كتب المكفوفين الدراسية رهينة "أوامر سيادة اللواء"

منشور الثلاثاء 7 نوفمبر 2017

ولدت شيرين محرومة من نعمة الإبصار، لكن رغبتها وقوة إرادة والدتها كانت أكبر من إعاقتها، قررت أسرتها إلحاقها بمدرسة النور للمكفوفين بمحرم بيك، ورغم بُعدها عن المنزل أصرت العائلة على تعليم الفتاة علّها تنعم بفرصة أفضل في الحياة.

ولأن الرياح كثيرا ما تأتي بما لا تشتهي السفن، فقد بات مستقبل شيرين، التي أصبحت الآن في الثانوية العامة، على المحك هي وبقية زملائها، ليس لشيء سوى أن وزارة التربية والتعليم لم توزع هذا العام الكتب الدراسية المكتوبة بطريقة برايل على الطلاب المكفوفين، هكذا بكل بساطة وفقط بسبب قرار وزاري غامض، فإن مستقبل الطلبة المكفوفين في مصر بات مهددًا بالضياع.

لسنوات عدة قاربت على الأربعين كانت كتب المكفوفين الدراسية والثقافية المطبوعة بطريقة "برايل"- الكتابة البارزة- ، تطبع في "المركز النموذجي لرعاية وتوجيه المكفوفين" (قصر النور)، كان المركز يغطي احتياجات مصر والعالم العربي قاطبة، حرفيا كان المركز أحد مصادر القوة الناعمة المصرية المتباكى عليها اليوم.

وبمرور الوقت فقدت مصر تلك الميزة النوعية، بعد أن تطورت الأمور في الدول العربية، فأصبحت العواصم العربية تطبع كتبها بنفسها، وظل "قصر النور" يغطي احتياجات السوق المصري للمكفوفين سواء بالنسبة للكتب الثقافية أو الدراسية، قبل أن تتدهور الأحوال ويقتصر دوره بشكل رئيسي على طبع الكتب الدراسية فقط، والذي سارت الأمور فيه بوتيرة منتظمة لعقود عدة، فالمركز يطبع الكتب ويسلمها للوزارة التي بدورها توزعها على مدارس المكفوفين في مصر والبالغ عددها 33 مدرسة، بواقع مدرسة واحدة فقط في كل محافظة باستثناء العاصمة التي بها أربع مدارس، والإسكندرية مدرستين.

في شهر يونيو/حزيران الماضي تقدم المركز كعادته للحصول على حق طباعة الكتب، ولم يتقدم سواهم (كالعادة أيضًا) وبشكل روتيني رسيت "الممارسة" عليهم، لكن بعد فوزهم أرسل السيد اللواء كمال سعودي رئيس قطاع الكتب خطاب إلى "قصر النور" يخطرهم فيه باستبعادهم من المناقصة تمامًا بناء على نتائج تحقيقات الشؤون القانونية للوزارة.

 

لم يفسر القرار ما المقصود بالتحقيقات التي أجريت ولا لماذا جرى التحقيق اصلا، كل ما ذكر في الخطاب أن هناك تحقيقات اتخذ على إثرها قرار باستبعاد مركز النور من الطباعة.

حتى البيان الرسمي الصادر من وزارة التربية والتعليم في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي (أي بعد ثلاثة أشهر من قرار الاستبعاد) كان مبهما ولم يفسر شيئًا، فقط أخبرنا ان "قصر النور احتكر بدون وجه حق طباعة كتب المكفوفين بطريقة برايل منذ سنوات طويلة وهذا العام تم استبعاده من ممارسة طباعتها".

بعد أربعين سنة اكتشفت الوزارة أن قصر النور يحتكر طباعة كتب المكفوفين.

والسؤال هنا بما أن أزمة الوزارة فقط هي "الاحتكار"، إذن لماذا لم تجري مناقصة مفتوحة يكون للجميع بمن فيهم "قصر النور" الحق في التقدم لها؟ ما سر هذا الإصرار الغريب على استبعاد المركز؟

 

في الوزارة

أحد العاملين بإدارة الكتب بوزارة التربية والتعليم تحدث إلينا شريطة إخفاء اسمه قائلا "سيادة اللواء كمال سعودي من ساعة ما جه الوزراة، وهو معروف عنه انه رجل منضبط وصارم، وحين تقدم قصر النور هذا العام للممارسة وقرر رفع سعر طباعة الورقة من 180 قرش إلى 350 قرش (الضعف تقريبا) رأى سيادته أن هذا رقم مبالغ فيه، وحرصًا على المال العام اتخذ سعودي قراره باستبعاد المركز وفتح مناقصة عامة". 

