حلبات المصارعة الفنّية

منشور الثلاثاء 12 ديسمبر 2017

بدأ مؤخرًا عَرْض الموسم الثاني من برنامج "ذا فويس كيدز" للصِغار، وقد ثارَ بعضُ الجدل عند عرض الموسم الأوَّل قبل نحو عامين، حول قسوة هذه التجربة على نفوس الأطفال إلى درجة بكائهم أحيانًا عندما يواجهون الإخفاق أو عندما لا يختارهم أحدٌ من المدربين ليكونوا ضمن فريقه في مرحلة الصوت وبس.

لكنَّ منطق السِباق وعالَم التنافُس، وأرجوحة النجاح أو الفشل، أوسع وأشمل من مجرد أحد البرامج، ويتم إقحام الأطفال في هذا العالَم منذ يومهم الأول في الدراسة. ومن ناحية أخرى، أليس لمشاعر المتسابقين الكبار أي قيمة؟ ألا يتعرضون هُم أيضًا للرفض والإخفاق وفي بعض الأحيان للسُخرية والهزء منهم؟

 

Voice Kids

لا بدَّ أن أعترف بدايةً أنني أتابع بشغفٍ حقيقي بعض برامج المسابقات واكتشاف المواهب، ونُسخها العربية المأخوذة غالبًا مِن نماذج أصلية أمريكية وأوروبية. ولا يقتصر اهتمامي على البرامج التي تهتم بالمواهب الفنية مثل الغناء وفنون الأداء عمومًا، بل يمتدَّ أحيانًا إلى مجالات تسابق غير فنية مثل تصميم الأزياء أو الطبخ، وهي مهارات يكاد يغيب عنها تمامًا الجانب الاستعراضي.

ليست اللعبة إذن تخصُّ الطرب والفن، بقدر ما تخصُّ لذّة متابعة السِباق نفسه، كل هذا طبعًا من ناحيتي، أي مِن ناحية المُشاهد العادي، في أريكته المريحة المطمئنة. لكن ماذا عن الجانب الآخر؟ إلى أي مدى هناك انشغال حقيقي وصادق باكتشاف الموهبة ووصول اللقب والجائزة – أيًا كانت قيمتها المادية – إلى مَن يستحقها مِن المتسابقين؟

بصرف النظر عن نوع القدرة أو الموهبة التي يُفترض بهذا البرنامج أو ذاك اكتشافها وصقلها في المشاركين في كل موسم، يبقى جانبُ العَرض هو الأساس، the show، وإلَّا لكان مِن الأوفر والأوفق أن يتم هذا كله في الظِل، بعيدًا عن الأضواء والشاشات وأعين الجماهير، ثم تخرج علينا تلك المدارس الفنية المُخلصة بثمار جهدها مكتملة وتقدّمها للناس عندئذٍ حُلوةً ناضجة.

تتحوّل لُعبة اكتشاف المواهب وتسليط الضوء عليها والتباري بينها إلى عَرض بذرائع عديدة، لكنَّ الحقيقة أنَّ هذا كله لا يخدم إلّا الشركات المعْلِنة والجهات المنتِجة للبرامج وكافة الأطراف المستفيدة الأخرى. الهدف الأوَّل وربما الأخير تسلية الزبون المرتاح على أريكته في المنزل، وفي عِز إثارته وحماسه واندماجه مع ما يدور على حلبة الصراع تتوالى عليه الإعلانات التجارية فجأة فتتسرب مضامينها إلى وعيه ولاوعيه شِبه المنوّمين.

مركز اللعبة وهدفها هم أولئك التجَّار الذين كانوا يدورون بين صفوف ومقاعد الجماهير، في الاستراحات بين جولات المصارعة القديمة، لترويج البضائع وعقد الصفقات، في أجواء مواتية مِن الصخب والمرح.

