حمدي أحمد.. أو ماذا تبقى من ذكرياتنا؟

منشور الأربعاء 13 يناير 2016

للمغني الفرنسي الشهير شارل ترينيه Charles Trenet أغنية شهيرة تقول: ماذا يتبقى لنا من حبنا؟ يتحدث فيها عن الذكريات الذائبة في دياجير المجهول والتي تتبقى منها صور باهتة Flou وتبذل مجهودًا قاسيًا وتمرينًا منهكًا حتى تسترجع صورة كاملة أو تستكمل بناء الـ Puzzle في ذهنك.

في حالة الفنان الكبير الراحل حمدي أحمد ضبطت نفسي أقوم بهذا الفعل و أتساءل ماذا تبقى من هذا الرجل؟ ليس هذا تقليلًا من شأن فنان ارتبط اسمه بأعمال كثيرة مهمة في تاريخ السينما، وأدوار أيضًا لا تنسى سوف نتحدث عنها بشكل تفصيلي. و لكن مهلًا، هناك سؤال يطرح نفسه: ما هو آخر ظهور للرجل علق بأذهان المشاهدين ولماذا توارى عن الأنظار طويلًا؟ هل هي نداهة السياسة التي أخرجت مساره الفني عن القضبان؟

اختار الرجل أن يلقي بنفسه في صحراء السياسة المجدبة في بلد لا أمل فيها من أي إصلاح، ولكن كيف يصل المرء للنتيجة دون أن يخوض التجربة وتنزلق قدمه في الجب. 

كان ظهور حمدي أحمد الفني الأول، قبل أن يستجيب لغواية السياسة، ظهورا مظفرا. لم يكن الرجل، بملامحه السمراء المجهدة وبصدغيه المنتفخين ولونه الأسمر، يصلح لأدوار الفتى الأول أو الجان بريميير Jeune premier ولكن السينما كانت بحاجة للبطل المأزوم متهدل الكتفين الناقم على المجتمع البرجوازي الذي ينفث نارا من فمه. التقطه صلاح أبو سيف من المسرح وعمّده بطلًا لرواية نجيب محفوظ القاهرة الجديدة في الفيلم الشهير "القاهرة 30"، وهنا ولدت شخصية محجوب عبد الدايم التي التصقت بالراحل حمدي أحمد و جعلت المشاهدين ينسون أدوارًا كثيرة مهمة و متنوعة للرجل و لا يذكرون إلا محجوب عبد الدايم، هذا النموذج Prototype للشخص الوصولي الذي يدهس قيمه ومبادئه و كرامته من أجل الوصول، و لا ينسى أحد منا مشهد القرنين الشهير عندما يرضخ حمدي أحمد تحت وطأة الفقر أن يكون كوبري أو "زوج معرّص" حينما يتزوج سعاد حسني لكي يضاجعها الباشا أحمد مظهر في مشهد بالغ فيه صلاح أبو سيف برمزية خشنة عاب عليه فيها بعض النقاد، و لكنها، رغما عن أنوفهم، بقيت ذات دلالة يتم استعادتها اليوم في عدة سياقات، و ترتبط شخصية محجوب عبد الدايم في أذهان الناس بصحفي شهير.

 


اللكنة الريفية 

من "القاهرة 30" انتقل حمدي أحمد بمهارة محافظًا دومًا في أدائه على اللكنة الريفية لعدة أدوار مثل "المتمردون" مع توفيق صالح، وهو فيلم يجب وحتمًا أن يعاود محبو السينما زيارته، ومن "المتمردون" إلى فيلم "الأرض" الشهير ليوسف شاهين ودور محمد أفندي، وهو دور المدرس الريفي الأصل، الذى نال قسطًا من التعليم عكس أقرانه، يتحلى بسمت وقور ويرتدي جلبابا ناصع البياض يجعله مميزا مع نظارتة الطبية، لكنه جبان رعديد من الداخل، يتنازل عن المطلب الجماعى المتعلق بإبعاد طريق القطار عن أرض القرية، بعد أن وعده الباشا بعدم المساس بأرضه؛ دور شخص مهزوم يشكل الوجه الآخر من العملة لمحجوب عبد الدايم، ويبدو أن بنية حمدي النحيلة و عيونه الغائرة جعلته خير ممثل للمواطن المصري المطحون الذي تتقاذفه الرياح و"يخلي خده مداس ل اللي يسوى و اللي ما يسواش".

وتمر السنون وتجري في النهر مياه كثيرة، وينقلب النظام المصري من النقيض إلى النقيض، ولكن يظل حمدي أحمد في ذهنيّ صلاح أبو سيف ويوسف شاهين. فيستعين به يوسف في دور في فيلم "اليوم السادس" عن رواية لآندريه شديد؛ فيلم شديد المحلية بنكهة استشراقية تظهر في كتاب آندريه شديد ورقص محسن محيي الدين المستوحى من جين كيلي، بالإضافة إلى اختيار المغنية الإيطالية-المصرية داليدا للقيام بدور الأم. 

ما الذي فعله حمدي في هذه الخلطة الاستشراقية التي ربما لا تناسب سمته الأسمر المعتاد وأداءه الكلاسيكي الموروث من المسرح، قدم دور الجد سعيد، وهو دور هاديء لرجل يحتضر في الخلفية، ولا يتناسب مع طبيعة أدواره السابقة.


