الجنرال الخامس والأخير

منشور الأربعاء 29 نوفمبر 2017

الأسئلة التي يجب طرحها، عندما نتأمل ظاهرة الحاكم والمستبد يجب أن تكون كالآتي: هل المستبد هو من يدفع بمؤيديه لتأليهه؟.. وهل يريد المستبد أن يكون مؤلهاً بالضرورة؟.. هل هو من يطلب من مواليه هذا المستوى الجنوني من الطاعة العمياء؟ ولماذا؟.. هل يدرك المستبد أنه ظالم؟" -- عزام أمين

نعم.. هذه الأسئلة التي تتصل بجوهر ظاهرة الاستبداد، تكون الإجابة عنها، عندما نتأمل في التركيبة والبنية النفسية لشخصية المستبد، خاصة عندما يكون المستبد جنرالًا وصل إلى السلطة بقوة السلاح.

يصح القول، إن لكل جنرال مستبد، عبر التاريخ، شخصية مميزة، وبصمة متفردة في الطريقة التي يتعامل بها. ولكن هناك مجموعة من الطبائع، والسمات مشتركة، عند جميع المستبدين، مهما اختلفوا في الزمان.

السمات النفسية العامة للمستبد

1- البارانويا (ميغالومانيا)

بشكل عام، كل طاغية مصاب حتماً بمرض العظمة (ميغالومانيا). فهو يختزل كل شيء في شخصيته ويرى العالم من خلالها فقط. هو المركز، وكل ما يدور حوله ينطلق من وجوده (الأسد، القذافي، صدام حسين، بوكاسا، هتلر، ستالين، موسيليني ...).

جنون العظمة هذا، يكون جزءً من شخصيته “البارانوية”، أو عرضًا من أعراضها. والبارانويا هي أحد أشكال ما يُسمى باللغة العربية “الذهان النفسي”. وفي بعض الأحيان "عقدة الاضطهاد والتآمر"، من أعراضها الهذيان الثابت والمنتظم. ولكن المصاب قد يبدو ظاهريًا سليمًا من حيث القدرة العقلية والاستدلال، غير أنه يبني استدلالاته على أوهام وحوادث غير واقعية.

بشكل عام يعيش المستبد في عالمه الخاص متقوقعًا على مجده الذاتي منفصلًا تمامًا عن الواقع.

2- الرأي والرأي القاتل

طبائع المستبد لا يمكن أن تتسع لأي خلاف من أي نوع كان، فهو لا يستمع لغيره ويعتقد أنه دائماً على حق وصواب. أي اختلاف معه بالرأي هو جزء من المؤامرة عليه. هذا الخلاف حتى لو كان بسيطًا جدًا يُشكل خطراً على سلطته وعلى وجوده؛ لذلك يستوجب التخلص من مصدره وبدون أي تردد، فغالبًا ما يكون المستبد “سايكوباتي” يميل إلى السادية، وخصوصًا في لحظات الغضب والانفعال؛ حيث يسقط قناع العقل والتهذيب الذي عادة ما يحاول الشخص السايكوباتي إظهار نفسه بهما.

المستبد متكبر ومغرور ينفرد برأيه ويستقل به، ويعتقد أنه المصدر الوحيد للرأي الصحيح والفكر الصحيح، وقراراته دائمًا حكيمة، ويعتقد أيضًا أنه مهم جدًا على الصعيد العالمي، وأن قراراته تشكل حجر الزاوية في السياسة العالمية. وكما أنه عرضة لمؤامرة داخلية من أعدائه (في الوطن)، هو أيضًا عرضة لمؤامرة خارجية من أعداء الوطن الذي يمثله ولا يوجد غيره قادر على تمثيله. أي اختلاف معه بالرأي أو نقد له يُعتبر اعتراضًا على سلطته، وتمردًا عليه ويستفزه؛ لأنه يضع صورة العظمة التي يرسمها لنفسه موضع الشك.

3- القدسية

يذكر عبد الرحمن الكواكبي في (طبائع الاستبداد) أنه: “ما من مستبد إلا ويتخذ صفة قدسية يشارك بها الله”.

