جيفارا

في ذكرى وفاته الخمسين: قصة إعدام تشي

منشور الخميس 12 أكتوبر 2017

في الذكرى الخمسين لإعدام أيقونة الثورات، وملهم الثوريين منذ النصف الثاني من القرن الماضي، أرنستو "تشي" جيفارا، نشرت مجلة "ذي نايشن" الأمريكية مقالًا للكاتب بيتر كورنبلو الذي يدير مشروعي التوثيق الكوبي والتشيلي في الأرشيف الأمني الوطني في واشنطن. تحدث فيه عن الساعات الأخيرة في حياة تشي، ومساعي إدارة الرئيس الأمريكي السابق ليندون جونسون ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه) للنيل منه.

نشر كورنبلو ضمن مقاله أيضًا مذكرة سرية للغاية للمخابرات المركزية الأمريكية، تُظهر أن المسؤولين الأمريكيين اعتبروا إعدام جيفارا نصرًا حاسمًا -لكنهم أخطأوا في الاعتقاد بأن أفكار تشي يمكن دفنها إلى جوار جثته. وننشر ترجمة كاملة للمقال.

منذ عشر سنوات سافرت مع منتجي فيلم هوليودي عن تشي جيفارا - بطولة الممثل بينيثيو ديل تورو وإخراج ستيفن سودربيرج - إلى ميامي للحصول على معلومات إضافية عن ملابسات إعدام تشي، من أجل الفيلم . في مطعم في بحي ليتل هافانا، معقل الجالية المنفية المناوئة لكاسترو في الولايات المتحدة، التقينا مع جوستافو فيلولدو، الذي كان عميلًا كوبيًا-أمريكيًا بارزًا لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه). كان مكلفًا بالعمل في بوليفيا للمساعدة في الإيقاع بالثوري الرمز واعتقاله.

وصل فيلولدو يحمل دوسيها سميكًا أبيض اللون، مليء بتذكارات من لحظة إعدام تشي في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول 1967 -صور أصلية وبرقيات سرية ومقاطع إخبارية، حتى بصمات الأصابع الرسمية التي أُخذت من أيدي تشي بعد مقتله. سجل هذا الملف النتائج التاريخية لجهود السي آي إيه السرية لتدريب القوات الخاصة البوليفية، ومساعدتها في القضاء على تشي ومجموعته الصغيرة من مقاتلي العصابات.

وبتفصيل مروع، وصف العميل السري المتقاعد مناقشاته مع ضباط الجيش البوليفي عندما وصلت جثة جيفارا على متن مروحية قادمة من مأوى جماعي في منطقة لاهيجيرا، حيث جرى اعتقال جيفارا وإطلاق النار عليه، إلى بلدة فيليجرادي البوليفية. قال جوستافو إن البوليفيين أرادوا قطع رأس تشي وحفظها كدليل على أن جيفارا قُتل وهلك. ووفقًا لفيلولدو، فقد أقنعهم بأنه من الممكن أن يصنعوا لوجه جيفارا "قناع موت" من الجص، وأن يقطعوا يديه ويحفظانهما، وأن ذلك من شأنه أن يكون دليلًا كافيًا.

شرح لنا فيلولدو كيف رتب لدفن الجثة بشكل سري بحيث لا يمكن العثور عليها أبدًا. بالفعل "اختفت" رفات تشي لمدة 30 سنة؛ وفي يوليو/ تموز 1997، وُضعت عظامه ويداه المقطوعتان في مقبرة مؤقتة إلى جانب مهبط طائرات على مشارف فيليجرادي.

عند نقطة معينة خلال الحوار، فتح فيلولدو الدوسيه وسحب منه مظروفًا أبيض اللون. بداخله كانت خصلات شعر بنية اللون. وكتذكار أساسي على الانتصار في الحرب الباردة، ذكر فيلولدو بفخر أنه قص خصلات من شعر تشي قبل التخلص من جثته. لاحقًا أوضح فيلولدو "بشكل أساسي أخذتها لأن رمز الثورة كان هذا الشخص الملتحي طويل الشعر، وقد انقضى. بالنسبة لي قصصت شعر رمز الثورة الكوبية ذاته".

 

 

قبل خمسين سنة، تبنّى المسؤولون الأمريكيون وجهة النظر تلك؛ اعتبروا اعتقال تشي جيفارا وإعدامه بمثابة أهم انتصار للولايات المتحدة على مسلحي كوبا وأمريكا اللاتينية، خلال حقبة التدخل الأمريكي وحرب مكافحة التمرد في ستينيات القرن الماضي. وقدم مسؤولو البيت الأبيض العديد من الوثائق السرية التي تحلل أهمية القضاء على تشي -بالنسبة لفيدل كاسترو وكوبا، وبالنسبة للمصالح الأمريكية في منع انتشار الثورة في أمريكا اللاتينية.

