عودة الخلافة: هل يعرف أبو بكر البغدادي ما الذي يتحدث عنه؟

منشور الثلاثاء 5 يناير 2016

ترجمة عن الإيكونوميست


يحمل أورهان عثمان أوغلو منديلا فرنسيا عليه نقش بحرف H، ويقول: "هذا هو كل ما تبقى لي من جدي الكبير؛ الخليفة". ابتعدت عائلته كثيرا عن هذه الأيام المضيئة. عاش السلطان عبد الحميد الثاني في قصر يلديز، في قلب أسطنبول العثمانية؛ ويعيش أورهان في بناية عالية في نهاية طريق الأوتوبيسات بأسطنبول. اعتادت العائلات المالكة في أوروبا على زيارة مناحي الخلافة، ولكن عندما تزوجت ابنة أورهان، ظل حكام تركيا الحاليين بعيدا. الأسوأ على الإطلاق هو أن دجالا عراقيا سرق اللقب الذي حملته عائلته لمئات السنين. يَعِد أبو بكر البغدادي، بزيه البدائي ودولته الإسلامية، باستعادة الخلافة. هل يعرف البغدادي ما الذي يتحدث عنه؟

لمدة 1300 عام ظل "الخلفاء" يفخرون بأنهم يسيرون على درب المجتمع الإسلامي الذي تركه الرسول محمد. وجاءت الإمبراطورية العثمانية، التي نافست الإمبراطورية الرومانية لوقت طويل، لتضم، لا الشرق الأوسط فحسب، بل شمال أفريقيا، وأغلب الساحل الشمالي للبحر الأسود، وجنوب شرق أوروبا حتى أبواب فيينا. كانت قصور الخلفاء الذين يحكمون في أسطنبول متعددة اللغات، تعكس أديان وأجناس عديدة ممثلة بداخلها. كانت الفرنسية لغة تواصل في البلاط العثماني، إلى جانب الفارسية والأرمينية والعربية.

كان الخلفاء بعيدين عن التزمت، كان السلطان عبد الحميد الثاني، الذي حكم من عام 1876 حتى عام 1909، مسلما متدينا، ولكنه كان يحب الموسيقى أيضا (التي يحرمها تنظيم الدولة الإسلامية). نشأ في بلاط تعزف فيه الأميرات على بيانو مغطى بقشرة ذهبية أهداه نابليون الثالث للقصر، وكانت ليلى غانم تعلم الأمراء على التشيلّو. في أمسيات الخميس يشارك السلطان الصوفيين في تلاوة الذكر، وتلعب الأوركسترا الإمبراطورية مقطوعات أوفنباخ أثناء عودته من المسجد بعد صلاة الجمعة. في الولائم الرسمية، تلعب الأوركسترا كونشرتو مختلف مع كل طبق، بعض الكونشرتات ألفها جوزيبي دونيزيتي "باشا"، الشقيق الأكبر لجايتانو دونيزيتي، الذي كان موسيقار البلاط. كان الخليفة الأخير عبد المجيد الثاني يعزف على الكمان في حفلات تضم جمهورا مختلطا من النساء والرجال.

 

السلطان عبد الحميد الثاني

لم يقتصر عبد الحميد الثاني على قراءة القرآن وكتب السنة الإسلامية، مالت ذائقته إلى روايات الجاسوسية، والولع بسارة برنار، أعظم ممثلة في عصرها، وأحضرها عدة مرات إلى مسرحه الخاص. تقول ثريا فاروقي، أستاذة التاريخ العثماني في جماعة بيلجي بأسطنبول: "في السياسة كان عبد الحميد محافظا، وفي الحياة الخاصة كان ذوقه يميل إلى فيردي". ارتدى العثمانيون ملابس تجاري الموضة، وكثيرا ما كانوا يستوردون ملابسهم من فينيسيا. تُظهِر صورة وُجدَت في حجرات بنك عثماني قديم أن موظفيه يرتدون معاطف فراك إنجليزية أصلية. عام 1894، حظر حاكم سميرنا، إزمير الآن، البناطيل الفضفاضة التي كان يرتديها مقاتلو الزيبيك لغرابتها.