فالمستبد يعتقد أنه على تواصل مع قوى عُليا، يستمد منها قدرات خارقة لحماية أتباعه. فإرادته هي إرادة الشعب المنبثق عنه وممثل له. ومهمته الأولى هي إنقاذ هذا الشعب من المخاطر التي تحيق به. إنه ملهم الشعب ومصدر الأمان بالنسبة له. هذه القدرات الخارقة (قوة، شجاعة وإقدام، حزم، وعي وذكاء غير طبيعي، حنكة وحكمة سياسية ...)، تجعل منه شخصية تاريخية على مستوى العالم.

4- الشخصية المميزة

المستبد يُقدم نفسه كشخصية مطلقة تجتمع فيها المتناقضات، فهو قوي جبار شجاع يضرب بيد من حديد بدون أي شفقة، وفي نفس الوقت لا يتردد عن ارتداء معطف الأب الحنون المحب العطوف الحكيم الذي لا يتوانى عن تقديم العطاءات والمكرمات لأتباعه. يمكننا أن نرى تعبيرًا صارخًا عن هذا التناقض في الألقاب التي اختارها الطغاة لأنفسهم، أو دفعوا من حولهم لاختيارها لهم.

فبالرغم من قسوة جوزيف ستالين ومسؤوليته المباشرة عن قتل ملايين الناس اختار لنفسه لقب "أبو الفقراء" أو "الأب الصغير للشعوب". أما لقب كاسترو فهو "القائد الأكبر (ليدر ماسيمو)"، ومن جهته معمر القذافي هو "ملك ملوك أفريقيا" وهو "الأخ القائد"، وحافظ الأسد هو "الأب المناضل"، وحسني مبارك، "والد المصريين".

المستبد معصوم من الخطأ فإذا حدث خلل ما وانتشرت الجريمة والفساد والرشوة فهذه مسؤولية الآخرين الذين لم يطبقوا جيداً نصائحه وتوجيهاته.

الوسائل المباشرة للاستبداد

الوسائل المباشرة للاستبداد في الأنظمة الشمولية هي الجيش، وغالبًا ما تتم السيطرة عليه بشكل مباشر من قِبل المستبد وعائلته، وهو مُسخر لخدمته وخدمة هذه العائلة (كوبا، كوريا الشمالية، العراق، ليبيا، سوريا، مصر...). وهناك أيضاً المنظومة البوليسية (قوى الأمن) التي تعمل ليلًا ونهارًا على مراقبة المواطنين وزرع الخوف والرعب في قلوبهم. ففي نظام الاستبداد الشمولي كل مواطن هو عرضة للاتهام بالخيانة والتآمر على الوطن وإضعاف الشعور الوطني والقومي.

أما الوسائل الرمزية وغير المباشرة للاستبداد فهي:

1- العقيدة

يذكر ميشيل كورناتون في كتابه "التواصل الاجتماعي" (1998)، أن كل نظام شمولي يستمد شرعيته من عقيدة (قومية، أممية، دينية ...)، وهي وسيلة للسيطرة على جميع الفئات العمرية في المجتمع، فيختار منها لنفسه مجموعة تسمى (طلائع البعث، شباب الثورة، شباب الهتلرية، شباب الشيوعية ...) وتُعتبر هذه العقيدة المصدر الشرعي للسلطة. ولكن غالبًا ما يتم تفريغها من محتواها واختزالها بشخصية الطاغية. فهو الوحيد القادر على فهمها بشكل صحيح وتطبيقها وحمايتها من الانحراف وتصحيح مسارها في حالة ابتعادها عن أهدافها (حركة التصحيح).

حالة الفصام النفسي والبارانويا التي يعيشها المستبد تنعكس على العقيدة نفسها، فنجد الفرق الشاسع بين الأفكار التي تنادي بها هذه العقيدة وسلوك من يتحدث باسمها.

2- الصورة

للصورة الشخصية (البورتريه) مكانة مركزية خاصة في حياة المستبد وحكمه، فهي تنتشر في كل مكان وزاوية من الوطن، ولها وظيفة رمزية مهمة للغاية؛ فوجود صورة المستبد يُعبر عن قبول الطاعة والولاء له؛ لذلك يجب أن تكون موجودة في جميع الأماكن العامة والخاصة؛ المؤسسات ومداخل المدن والقرى والأسواق والحدائق والشركات العامة والخاصة والجامعات والمدارس والمستشفيات والمساجد والأماكن الأثرية والوزارات... ولا مانع من المبالغة في ذلك.

