ترامب والقدس.. أسئلة حول المشروع الإسرائيلي

منشور الأربعاء 13 ديسمبر 2017

ومن المدهش إعادة ترويج بعض الأصوات العربية لأفكار مثل "بيع الفلسطينيين لأراضيهم لليهود قبل 1948 "في الوقت الذي يكتب فيه المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه عن أن 5.8 بالمئة فقط من ملاك الأرض الزراعية في فلسطين التاريخية كانوا يهودًا في عام 1947.

1

منذ أربع سنوات، وخلال محاضرة جامعية في لندن حول تاريخ الصراع في الشرق الأوسط، عرض المحاضر الإيطالي تاريخ الصراع في فلسطين انطلاقًا من قرارات التقسيم الأممية التي رفضها العرب وأدت الى حرب 1948 ثم لاحقًا إلى الحروب التالية التي مكنت إسرائيل من ابتلاع كامل فلسطين التاريخية. 

بعد العرض ردد المحاضر جملة قالها قبله كثيرون ومن بينهم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وهي أن القضية الفلسطينية هي قضية الفرص الضائعة وأن الفلسطينيين والعرب لو كانوا قد قبلوا بقرارات التقسيم لاحتفظوا بمساحات أكبر من فلسطين التاريخية. 

على الفور سألته طالبة إسبانية لم تكن تعرف شيئًا عن تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قبل هذه المحاضرة، كيف يمكن الحكم على القرار الفلسطيني والعربي برفض قرارات التقسيم الأممية بأنه قرار خاطئ حينما كانت الأرض كلها معهم قبل هذه التطورات، وبالتالي رفض قرارات التقسيم وما تبعها كان تصرفًا منطقيًا وفق التسلسل التاريخي. 

عندما اختار إيلان بابيه، أحد أعضاء حركة المؤرخين الإسرائيليين الجدد، تناول تاريخ إنشاء إسرائيل، قرر أن يكون عنوان كتابه "The Ethnic Cleansing of Palestine"، أو "التطهير العرقي لفلسطين". انطلق بابيه في روايته لتاريخ إنشاء الدولة العبرية من التعريفات التي قدمتها الأمم المتحدة لمفهوم التطهير العرقي، وهو قيام مجموعة من الناس بطرد مجموعة أخرى من أرضها عبر الإجبار بالقوة وعلى أساس ديني أو عرقي أو قومي. 

ومن المثير أن بابيه اختار أن يقرن كلمة "الفلسطينيين" بكلمة "indigenous" لتصبح "السكان الأصليين الفلسطينيين"، وهو ما يحيلنا الى اللحظات التاريخية التي تم استخدام تلك الكلمة لوصف أصحاب الأرض في أمريكا الشمالية وأستراليا قبل التطهير العرقي من قبل المهاجرين الأوروبيين.  

طرح بابيه وضع القضية الفلسطينية ضمن سياقها الإنساني والتاريخي الذي تكرر في أماكن أخرى مثل يوغسلافيا خلال حرب تفككها الدموي في تسعينيات القرن الماضي. وهو طرحٌ لم يكن شائعًا في الأدبيات العربية التي تناولت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ووضعته إما ضمن سياق الصراع الديني، متجاهلةً قرونًا من التعايش السلمي بين المسلمين واليهود في الشرق الأوسط وإسبانيا، أو ضمن سياق الصراع بين القوى الاستعمارية ومستعمراتها في الشرق الأوسط وفق ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى. 

2

في العقود التالية لحرب 1948 وإنشاء إسرائيل، كان تاريخ الشرق الأوسط الحديث متأثرًا بالصراع في فلسطين التاريخية. هزيمة الدول العربية المجاورة لفلسطين في حرب 1948 أدت الى موجة من الانقلابات العسكرية التي رأت أن قياداتها كانت إما ضعيفة أو متواطئة مع إرادة القوى الاستعمارية في إنشاء إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية. 