في الحلبات الرومانية لمصارعة العبيد كان الفائز الذي هزم خصمه، قبل أن يَفتكَ به يتوجَّه إلى جماهير المشاهدين سائلًا إيَّاهم عمّا يريدون منه أن يفعل بالمهزوم، إذا رفعوا أيديهم بالذهب والمال فمعناه أن المبارزة لا تزال مستمرة وأنّ المبارِز المطروح أرضًا لا بأس به ويستحق فرصةً أخرى، ويمكن لهم الانتظار حتّى يسترد عافيته ويواصل الصراع، أمَّا إذا أشاروا بإبهامهم لأسفل، أي بعلامة Dislike، فإنّها إشارة للمنتصِر لكي يُجهِز تمامًا على خصمه بسيفه، لأنه لا نفع فيه كمصارع وغير جديرٍ بأي فرصة أخرى.

لوحة

الجمهور ليسَ مُشاهدًا سلبيًا إذن، لا فيما مضى ولا في حلبات المصارعة الحديثة، وبرامج اكتشاف المواهب اليوم تعتمد في جزءٍ كبير منها على ما يسمَّى بتصويت المشاهدين، لتحديد مَن مِن المتسابقين سوف يُكتَب له الاستمرار ومِن سوف تنتهي رحلته ويغادر إلى دياره وأهله.

مِن هذه الناحية، يكون المُشاهِد هنا أقرب إلى لجنة التحكيم، يكاد يتماهي معهم حَتّى في الحلقات التي لا يُسمَح له فيها بالتصويت، عندما يحب ويكره ويقبل ويرفض. إنّه يُمسك زمام السُلطة بين يديه، ولو دقائق كل أسبوع، وبضع حلقات كل موسم، بوصفه فردًا وبوصفه جماعةَ أيضًا، وَحشًا خرافيًا له ملايين الرؤوس والأيدي الخفية في كل مدينة وكل بيت، يُصوّت فيُحيي ويميت، يُصوّت فيمنح ويمنع، هذا كله لو صرفنا النظر عمَّا يثار بين الحين والآخر مِن تساؤلات حول مصداقية ونزاهة آليات التحكيم ومدى اعتمادها حقًا على أصوات الجمهور.

على الأقل يُمنَح المشاهدون سُلطةٌ مؤقّتة هم أحوج ما يكونون إليها، هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أخرى، وعلى مستوى أعمق وأوضح، يتماهى أغلب المشاهدين مع المتسابقين أنفسهم، ويزداد هذا التورّط النفسي والتعلّق مع تتابع الحلقات والاقتراب من ذروة التتويج. قد يرى كل مشاهدٍ نفسه في أحد المتسابقين، وقد يدعمه لأسبابٍ قومية أو سياسية، أو لمبررات جمالية وفنية نزيهة، أو حتى لإعجابه بإطلالته وملامحه. لقد وقعَ في الفخ ودخلَ في الحلبة ولو افتراضيًا، وتوحَّد مع بطل الحكاية الخرافية الذي يعيش المغامرة نيابةً عن ملايين المجهولين الآمنين.

تداعب تلك البرامج في المُشاهِد أحلامًا قديمة قِدم الخُرافات والأساطير وحكايات الجِن، تدغدغ شهيةَ البطولة الفردية تحديدًا، حلم الفوز بالتاج والأميرة والمملكة، حلم هزيمة الخصوم وتجاوز العقبات، وصعود كل فرد من موضعه في الظل، نكرةً، غائبًا، مجهولًا، لا يشعر به أحد غير المقربين، إلى بقعة الضوء السماوية، نجمًا، حاضرًا، مشهورًا، ملء السمع والبصر، رمز وأيقونة عند الملايين في عشرات المدن.

عام 2009، وفي السابعة والأربعين من عمرها، استطاعت السيدة البسيطة سوزان بويل أن تذهل لجنة تحكيم برنامج Britain's Got Talent ثم العالم كله من بعدها بأدائها أغنية "I Dreamed a Dream" ليحظى هذا الفيديو بملايين المشاهدات وتعتبر أيقونة وبرهانًا على تحوّل حياة أي "إنسان عادي" لا يمتلك مقومات النجومية المتعارف عليها ليصبح مشهورًا بين عشية وضحاها.