يقول سيجموند فرويد في كتابه "قلق في الحضارة" بأنه كلما زاد الخوف عند المستبد من فنائه ازدادت دوافعه التدميرية ظهورًا وزادت معها التدابير والإجراءات الوقائية للحيلولة دون هذا الفناء.

3- إعلام البروباجندا واللغة

بشكل عام في الأنظمة الشمولية لا يوجد شيء اسمه "إعلام" وإنما نوع من الدعاية الإعلامية الموجهة (بروباجندا)، فجميع وسائل التواصل الجماهيري من صحف وراديو وتلفزيون تخضع بشكل مباشر ومُحكم للطاغية أو أحد أفراد عائلته، وتُعتبر البروباجندا الحامل اللغوي للعقيدة.

صحيح أن لكل نظام شمولي منظومة لغوية خاصة به، ولكن مهما اختلفت هذه المنظومة من نظام لآخر حسب الزمان والمكان، تظل لها ملامح مشتركة ومفردات متكررة منها:

مصدر إلهام الشعب: في زمن السلم والاستقرار تتركز الدعاية الإعلامية على تمجيد المستبد والتغنّي بمنجزاته العظيمة في مجال بناء الوطن والاقتصاد، وغالبًا ما يحاول المستبدون ربط أسمائهم بالحداثة والتحديث للتأكيد على أن الوطن قبل وصولهم المبارك للسلطة كان في عهد الظلمات! فنجد هناك "باني سوريا الحديثة" و"باني العراق العظيم"، و"باني ليبيا المستقبل"، و"منقذ مصر" ... وتكون المهمة الأساسية لوسائل الإعلام هي صناعة صورة استثنائية للمستبد ولنظامه؛ لوضعه فوق مواقع الآخرين من حيث القدرات الفكرية وتميّز الأداء، وابتكار أو توظيف قصص بطولات خرافية عن بعض الخوارق التي ترتبط ببعض سلوكيات القائد.

عدو، مؤامرة، خيانة: سواء في زمن الاستقرار أو الاضطرابات السياسية، هناك ثلاثة مصطلحات مستخدمة بشكل يومي في وسائل إعلام الأنظمة الشمولية: عدو، مؤامرة، خيانة ... فمن خصائص الأنظمة الشمولية أنها تفتعل الأزمات وتخلق أجواءً متوترة ملائمة لإثارة الحروب مع أعداء خارجيين، فلكل نظام شمولي عدوه الخارجي، والمهمة الأولى له هي مقاومة هذا العدو، وأي مطالبة بحقوق الانسان والعدالة وتحسين الأوضاع المعيشية هي مؤامرة المقصود منها إضاعة الوقت والجهد.. في مثل هذه الأجواء يجد الطاغية مجالًا مناسبًا لممارسة عنفه والقتل دون حسيب أو رقيب (ميول سايكوباتية) ولإرضاء عقده الاستعراضية القيادية والخطابية.

التشويه الأخلاقي للشعوب

إن الخطورة الأكبر لهذه الأنظمة لا تكمن فقط في أنها تمنع شعوبها من التمتع بحقوقهم المستحقة فحسب، رغم أهمية ذلك ومركزيته، بل في أنها -كما يقول فولتير- تؤسس للسلوك السلبي (نفاق) الذي يؤسس بدوره لمرحلة أخلاقية هابطة، مهما كان الشعب (عربي، أوروبي، أميركي، آسيوي ...) وبالتالي تسهم في صياغة شعوب مشوهة بنيويًا وتفتقد لصفتها الإنسانية!

فالمجتمعات التي عاشت فترة طويلة في ظل الاستبداد والقهر غالبًا ما تنتمي إلى منظومة من أنماط السلوك الغريزي الذي يعتمد أساسًا على خصائص الانتهازية والانتقام والوصولية. فالتزلف والتذلل وانسداد الأفق والانتماءات الضيقة وجلد الذات وتبخيسها والأنانية والفردية تصبح المعيار الأساسي للوصول إلى النجاح في هذه الأنظمة.

فمن المؤكد أن إسقاط آثار حكم المستبد يكون أصعب بكثير من إسقاط المستبد نفسه.