في العقود الأربعة التالية تحول الصراع بين إسرائيل وجيرانها الى إحدى ساحات المواجهة الرئيسية للحرب الباردة. وبالتوازي مع ذلك أصبح الموقف من إسرائيل وحلفائها أساسًا لتقسيم المحاور داخل العالم العربي وسببًا رئيسيًا من أسباب الحرب العربية الباردة خلال ستينيات القرن الماضي. 

لكن عام 2011 كان نقطة تحول في علاقة العرب بالقضية الفلسطينية. لأول مرة لم يعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أولوية لدى الرأي العام في الدول العربية. انشغل المواطن العربي بالانتفاضات الشعبية التي كشفت عن مشاكل عميقة في بنية الدولة وعلاقتها بمجتمعاتها، كما حدث في الحالة المصرية، أو كشفت عن حجم هائل من الصراعات الطائفية والقبلية المؤجلة كما حدث في الحالتين السورية والليبية. 

أصبح من الطبيعي عدم تصدر الخبر الفلسطيني لنشرات الأخبار العربية لشهور، بعكس ما كان حادثًا قبل 2011. حتى التيار الإسلامي الذي كان شعاره "كيف نضحك والأقصى أسير"، لم يعد الأقصى أولوية بالنسبة لقياداته الغارقة في الصراع على السلطة أو في إقامة التحالفات المؤقتة من أجل البقاء في الحكم أو العودة إليه. أما الحكومات العربية التي استغلت لعقود المزايدات الخاصة بالقضية الفلسطينية من أجل تأجيل استحقاقاتها في التنمية والديمقراطية، فقد استبدلت ذلك بالتحذير من "الخطر الإيراني" أو التنبيه لسيناريوهات "تفكك الدولة وانهيارها" وأهمية الحفاظ عليها. 

أتى قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها ليعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي للواجهة ولو مؤقتًا ويعيد الشارع العربية الى سنوات التسعينيات ولحظات التعاطف الشعبي مع الانتفاضات الفلسطينية. لكن اللافت هذه المرة أن أصواتًا عديدة في العالم العربي زايدت على اليمين الأمريكي في "يهودية القدس" ووصلت الى حد الادعاء بأن المسجد الأقصى المذكور في القرآن هو مسجدٌ آخر في الجزيرة العربية، وأن لا قدسية للقدس في الدين الإسلامي.

لم يكن الهدف من هذه المواقف نفي البعد الديني لقضية القدس بقدر ما كانت امتدادًا لمواقف قديمة ظهرت في أعقاب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وكان الهدف منها هو فك ارتباط شرعية النظام الحاكم بالقضية الفلسطينية، خصوصًا وأن أنور السادات هو أحد ضباط يوليو الذين اعتبروا الهزيمة أمام إسرائيل في حرب 1948 أحد أسباب ثورتهم في 1952. 

ومن المدهش قيام بعض الأصوات العربية بالترويج لأفكار مثل "بيع الفلسطينيين لأراضيهم لليهود قبل 1948 "في الوقت الذي يكتب فيه المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه عن أن 5.8 بالمئة فقط من ملاك الأرض الزراعية في فلسطين التاريخية كانوا يهودًا في عام 1947، وأن ثلثي المقيمين على أرض فلسطين التاريخية كانوا من "السكان الأصليين الفلسطينيين" بحلول ديسمبر /كانون الأول عام 1947 بعد أن كانوا يشكلون تسعين بالمئة في بداية الانتداب البريطاني عام 1922.  

3

مع تزايد الحديث عن "صفقة القرن" في الشرق الأوسط، والتي لم يعلن ترامب حتى الآن عن تفاصيلها، واقتراب ميعاد الإعلان عن إقامة علاقات رسمية ودافئة بين دول خليجية وإسرائيل، أصبح من الضروري للناطقين باسم الأنظمة العربية العودة الى نشر نفس المواقف التي تم تصديرها بكثافة في السبعينيات والتي حاولت فك الارتباط بين مفهوم "الكرامة الوطنية" ومعاداة إسرائيل أو رفض المواقف الأمريكية المؤيدة لها. 