كما تُقدّم بعض الحكايات الخرافية رحلة الصعود تلك في بضع صفحات، كذلك توجِز برامج اكتشاف المواهب تلك الرحلة في حلقاتٍ معدودة، موسم بتعبيرٍ آخر، عن طريق تصفية المتسابقين تدريجيًا للوصول إلى واحدٍ فقط، فالقمّة – كما صار معروفًا الآن – لا تتسع لأكثر من شخصٍ واحد. هذا هو منطق كل جائزة، منطق السباق الذي لا يرحم.

منطق التصفية هو منطق اللعبة الذي يجب التسليم به ضِمنًا منذ بداية المشاركة والالتحاق بالماراثون، ولا نكاد نسمع صوتًا يُشكّك في هذه المُسلّمات العجيبة، فضلًا عن إدانتها، فلمَ لا تَتوزَّع قيمة الجائزة – مثلًا – على أكثر من فائز، إن لم يكن أغلب المشاركين؟ ولماذا يجب أن يستمر السِباق المنهِك حتى نكتشف الأقوى والأفضل والأَحق؟ رُبما لأنّ هذا ببساطة هو القانون الذي وضعه مشرّعون غامضون، غير ظاهرين في الصورة، قانون الصراع والبقاء للأفضل، قانون التنافس والفوز. وربما لأنَّ هذا هو ما يضمن استمرار تماهي المشاهد بوصفه فردًا مع اللُعبة، أي ما يضمن استمرار عامل التسلية.

ولعلَّ التسلية هي كلمة السِر هنا، وليس أبدًا الانشغال بالفن والمواهب الجديدة وكل هذا الكلام، فميزانية موسم واحد من تلك البرامج كافية لإنتاج مجموعة ألبومات لمغنين جُدد أو أيًا كان نوع الفن الذي يدور حوله السِباق.

كما أنَّ التجارب السابقة لتلك البرامج تؤكد أن الفائز غالبًا ما يُلقى به في بحار الظلمات ويُنسَى هُناك بعد بضعة شهور أو بضع سنين. ينالُ إذن ما ناله الآخرون ممن خرجوا مبكرًا، جرعة محددة من الشهرة، سواءٌ كانت خمس دقائق أم خمسة شهور أم خمس سنين، والنادرون للغاية مَن يتواصل وجودهم تحت الضوء ونشاطهم الفني بعد أن انفضاض مُولد التسابق ومع توجيه بقع النور نحو نجمٍ جديد وموسم جديد، لكي يتواصل العرض بأي ثمن، وتتواصل التسلية، ويتواصل ضخ أموال المعلنين.

الطريق الأصلية للنجاح طويلة وشاقة، وتزدادُ طولًا ومشقّة مع اعتبارات السُوق ووحشية التنافس وانهزام الأصالة والقيمة أمام وحوش الدعاية والإعلام. غيرَ أنَّ برامج اكتشاف المواهب تقدّم طرقًا مختصرة لهذه الطريق، ولَعلّها توفّر حقًا الوقت والجهد على بعض أصحاب المواهب الحقيقية، إذ تتيح لهم فرصًا مبدئية للظهور والانتشار حتى وإن لم يحالفهم الحظ حتّى نهاية السِباق. لكنها لا تكترث لأصحاب المواهب أولئك إلَّا كأدوات في اللعبة، ممثلين في مسرحيتها المسلية. فهي في المحصلة الأخيرة ليست أكثر مِن عرضٍ مُلفّق ومتقن الصنع بغرض التسلية وتوريط الجمهور، عَرض لديه من الوقاحة وبرودة الدم ما يدفعه لاستغلال كل شيء، بدايةً من دموع الأطفال أو إعاقة أحد المتسابقين أو مشكلاته الأسرية أو حّتى حروب ودماء ومخيمات لاجئين من أجل نجاح اللعبة، نجاح الخدعة المعدّة للاستمتاع المؤقّت ونسيان الهموم، أمَّا الفن فغالبًا ما يكون في مكانٍ آخر. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.