نائبا في البرلمان

في نهاية السبعينيات ومع فتح السادات لمحبس العمل السياسي وسماحه بتكوين الأحزاب حتى يظهر بمظهر الرئيس الديموقراطي أمام صديقه كارتر، دخل حمدي مجلس الشعب كنائب لأول مرة في فترة كانت لهجة المعارضة فيها عالية، مع نواب مثل كمال أحمد وعادل عيد ومحمود القاضي. بعدها بفترة تأسس حزب العمل الاشتراكي، الذي سيصبح إسلاميا بعد ذلك، برئاسة ابراهيم شكري، وكان حمدي أحمد من ضمن الأعضاء المؤسسين، إلى جانب الماركسي السابق عادل حسين، الذي سيصبح فيما بعد إسلاميا عنيفا. بدأت أدوار حمدي أحمد الفنية تتراجع لتفسح مجالا لعمله السياسي. 

ولكن في غمار انشغاله بالأداء السياسي الذي خفت في بدايات عصر مبارك، لعب حمدي دورا استخدم فيه كل أدواته الأثيرة من اللكنة الفلاحي والتلويح باليد والأداء الممسرح الجذاب في فيلم "البداية" لصلاح أبو سيف الذي عُرِض عام 1986، وهو فيلمه قبل الأخير الذي اتبعه بـ "المواطن مصري" إذا حذفنا فيلمه التلفزيوني الأخير "السيد كاف" من مسيرته. 

في "البداية" هناك مشهد شهير لجميل راتب حاكم جزية "نبيهاليا" التي كونها مجموعة من الناجين من حادث تحطم طائرة؛ ينافس جميل راتب أحمد زكي في الانتخابات، ويرمز دور زكي بوضوح للمعارضة اليسارية في مقابل تمثيل راتب للنظام؛ يحاول راتب تشويه زكي في عيون حمدي أحمد، الفلاح الأصيل الذي يمثل الوعي الجمعي الشعبي، فيصم أحمد زكي بالإلحاد وبأنه ديمقراطي.  


عبد العال حاد الطباع

يروى المقربون من حمدي أحمد أن انغماسه في العمل السياسي أعطاه طابعا حادا يشبه بعض الشخصيات التي أداها، فمن المعروف أن حمدي هو مَن كان يؤدي دور الشاويش عبد العال في مسرحية "ريا وسكينة"؛ وفي أحد عروض المسرحية في الكويت، أبدى الرجل صراحة انزعاجه من تصفيق الجمهور الطويل لشادية قائلا: "على إيه ده كله مش فاهم"، فتم استبعاده من العرض بموافقة الجميع والاستعانة بأحمد بدير بدلا منه. فقالت له سهير البابلي في هذا الوقت: "يا حمدي إحنا ضيوف على جمهور شادية". 

ربما لن تعلق بذاكرتك العديد من أدوار الرجل الأخيرة، مثل دوره في فيلم "سوق المتعة" عندما قدم دور السلطة العليا المتحكمة في كل الأمور في مشهد واحد تذكر منه كلمة "برافو"، أو دوره الصامت الذي أداه ببراعة في رائعة رضوان الكاشف "عرق البلح" أو دوره الهزلي في مسلسل أمين وأمين على الأمة "الشعراوي"، عندما استعمل أدواته المكررة في أداء دور منافس الشيخ الشعراوي الذي يمثل نقيضه، باعتبار أن الشعراوي قديس و أن نقيضه مخادع ومحتال، أو ظهوره الأخير في فيلم "صرخة نملة" و الذي تم الانتهاء من تصويره عام 2010 و عرض عام 2011 بعد أن تم اضافة مشهد لثورة 25 يناير.

 عند رحيل الفنان الكبير حمدي قفز لذاكرتي مشهد حدث في التسعينيات من القرن المنصرم،  كان هناك برنامج ركيك يعرض في التلفزيون المصري اسمه "لو بطلنا نحلم" من تقديم المذيع الناعم الرومانسي ذي الباروكة العارمة عاطف كامل، استضاف البرنامج حمدي أحمد كممثل ومناضل وعضو في حزب العمل الاشتراكي الإسلامي، وككاتب في جريدة الأسبوع التعبوية لصاحبها مصطفى بكري، كان حمدي يتحدث بإخلاص و حماسة وأداء مسرحي منقطع النظير عن معاناة الطلبة المصريين في مكعبات أسمنتية تخنق الروح و الإبداع وسط غياب كامل للمسرح الطلابي والجامعي مرتديًا وقتها بدلة سفاري أو بوشرت (من بدل القطاع العام، أو ما يطلق عليها بدل الكمسارية)، بدلة تليق بقطب يساري كلاسيكي. وكان صوته المتحشرج وحركات يديه يظهران كم كان ملتاعًا ومكلومًا بسبب غياب الفن الجاد والمسرح الطلابي وخنق أحلام الشباب، و ينتهي البرنامج وفي صدفة لن تتكرر إلا كواحد في المليون تأتي فقرة إعلانية بصوت إيناس جوهر : "كوميك تياترو يسري الإبياري تقدم: مسرحية شوشو تروح وسوسو تيجي"، لتجد حمدي أحمد متوسطًا ميمي جمال وضياء الميرغني، ويتمايل الثلاثة يمينا ويسارا على أغنية "شوشو تروح .. هيه.. و سوسو تيجي، شوشو تروح.. هيه.. وسوسو تيجي". وللأسف لم تحفظ لنا التسجيلات هذة التحفة الفنية بسبب فشل المسرحية، و لا حفظت لنا ذاكرة اليوتيوب حلقة حمدي أحمد مع عاطف كامل التي تحدث فيها عن المكعبات الأسمنتية.