الرجل فسر لنا لماذا فتحت مناقصة عامة لأول مرة هذا العام، وهو مبرر يبدو منطقيًا جدًا، لواء عُرِف عنه الانضباط والحزم يقرر الحفاظ على المال العام فيفتح مناقصة عامة لاختيار أفضل العروض. منطق مقبول، لكن الموظف الحكومي نفى علمه بأسباب استبعاد قصر النور من المناقصة، رغم خبرته الطويلة بهذا المجال.

أجريت المناقصة ورسى العطاء على أربع مطابع قسمت الطلبية فيما بينهم، وسعدت الوزارة بالسعر الجديد، 280 قرشًا للورقة الواحدة، بدلا من 350 قرشًا، وشكر الجميع سيادة اللواء.

وبعد أن تسلمت المطابع الجديدة الطلبية تبين لهم أنهم بحاجة إلى تجهيزات الطباعة، حتى لا يبدأوا من الصفر، وهنا أرسلت الوزارة خطابًا لقصر النور في الثالث عشر من أغسطس/آب تطالبهم بتسليم جميع التجهيزات (الاسطمبات والأقراص المدمجة) الخاصة بجميع الكتب الوزارية، ليتجاهل قصر النور طلبهم، دون أن تملك الوزارة أي قدرة على إجباره على تسليم تلك التجهيزات!

 

وكانت النتيجة (وفقا لبيان الوزارة) أنه حتى 26 سبتمبر 2017 كان قد تم تجهيز واعتماد طباعة عدد 16 مقررا فقط من إجمالي 130 مقررا.

بدأت الدراسة وانتظم الطلاب المكفوفون في مدارسهم، وكانت الطامة الكبرى بانتظارهم.

الكتب الدراسية لم تصل بعد، انتظر الطلاب أسبوعًا واثنين وثلاثة ولا حياة لمن تنادي، لا توجد كتب دراسية، المطابع لم تسلمها حتى الآن.

"الناس دي مش حاسة بينا خالص" هكذا تعبر شيرين عن حالها هي وزميلاتها، وتضيف "الكتب الدراسية المكتوبة بطريقة برايل بالنسبة للطالب المكفوف هي شريان حياة، لاحظ إن مافيش كتب خارجية لينا كنا اشتريناها وخلصنا، يا ريت حد في الوزارة يحس بينا وبمستقبلنا اللي هيضيع".

تلتقط طالبة أخرى اسمها رضوى الحديث من شيرين التي اجهشت في البكاء، وقالت "إحنا في ثانوية عامة ولأن الكتب ما نزلتش فما فيش قدامنا إلا تقسيم المواد، جزء منها المدرسين يملونها علينا والجزء الآخر أهالينا يقرؤونها لنا من كتب المبصرين، الاتنين مش عمليين، الأول مكلف والثاني بيضيع الوقت والجهد، وإحنا في ثانوية عامة حضرتك، يا ريت توصل صوتنا للرئيس".

تاخير تسليم الكتب ومستقبل الطلاب المكفوفين الذي شارف على الضياع، دفع النائبة هبة هجرس (عضو لجنة التضامن الاجتماعي والأشخاص ذوي الإعاقة) إلى تقديم بيان عاجل في البرلمان عما وصفته بأنه كارثة بحق أبنائنا المكفوفين، مطالبة بحضور الوزير لاستجوابه، لكن حديث النائبة، تاه وسط زحمة التصويت على قانون هيئة الرقابة الإدارية الجديد.

"الوزير ده لازم يتشال" هكذا استهلت هجرس حديثها معنا، وتساءلت "كيف يبلغ الاستهتار بمصير أبنائنا المكفوفين إلى هذا الحد؟ الجميع يعلم أن تجهيز الكتب للطباعة تستغرق ما لا يقل عن ستة أشهر، فكيف اتخذ الوزير مثل هذا القرار قبل بدء الدراسة بشهرين! ثم إذا كان الهدف هو توفير المال العام كما يقولون، لماذا لم يتم نقل الطباعة للمطابع الجديدة بشكل جزئي، كيف يخاطرون مثل تلك المخاطرة ويعرضوا مستقبل المكفوفين للضياع؟".

كل هذا العبث بمستقبل المكفوفين يحدث في العام الذي قرر الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يعتبره "عام ذوي الاحتياجات الخاصة" فهل حقا هناك أي اهتمام بهم سواء هذا العام أو في الأعوام المقبلة؟

في مصر ووفقا لتصريحات السيد رئيس الوزراء يوجد في مصر 15 مليون مواطن من ذوي الاحتياجات الخاصة، منهم نحو أربعة ملايين كفيف، من يحصل منهم على التعليم 2.5% فقط.