وسط جهودهم لمجاراة الحكام الأوروبيين، كلف الخلفاء مهندسي أوروبا البارزين بتصميم قصور جديدة. هجر عبد الحميد الثاني، أبو عبد المجيد الأول، قصر طوب قابي، القائم على مرتفعات تطل على المدينة، وانتقل إلى قصر طولمه باهجه وهو صرح من الطراز الباروكي الجديد بسلالم رخامية تغسلها أمواج البسفور. كان باستطاعة ركاب السفن التي تبحر أمام القصر رؤية ما وراء النوافذ حيث الدرابزينات والثريا الأكبر في العالم، والتي صُنِعَت في برمنجهام. يقول محمد كنتل، رئيس المكتبيين في مركز البحث في حضارات الأناضول بجامعة كوش: "خليفة القرن التاسع عشر كان يُظهِر نفسه باعتباره إمبراطور أوروبي مثل آل هابسبورج وآل رومانوف". لم يكن المال مشكلة: خلفاء عبد الحميد الثاني يسعون لاستعادة ثروة تقدر بـ 30 مليار دولار من ممتلكات السلطان الخاصة.

كان الخلفاء الأخيرون عصريين أكثر من رجال تنظيم الدولة الإسلامية المتطرفين. عيّن عبد الحميد الثاني بيير ديزيريه جيميه، الرسام الفرنسي، وزوجته ليؤسسا أول مدرسة للفنون في الإمبراطورية، وعيّن فاوستو زونارو، الإيطالي رسامّا القصر، كان من ضمن تلاميذ زونارو عبد المجيد الثاني نفسه، الذي ظلت رسومه في قصر طولمه باهجه. في وضع متأمل رسم عبد المجيد الثاني زوجته شيزوفار وهي غير محجبة، تقرأ "فاوست" لجوته. وفي لوحة بعنوان "بيتهوفن في الحريم" أظهرها غير محجبة مجددا، تعزف على الكمان، مع ثلاثي آلات؛ تعزف امرأة شركسية على البيانو، ورجل يعزف على التشيلّو. نرى هنا مجددا أثاث أوروبي وتمثال لرأس بيتهوفن. لا نرى هنا الخيال الاستشراقي عن الحريم ولا البردة المتطرفة الموجودة في "الرقة"؛ عاصمة تنظيم الدولة الإسلامية.

 

لم تكن الثقافة الغربية مقتصرة على القصر. استعان عبد الحميد الأول بمهندسين سويسريين، الأخوان فوساتي، لتجديد مسجد "الحاجة صوفيا" – المقر السابق لبطريرك القسطنطينية الذي تحول إلى مسجد ثم إلى متحف الآن – واضعا شرفة لغير المسلمين لرؤية المسلمين بالأسفل. صمما أول دار أوبرا في البلاد، وأول جامعة ومحاكم جديدة، ما زالت تستخدم حتى الآن. صمم نيكولاي كالفا، المهندس اليوناني، المسجد المفضل لعبد الحميد الثاني، وهو جامع يلديز "حميدية". كانت هناك العديد من المسارح وعروض خيال الظل، وقاعات الحفلات في المدينة حتى أن "موسوعة مسارح أسطنبول" ملأت ثلاثة مجلدات. بعيدا عن المعارضة التقليدية لكرة القدم، كان ابن الخليفة الأخير، عمر فاروق، قائد الفريق الأول بأسطنبول، فنرباخشه، بينما المدينة كانت تحت الاحتلال البريطاني.

تحت خلافة القرن التاسع عشر صارت أسطنبول "مدينة حداثية" بحسب قول فيليب مانسل في كتابه "القسطنطينية: مدينة رغبة العالم، 1453-1924"، الذي يدور حول القرون الخمسة التي حكم فيها العثمانيون المدينة. الجريدة الرسمية الأولى "مونيتور أوتومان" Moniteur Ottoman ظهرت عام 1831، أولا بالفرنسية ثم بالتركية العثمانية بالإضافة إلى اليونانية والأرمينية والفارسية والعربية. غرّب عبد الحميد الثاني المفاهيم الشرقية في هذا الزمن، عن طريق نصب "أبراج ساعات" في أنحاء الإمبراطورية، وغالبا ما توضع في مداخل المساجد. أسس في أسطنبول مترو تحت الأرض، وكان الثاني في أوروبا. وأدخل التلغراف، وجهاز المخابرات وشبكة سكك حديدية. انطلق قطار الشرق السريع الأول متجها من باريس إلى القسطنطينية عام 1889، قبل عقدين تقريبا من استكمال العثمانيين سكة حديد الحجاز المتجهة إلى المدينة.

