عندما تبدلت الموسيقى بشكل غريب. بدأت نغمات البيانو الجميلة تفقد درجة نغمها وطبيعتها واختُزِلت، في أقل من دقيقتين، إلى نوع من الضرب العنيف اللانغمي مع ارتداد معدني بغيض، كما لو أن اللحن الشعري كان يُعزف بمطرقة على صفيحة معدنية. وبعد بضع دقائق، حين شارفت القطعة الموسيقية على نهايتها، عادت النغمة الطبيعية. متحيرًا للغاية بكل هذا، اتصلت هاتفيًا لدى وصولي إلى البيت بالمحطة الإذاعية وسألتهم إن كانت هذه تجربة أو دعابة من نوع ما. وقد أجابوا بالنفي القاطع، واقترحوا أن أتحقق من جهاز الراديو".

وفي رحلة بحثه، التقى ساكس بطبيب الأعصاب الفرنسي فرنسوا ليرميت، الذي كان عندما يستمع إلى الموسيقى، فإنه يستطيع أن يميز فقط هل كانت النشيد الوطني الفرنسي أم لا، فقد توقفت قدرته على تمييز الألحان. كما أن يوليسيس جرانت، الرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة، قيل عنه شيئًا شبيهًا، إذ كان باستطاعته أن يميز فقط بين أغنيتين، إحداهما "يانكي دودل"، والأخرى "ليست يانكي دودل".

لم يلتق ساكس بأحد آخر مصاب بهذا المرض لعشرين سنة، حتى التقى بدي آل، وهي امرأة سبعينية نشأت في أسرة موسيقية، ولكنها عندما كان يُطلب منها أن تغني اسمها بينما كانت طفلة في الروضة كبقية الفتيات، لم تكن تعلم ما المقصود بـ "الغناء"، ولم تفهم ما الذي يفعله الآخرون عندما يغنون. وفي الصف الثالث عرض عليها اختبار تمييز بين خمس مقطوعات مختلفة، فلم تستطع، فجلب لها والدها اكسليفون، وعلمها أن تعزف مقطوعة معينة من خلال بعض العلامات والأرقام، ولكنها لم تسمع سوى الضجيج، ولم تعلم إن عزفها الآخرون هل عزفوها صحيحة أم لا. وكان يقال لها دائمًا "لماذا لا تحبين الموسيقى كما تحبها الفتيات الأخريات؟".

ولكنها كانت تستطيع أن تميز أي صوت آخر بخلاف الموسيقى، ولذلك كانت تحب الأغاني الهادئة بسبب كلماتها، وإن علت الموسيقى كانت تسمع ضجيجًا طاغيًا، وعندما يطلب منها أن تصف ما تسمعه تقول "إذا كنتم في مطبخي، وقذفتم كل القدور والمقالي على الأرض، فهذا ما أسمعه!" كما أنها كانت حساسة جدًا إلى النغمات الموسيقية العالية. وكانت تذهب إلى المسرحيات الغنائية وإلى الأوبرا مع العائلة فقط من باب التهذيب، ولكن الصوت الصارخ كان يقودها إلى الجنون. 

درجة النغم المطلقة

في الوجه الآخر لعملة الأذن الموسيقية، وعلى النقيض من العمى الموسيقي، هناك ما يعرف بدرجة النغم المطلقة، Absolute Pitch أو Perfect pitch. ومن لديهم هذه الأذن المطلقة، يستطيعون التمييز بين النغمات بشكل فوري، دون الرجوع إلى النوتة، أو إلى موقع إصبع العازف على الآلة، أو بمقاربتها بالنغمة التي قبلها أو التي تليها، أو بال Tuner، بل يعرفون أن هذه النغمة هي دو، أو صول، أو فا، أو كيفما عزفت.

إنهم يعاملون النغمات كما نعامل نحن الألوان، بمعنى أننا إذا رأينا لونًا أزرق، سنعرف مباشرة أنه أزرق، فلدينا قدرة على تسميته، لأننا خبرناه مسبقًا، أو كحاسة الشم والتذوق، يمكننا بسهولة وتلقائية أن نتعرف على اسم الأكلة أو الرائحة ونحن معصوبي الأعين، وبالمثل فصاحب الأذن المطلقة، بالنسبة له كل درجات الموسيقى - وهم سبع نغمات أساسيين (الأصابع البيضاء في البيانو)، وخمس نغمات فرعيين (الأصابع السوداء في البيانو) - تمثل لونًا من الألوان مثلنا، ولكل نغمة كيانًا متفردًا بذاته، لكل نغمة نكهة، وشعورًا، وطابعًا خاصًا.