الخطاب الرسمي العربي منذ 2011 أصبح منشغلًا بإعادة رسم خريطة التحالفات والمحاور في المنطقة على أساس العلاقة مع إيران بدلًا من العلاقة مع إسرائيل كما كان سائدًا قبل الربيع العربي. محور "الممانعة" المكون من سوريا وقطر وحزب الله في لبنان، لم يعد قائمًا بعد تفجر الأوضاع في سوريا ودخول إيران وحزب الله كأطراف على الأرض. أما محور الدول "المعتدلة" المكون من مصر والسعودية والإمارات والأردن فأصبح منشغلًا بالتعامل مع تهديدات تنظيم ما يعرف باسم الدولة الإسلامية وتمدد النفوذ الإيراني في اليمن ولبنان. 

لم تعد إسرائيل بالنسبة لمحور الدول "المعتدلة" طرفًا لا يريدون إعلان العلاقة معه بقدر ما أصبح حليفًا في مواجهة التهديدات التي يتعرضون لها. أصبح المشهد العربي برمته مفككًا وضعيفًا وقابلًا للاختراق من القوى المحيطة به: إيران وتركيا وإسرائيل. لم تعد القدس أو إطارها الأوسع وهو القضية الفلسطينية أساسًا لبناء المحاور في المنطقة. 

أتى قرار ترامب المثير للجدل متسقًا مع الخريطة الجديدة للصراع في المنطقة. فقد راهن الرئيس الأمريكي على رفع شعبيته لدى اليمين المسيحي المتشدد في الولايات المتحدة وفي نفس الوقت إشغال الإعلام الأمريكي بالعاصفة التي أثارها قراره، دون أن يخشى غضباً من حلفائه العرب، المنشغلون في صراعاتهم الإقليمية.  

عند التأمل في الصراع على فلسطين التاريخية، تبدو إسرائيل نموذجًا يسير عكس حركة التاريخ. فهي مشروعٌ استيطاني بدأ في لحظة أفول المشاريع الاستعمارية الكبرى لصالح نظام دولي جديد تهيمن عليه صراعات أيدولوجية وعقائدية. وهو مشروعٌ قائم على التطهير العرقي وعلى عدم المساواة في عالم لديه تصورات مختلفة لحقوق الإنسان والمساواة عن عالم القرن التاسع عشر الذي لم يكن قد بلور موقفًا أخلاقيًا واضحًا تجاه التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية. وهو مشروعٌ أصبح يشكل عبئًا أخلاقيًا على المتعاملين معه سواء من جيرانه أو القوى الدولية التي التزمت بحمايته منذ البداية. 

لهذا فإن أي خطوة سياسية مثيرة للجدل مثل قرار ترامب الأخير حول القدس لا تخدم المشروع الإسرائيلي الحالي الذي يحاول أن يكون طرفًا رئيسيًا في ترتيبات جديدة للمنطقة، تضعه في قلب تحالف ضد إيران. هذا التحالف المرتقب يجعل إسرائيل حريصة على تمتين جسور التعاون والتنسيق مع جيرانها العرب وتجاوز المعضلة الفلسطينية، من دون تقديم أي تنازلات في ملف القدس وملف حق العودة.  

قرار ترامب يأتي في لحظة بدت فيها القضية الفلسطينية خارج أجندة المنطقة الغارقة في صراعاتها الطائفية، ليعيد فتح نقاش حول خطوط الصراع بين السكان الأصليين للأرض والمهاجرين إليها من أبناء المشروع الصهيوني. والأهم أن تبعات القرار فتحت الباب للتساؤل حول قدرة المشروع الإسرائيلي على تحييد محيطه دون الذوبان فيه.  

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.