 

السلطان عبد المجيد الثاني

موقف العثمانيين من الدين يمكن أن يرى على أنه ليبرالي أيضا. حافظ الخلفاء على أعراف قانونية عديدة في مجتمعاتهم المتعددة. بداية من عام 1839 جدد عبد المجيد الأول النظام القانوني، ووضع القانون العلماني إلى جانب الشريعة. أعطى لغير المسلمين حقوق متساوية مع المسلمين وألغى حق السلطان في إعدام أعضاء بلاطه بدون محاكمة، وحظر تجارة العبيد وسمح بفتح المواخير، التي امتلأت بالرسامين والموسيقيين الأوروبيين الذين يعيشون على منح البلاط. اليوميات الدبلوماسية في هذا الوقت تذكر أن أولاد الخليفة يحتسون الخمر، وغيرها من المشروبات التي لم توجد في عصر النبي، وبالتالي ووفقا للقراءات الأكثر ليبرالية كانت مسموحة. محمد الثاني رؤي وهو يرتشف الشمبانيا في الحفلات الاجتماعية.


شرب الخمر

مثل هذه الممارسات لا تعتبر شذوذا. شُرب الخمر كان جزءا أساسيا في قصور الخلفاء في العصر الوسيط المبكر ما قبل العثماني، خاصة عصر تيمورلنك. هكذا يقول هيو كينيدي، أستاذ اللغة العربية في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، والذي يكتب كتابا عن طرقهم الخليعة. أعظم الخلفاء على الإطلاق، هارون الرشيد (786-809)، أشرف على يقظة فكرية وعلى ترجمة الفلاسفة اليونانيين في بيت الحكمة في بغداد، ولكنه كان يحتسي الخمر أيضا مع شاعره الخليع أبو نواس، الذي كتب عن الخمر قصائد تعتبر من أجمل الأشعار في العربية. وامتلأت "ألف ليلة وليلة"، التي كتبت في عصره، بالدراويش السكارى.

من آن لآخر كان المتشددون يعترضون. قُتِل الخليفة الوليد (الثاني) عام 744، بعد مزاعم بتنظيمه حفلات شُرب في مكة. ولكن "الانحلال" صار معتادا. سليم الثاني (1566-75)، الذي غزا قبرص وتونس، مات بعد غيبوبة سُكر، بعدما اصطدمت رأسه في حمامه التركي.

لهذه الأسباب يمكن النظر لهؤلاء الخلفاء نظرة تقدير. لقد رأوا أنفسهم كمدافعين عن عقائد متعددة سعت للحصول على حمايتهم، وليس فقط المسلمين منهم. عندما طرد الحكام المسيحيون في أسبانيا اليهود من بلادهم ، أرسل بايزيد، الخليفة في هذا الوقت، قوارب لإنقاذهم. كانت أسطنبول عاصمة أرمينية وأرثوذوكسية إلى جانب كونها إسلامية. (في الجيش العثماني أيضا، حارب العراقيون إلى جانب الألبان والشيشان). كانت الطاعة متوقعة: من المعروف أن عبد الحميد الثاني ذبح 30.000 أرميني لقمع ثورة حول أضنة في شمال شرق البحر المتوسط. ولكن هؤلاء الذين بدوا مطيعين ومفيدين كان يُرَحَّب بهم، بغض النظر عن أصلهم. كان وزير خارجية عبد الحميد الثاني لربع قرن آرمينيا، كذلك مهندس قصره ومصمم أبراج الساعات، إلى جانب جان بول جارنييه، تلك الأبراج التي صارت العلامة الخاصة به في أنحاء الإمبراطوري .

في النهاية انحلت الخلافة مثلا إمبراطوريات شرق أوروبا الأخرى، هابسبورج ورومانوف. بعد الحرب العالمية الأولى، احتل البريطانيون والفرنسيون إسطنبول، إلى جانب أراضي الخلافة العربية المتبقية. استحوذ الوطنيون الأتراك بقيادة مصطفى كمال، الجنرال العسكري، على الجزء المتبقي من الأناضول. لو لم تقع روسيا ضحية ثورتها، لاحتل جيشها الكبير شرق الأناضول.