يتعايش هؤلاء مع المقطوعات الموسيقية بشكل مختلف تمامًا عنا، فنحن بالنسبة لهم كمصابي عمى الألوان بالنسبة لنا، فكل مقطوعة موسيقية بالنسبة لهم تمثل كيانًا مستقلًا إذا كانت مكتوبة في سلم لا صغير مثلًا، فهي قد خلقت لهذا السلم دون غيره، أما إذا استمعوا إليه في درجة مختلفة، سينفرون من المقطوعة، في حين أننا لن نلاحظ فرقًا تقريبًا.

وفي ذلك يشرح المايسترو يوسف السيسي، في كتابه "دعوة إلى الموسيقى"، كيف "ربط الموسيقيون العظماء – وجدانيًا – بين المقامات الموسيقية وبين الألوان، وكانت هذه العلاقات ترتبط إلى حد ما بأحاسيسهم الشخصية النابعة من تجربة كل منهم في الفن والحياة؛ ولذلك فإن تحديد كل منهم كان يختلف عن اللآخر". 

ثم يوضح السيسي أن تغيير مقام أغنية بالنسبة لهم ما هو إلا عمل مفزع غير مقبول بالمرة، فيقول إنه في الموسيقى العربية يتم ضبط الدرجة حسب المساحة المريحة للمغنى، وإمكانية أصابع العازفين، ثم يقول كاشفًا الغطاء عن أذنه المطلقة "في الواقع إن تغيير الطبقة معناه تغيير الطابع واللون والارتباطات، وهو تشويه لأداء العمل،  فأنا لا أتصور أبدًا عزف سيمفونية لبيتهوفن في مقام ري بدلًا من دو مثلًا، وإلا فإن القيامة تقوم!".

ويقول أوليفر ساكس إن أصحاب درجة النغم المطلقة يصابون بالتشوش والاضطراب في تلك الحالة، وإن الأمر على حد قولهم شبيه بذهابك للسوق، فتجد أن الموز برتقالي، وأن الخس أصفر، وأن التفاح أرجواني، يقول "بالرغم من أن نقل الموسيقى من مفتاح إلى آخر قد لا يتطلب جهدًا يذكر بالنسبة إلى بعض الموسيقيين، إلا أنه يمكن أن يكون صعبًا بالنسبة إلى آخرين. ولكنه يمكن أن يكون مجهدًا بصورة خاصة لأولئك ذوي درجة النغم المطلقة، الذين يميزون كل مفتاح بطابعه الفريد الخاص، ويكون المفتاح الذي سمعوا به دومًا قطعة موسيقية هو على الأرجح المفتاح الوحيد الصحيح برأيهم. إن نقل قطعة موسيقية بالنسبة إلى شخص بدرجة نغم مطلقة، يمكن أن يكون شبيهًا برسم صورة بكل الألوان غير الصحيحة". 

وكثيرًا ما يجد هؤلاء مشاكل سمعية تتعلق بعزفهم ضمن أوركيسترا أو موسيقى حجرة، لأن أذنهم حساسة جدًا للنغمات، فإذا كان بجواره عازف قام بدوزنة آلته بخطأ طفيف غير ملحوظ البتة للإنسان الطبيعي، فهو ملحوظ جدًا بالنسبة لصاحب الأذن المطلقة، وها هو موتسارت في عامه السابع يقول لصديقه سكاكنتر "إذا لم تكن قد غيرت دوزنة كمانك منذ أن عزفت عليه آخر مرة، فإنه أخفض بنصف ربع نغمة من كماني".

أو كما يروي ساكس في كتابه، على لسان كتاب "دليل أكسفورد إلى الموسيقى" والذي به العديد من الأمثلة والقصص العجيبة، منها مثلًا أن السير فريدريك أوسليه، وهو بروفيسور سابق في الموسيقى في جامعة أوكسفورد "كان قادرًا في الخامسة من عمره على إبداء ملاحظة مثل: أبي يتمخط في صول، وأن السماء ترعد في صول، وأن الريح تصفر في ري، وأن ساعة الحائط تضرب في سي بيمول"

ويحكي لنا ساكس عن أناس يستطيعون تحديد درجة النغمة ليس فقط التي يسمعونها، بل التي يتخيلونها في رؤوسهم، فقد كتب إليه جوردون بي، وهو عازف كمان محترف، أن طنين أذنيه كان في الواقع على درجة فا. الشيء الذي قاله بي بطبيعية، واندهش له ساكس قائلًا "أظن أنه لم يدرك أن قوله هذا كان في جميع الأحوال فريدًا، فمن بين ملايين الناس المصابين بالطنين، بالكاد يستطيع واحد من عشرة آلاف أن يحدد درجة النغم لطنين أذنيه"

يقول ساكس إنه بالنسبة لمعظمنا، فإن هذه القدرة على تمييز درجات النغم، هي قدرة غير طبيعية، وكأنها حاسة أخرى لا يمكن أن نأمل أبدًا في امتلاكها، مثل رؤية الآشعة تحت الحمراء أو آشعة إكس. لكن بالنسبة لأولئك أصحاب الأذن المطلقة، فهي تبدو طبيعية تمامًا.