بالطبع هناك عوامل متشعبة وراء الإهمال الرهيب في حق تلك الفئة، فعلى حد تعبير عبدالعزيز طائل مدير مركز الحق في التعليم صانع القرار في مصر يتعامل مع التعليم بوصفه سلعة وليس حقًا أصيلًا للإنسان، أضف إلى ذلك أن الجهود التي تبذلها وزارة التربية والتعليم لخدمة تلك الفئة هي جهود شكلية، تعتمد بشكل أساسي على منح من الهيئات الدولية، وتوقف تلك المنح يوقف البرامج تلقائيا. باختصار لاتوجد استراتيجيات واضحة.

قصر النور

ذهبنا إلى قصر النور على أمل أن نفهم حقيقة ما يحدث.

وما أن تعبر البوابة الرئيسية للمركز المطلة على شارع جسر السويس بشمال القاهرة، حتى تشعر بالوحشة، هناك شيء موحش في المكان، لا يقطعه سوى مرور كفيف من وقت لآخر متكئًا على عصاه أو متأبطًا ذراع صديق مبُصر.

في الطابق الذي يعلو مبنى إدارة المركز وفي غرفة المدير التقينا كريم عاطف رئيس مجلس الإدارة وصلاح متولي مدير المطبعة، الذي فاجأنا قائلًا "الموضوع كله (خناقة شخصية) مش اكتر على فكرة".

لم يتركنا متولي كثيرا في دهشتنا قبل أن يشرح "اللواء كمال سعودي مدير قطاع الكتب اتخانق مع الأستاذ كريم عاطف رئيس مجلس إدارة الجمعية، والمكفوفين سواء عاملين بالدار أو الطلاب يدفعون الثمن".

وحكى أنه "أثناء ذهاب مندوب المركز للتقدم للممارسة الخاصة بالكتب حدثت مشادة بين السيد اللواء والسيد رئيس المجلس، انتهت الخناقة بقرار سعودي بوقف التعامل مع المركز بحجة ان كريم يعمل في الجمعية وفي ذات نفس الوقت بالوزارة وهو ما اعتبره تضارب مصالح".

يلتقط كريم عاطف أطراف الحديث قائلًا إن "ما جاء في خطاب السيد اللواء عن أن وقف التعامل معنا تم بناء على تحقيقات ما هو إلا محض كذب، وإن كان سعودي صادقًا فلينشر تلك التحقيقات أو يرسل لنا صورة منها"، ويضيف "أنا هنا بتكليف من السيدة وزيرة التضامن الاجتماعي ولا يحق لسيادة اللواء أو لغيره أن يعقب على هذا".

وعن أثر هذا القرار على الدار يقول متولي إن "دخل الجمعية من الطباعة تقريبا سبعة ملايين جنيه، نتكلف منه خامات ما يقرب من ثلاثة ملايين، والباقي ننفق منه طوال العام على مرتبات العاملين وأنشطة الجمعية التي تشمل أقسامًا مهنية، ووحدات خارجية، ومدرسة للمكفوفين، كل هؤلاء تعطلت حياتهم بسبب قرار عجيب ناجم عن خناقة هايفة".

وبسؤاله حول سبب رفض الدار تسليم تجهيزات الكتب (اسطمبات وأسطوانات مدمجة) كما تدعى الوزارة، أجاب الرجل بهدوء "ونديها لهم ليه دي بتاعتنا، ثم حتى لو خدوها مش حيعرفوا يعملوا بيها إيه".

حملنا تلك الاتهامات بشخصنة الأمور وتعطيل مصالح العاملين وتهديد مستقبل الطلاب لأسباب وصفت بالهايفة إلى رئيس القطاع اللواء كمال سعودي، الذي رفض التعليق قائلًا إن الوزارة لها متحدث إعلامي "روحوا كلموه".

وبالفعل اتصلنا بالسيد أحمد خيري المتحدث الإعلامي للوزارة، الذي قال "أول مرة أسمع الكلام ده! والحقيقة ده كلام غريب جدا، لكن المهم الآن لدينا هو مستقبل الطلاب ذلك هو المهم، عموما الملف برمته الآن على مكتب الوزير وسوف تحل الأزمة قريبا باذن الله".

ما حدث في أزمة كتب المكفوفين يطرح أسئلة صادمة عن شكل الإدارة في مصر اليوم، منها مثلًا سبب تكليف ضابط شرطة متقاعد برئاسة قطاع الكتب، أما السؤال الأكثر خطورة فيدور حول كيفية إدارة الملفات الدقيقة والحساسة، المتعلقة بمستقبل الأبناء في مصر، بطريقة تمكّن موظفًا تشاجر مع آخر أن يعطلا مسيرة تعليم طلبة بالثانوي ويقطعان آرزاق عشرات العاملين.