عند هذه النقطة، لم تكن هناك قوة لدى الخلفاء. أنهى مصطفى كمال الإمبراطورية العثمانية عام 1923، وأعلن الجمهورية ونصب نفسه رئيسا. وبعد مرور عام ألغى منصب الخلافة. حتى اللقب الشرفي نظر إليه الجمهوريون على أنه تهديد كبير  – وكذلك بالنسبة للبريطانيين الذين خافوا من أن يؤثر الإحياء الإسلامي في الشرق الأوسط على حكمهم في الهند. انتزع مصطفى كمال الأسرة الإمبراطورية من قوميتها التركية ومن أملاكها، أخذ قصر طولمه بهجه لنفسه ودعا نفسه "أتاتورك"، أي أبو الأتراك.

 

مصطفى كمال أتاتورك

تهين  كتب التاريخ التركية قادة البلاد السابقين باعتبارهم معادين للغرب وللمرأة، وتصفهم بالظلامية والطغيان. عاشت العائلة المالكة السابقة فقيرة وتشردت في العالم. أصبح اثنان منهم سائقيّ تاكسي في بيروت، أحد الأفراد كان يعزف على القانون في الملاهي اللبنانية. بعد نصف قرن، عام 1974، سمحت تركيا لأحد أفراد العائلة الذكور بالعودة. عاد السيد عثمان أوغلو من دمشق، واستعاد الجنسية التركية عام 1985، وأنشأ شركة استيراد وتصدير بالقليل المتبقي من إمبراطورية أسلافه. عندما سقط حسني مبارك في مصر، اقتحم بلطجية الموانيء ونهبوا حاوياته وتركوه مفلسا.

مؤخرا، تحت حكم الرئيس الذي يميل للفكر الإسلامي رجب طيب إردوغان، تبدو تركيا متساهلة أكثر. الكتب المدرسية أقل إهانة، وتلفزيون الدولة أحيانا ما يجري لقاءات مع أفراد العائلة. يدفع إردوغان البلد لإعادة التواصل مع الماضي العثماني. يقول السيد عثمان أوغلو: "في العقد الماضي بدأ الناس يحترموننا أكثر". في اليوم الذي قابله فيه مراسلنا كان قادما من مدينة بورصة التي تبتعد أربع ساعات، وكان يشارك في افتتاح ضريح مراد الثاني، وهو سلفه الذي حكم في القرن الخامس عشر، قبل أن يستولي العثمانيون على أسطنبول. ولكن أوغلو مع ذلك يخشى من المبالغة في الظهور، مخافة أن يرغب السيد إردوغان في أن يستحوذ على الخلافة لنفسه. يسأل القائم على مكتب عبد المجيد الثاني في طلمة باهجه: "إذا كان للمسيحيين البابا الخاص بهم، لم لا يكون لنا الخليفة الخاص بنا؟".

يمزح السيد عثمان أوغلو متحدثا عن تشكيل حزب سياسي إذا كان لديه المال. يشير إلى الزعيم العثماني الأخير الذي شارك في انتخابات عام 1922 وحصل على منصب لأول مرة في ستة قرون عن طريق الرضا الرسمي للناس. يقول، ربما القليل من الحنين للعائلة والاستقرار الذي جلبوه للمنطقة يظل في ذهن الناس.

في واحدة من رسومه الأخيرة، صوّر عبد المجيد الثاني مدرس تاريخ. وعلى الطاولة هناك خريطة لأراضي الروملي، البلقان حاليا. يغطي المدرس وجهه بيده، حزين جدا أو مرتبك بسبب اضطراره للحديث عن فقدانها، وتحدق فتاة بنية الشعر في الخريطة وصبي يرتدي ياقة منشاة ورابطة عنق وبدلة يشير إلى الأراضي مصرا على أن استعادتها. تحت الإطار، أضاف الخليفة هذا التحذير: "انس الذين سببوا لك المشكلات الشخصية، ولكن لا تسامح الذين أهانوا بلدك".

عندما حلّ مصطفى كمال أتاتورك الخلافة، أرسل الحراس ليأمروا أهل البيت بالرحيل، وقيل إنهم وجدوا الخليفة في مكتبه بجانب حامل اللوحات الخاص به، يتصفح مجلدات من مجلته المفضلة. كان مجلة "عروض لعالمين" La Revue des Deux Mondes، تمثل المجلة تأرجح العثمانيين بين عالمين، هذا الذي خلف الكثير من المشكلات من ساعتها. في خلال 24 ساعة، صعد السلطان إلى قطار الشرق السريع من محطة أسطنبول، متجها إلى أوروبا في الغرب.