مشهد من فيلم لوليتا لستانلي كوبريك

جرائم لا ترى النور - عن "لوليتا"

منشور الخميس 30 نوفمبر 2017

تحقق رواية "لوليتا"، لفلاديمير نابوكوف، تصوري المثالي عن عمل أدبي ينقل للقارئ شيئًا مكتملًا، لكن بعناصر كلها ناقصة، فليس في الرواية تحديد دقيق للأحداث، ولا للعلاقات الخارجية بين الأشياء، ولا للأزمنة أحيانًا، بل يصل الأمر إلى أن يُفتقد الأفق أو التوجه للوحدة الأدبية، التي تمثلها جملة أو مقطع أو فصل. وفى مقابل التحديد، يتبلور عبر صفحات طوال تجريدٌ يقبل الإحالات، ولا يملك كلمة أخيرة لوصف كيف حدث شىء ما على وجه الدقة. وإلى جانب هذا تفقد نيّات البطل (همبرت) توجهاتها، ويختلط هزله بجده، وبراءته بجرائمه.

الرواية هي مذكرات لهمبرت، وهو مهووس بالأطفال، هوسًا تختلط فيه الرغبة الملائكية النقية في التلمّس والاستكشاف واستدعاء الطفولة، بجريمة شهوة (الاختراق)، ويعقب هذا، على مدى زمني طويل من استغلاله الجنسى للطفلة لوليتا، ابنة أرملته، شعورٌ بالذنب، تصاحبه هلوسات، وإسقاطات ذاتية على مخبرين بغيضين مُشابهين له، يتتبعونه. وانتهى الأمر بجريمة قتل، رواها بشكل مسرحي هلوسي، ونفذها على رجل عربيد مخصىي وأخرق جنسيًا مثله.

ولأن همبرت، الذى عانى من الهلوسات هو الكاتب، تداخلت الذكريات وافتقدت مقاطع كاملة وُجهتها، ونُحتت بلغة شاعرية عبقرية نماذجُ أدبية مجردة، استخدمت الايحاء لا التحديد. فطوال نصف الرواية الأول، امتزجت الرغبة الخسيسة فى تحسس ابنة زوجته، ببراءة حُلمية لحب حقيقى مرح وغير مدنّس، ولم تُحدَد، على وجه الدقة، النقطة التى انجرفت فيها هذه اللعبة إلى جريمة اغتصاب.

تبدو الرواية غريبة فى أولها، حيث يبدأ همبرت في سرد حادثة ما غير هامة، ويُسرف في وصف حوادث عرضية، في حين أن أشياءً هامة أخرى تبدو مبتورة، مثل زواجه الأول، الذي وُصفت أحداثه سريعًا، والذي انتهى باعتراف زوجته المخبولة، التي لم يحبها هو كذلك، بخيانتها له. وفجأة في نفس المشهد الذي أصبح سرياليًا، يظهر عشيقها ليتفاهم معه، ويُفاجأ همبرت بذهوله ولامبالاته تجاه حدث هام مثل هذا. وتم الاتفاق كيف سيُسوى الأمر، وتذهب الزوجة مع عشيقها. ويُوصف كل هذا المشهد السريع ككابوس عابر، باختزال ويُبتر السياق بعدها لسرد أشياء أخرى في زمن آخر.

هناك كذلك سرد مختزل جدًا وسريع، وكأنه مُقتطف من أسيقة أخرى، ومُلصق، مع مقتطفات أخرى، على صفحة ذهن همبرت المختل، بطريقة (الكولاج)، لشخصيات معتوهة، تبدو كأنها مرايا لهمبرت ذاته. مثل الشخصية الغرائبية جاستون جودين، وهو رجل مختل بميول مثلية وإيقاع تأملي حزين، كان يلاعبه الشطرنج لساعات. ولأن لوليتا كانت تدخل عليه كل مرة بلبس مختلف، كان يقول لهمبرت : "كيف حال بناتك؟" وانتهت حياته المنطوية الهادئة بفضيحة ومُحاكمة.

كذلك الشخصية العبقرية نصف الخيالية كيو، الرجل الذى قتله همبرت، في استعراض هلْوسي، شارك فيه كلاهما بمقدار، حتى أنهما أنشدا معا أبياتًا شعرية بانسجام، وكأن كيو صورة منعكسة لهمبرت، يحاكم نفسه من خلالها. ولم يكن هناك، قبل هذه الومضة الهلوسية، عن أهمية شخص كيو ودوره أي تمهيد أو خلفية عن هذه الشخصية. ولكن مثل هذه السياقات المبتورة، مع التقدم في مد نسيج الرواية، تكتسي في بقايا الذاكرة بأثر ومضات متقطعة كابوسية، في ذهن يميل للاختلال وتُشكل قوامه الأحلام.

يرتبط هذا الأسلوب في الكتابة واستدعاء الذكريات الذى تحكمه الانتقائية، الخلل والهلوسة، بأهم مشكلة نفسية لهمبرت، المشكلة الأم، وهي توحده، افتقاده لمعايير الواقع، وانحباسه في حسيّته الذاتية المحضة، وهو ما شكّل سخريته اللاذعة، ومزاجه المتطرف، وهوسه البيدوفيلي، الذي قد يمثل، قبل أي شيء، هروبًا من الواقع، هروبًا من ممارسة الحب مع المكتملات، اللائي يصفهنّ ساخرًا بالعجول والجواميس، وحبًا ورقيًا مع كائنات طيفية هشة، بلا مواجهات ثقيلة. 

وفي النهايات، بينما دخل الفترة الاعترافية، التي شارفت جنونه، تذكّر لمحات عن والدته، التي ماتت بصاعقة برقية، وهو طفل (بداية المشكلة). وفهم كيف كان حبه، الذي تصوره كاملًا، للطفلة لوليتا أنانيًا، مسترجعًا، في بقعة صافية تسبق الجنون، تفصيلة، تفصيلة، من حياتهما المشتركة، وهو يلف بها كل فنادق الولايات المتحدة الرخيصة، هاربًا من مخبرين وهميين، تفصيلة، تفصيلة، من تفاصيل إحباطه لأحلامها، ورغباتها الطفولية في أن تُحِب وتُحَب من مراهقين في سنها.

ومن هذه الومضات المتقطعة، التي تمثل خروجًا من الذات، فى سديم هذا النسيج الشعرى المتسع جدًا والمترهل للرواية، تبلور جنونُ همبرت العبقري في فعل تجاوز به عجزه ولا واقعيته، والرصاصات الطائشة في أحلامه، بما تحمله من دلالة عجز أو خُرْق جنسي، وهذا الفعل هو الانتحار : جريمة قتل حقيقية (إيجابية)؛ حيث أفرغ خزنتي مسدس فى جسد شخص آخر، أسقط عليه خسته ودنسه. رجل مثله، كاتب سكير، يعيش وحيدًا في قصر (وهمى)، ومخنّث ينظّم حفلات للانتهاك والعربدة.

وتمت الجريمة في وقت طويل، وصراع بدا لا نهائيا، ومُشارفا على الغثيان، بين سكيرين مختلين وغير متوازنين، غير قادرين على توجيه اللكمات أو الرصاصات، وكأن كل شيء يفتقد للجاذبية، في حلم ينزع للتحول إلى واقع. وبعد إفراغ خزنتين، تمددت الجثة أخيرًا على فراشها، فوق بركة من الدماء الحقيقية.