أعدت المذكرة -التي صنفت (سري-حساس/للاطلاع فقط) -للعرض على الرئيس ليندون جونسون قبل خمسة أيام من وفاة تشي. ونقلت المذكرة ملخصًا قصيرًا من مدير سي آي إيه ريتشارد هيلمز، يعكس تفاصيل الأخيرة قبل مقتل تشي. أكد الملحق الذي كتبه هيلمز تحت عنوان "اعتقال وإعدام إرنستو تشي جيفارا،" أن جيفارا لم يمت متأثرا بـ"جروح المعركة" خلال اشتباك مع الجيش البوليفي، كما أوردت الصحافة  البوليفية، لكنه أعدم في "الساعة 1315 بدفعة طلقات من بدقية آلية من طراز إم-2".

كما أكدت مذكرة البيت الأبيض أيضا أن الحكومة البوليفية كانت تخبئ دورها في إعدام تشي، بالزعم أن جثته أُحرقت ولا يمكن إعادته إلى الأرجنتين، بلده الأم، أو إلى كوبا. وقد سافر روبرتو، شقيق تشي، إلى بوليفيا طلبًا لتسليم جثته إلى عائلته؛ وطلب سلفادور الليندي، سيناتور اشتراكي من تشيلي (ورئيسها لاحقًا)، رسميا بتسليم الجثة إلى تشيلي، وهو ما فسرته واشنطن بأنه جهد من فيدل كاسترو لاستعادة رفات تشي. أُبلغ الرئيس جونسون: "البوليفيون لا يريدون تشريحًا مستقلًا يظهر أنهم أعدموا (تشي) وهم يصرون على عدم السماح باستغلال الحركة الشيوعية لرفاته".

وفاة جيفارا "شكلت ضربة شديدة لكاسترو" بحسب التقرير الذي قُدَّم إلى الرئيس جونسون. اعترضت سي آي إيه رسائل سرية من هافانا إلى بوليفيا تكشف أن فيدل اعتزم إثارة التمرد في بوليفيا ليكون "عرضًا كوبيًا مصممًا لإثارة حركة (على مستوى القارة)"، حتى أن كاسترو استدعى أعضاءً في الحزب الشيوعي البوليفي إلى هافانا لينصحهم بعدم تقديم التمرد على أنه حركة قومية، بحسب الرسائل التي تم اعتراضها. بدلًا من ذلك، أشار إليها على أنها "حركة دولية".

أورد مساعد البيت الأبيض، والت روستو، إلى جونسون في مذكرة منفصلة أن "وفاة جيفارا تحمل هذه الآثار الهامة"، وفي مذكرته عزز هذه النقطة، [بملاحظات جاء فيها]، إن وفاة جيفارا تعد علامة على الانتهاء من ثوري آخر من هؤلاء العدوانيين والرومانسيين مثل (الإندونيسي أحمد سوكارنو والغاني كوامي نكروما والجزائري أحمد بن بيلا). وأنها في السياق الأمريكي اللاتيني، سيكون لها أثرًا قويًا في تثبيط همة من يفترض أن يكونوا من رجال العصابات. كما أنها ستظهر (سلامة مساعدتنا بالدواء الوقائي) للبلدان التي تواجه تمردًا في مراحله الأولية".

 كانت كتيبة حراس الأدغال الثانية في بوليفيا، التي تدربت على أيدي القوات الخاصة التابعة للجيش الأمريكي (جرين بيريتس) من يونيو/حزيران إلى سبتمبر/ أيلول هذا العام، هي التي طوقت جيفارا وأمسكت به.

كاسترو وجيفارا يستمعان إلى أوزوالدو دورتيكوس رئيس كوبا الأسبق - التقطت الصورة عام 1960

 

كيف سيتصرف فيدل؟ هكذا دار السؤال في أذهان المسؤولين الأمريكيين الذين انتابهم القلق من أنه "قد يحاول استعادة الهيبة المفقودة" من خلال القيام بعمل دراماتيكي ضد الولايات المتحدة –"مثل تفجير واحدة من سفاراتنا أو خطف دبلوماسيين". أرسلت وزارة الخارجية تنبيهًا بالحذر الأمني إلى السفراء الأمريكيين في المنطقة.

بيد أن الثورة الكوبية لم يعرف عنها تورطها في إرهاب دولي؛ فلم تكن هناك قنابل استهدفت السفارات والدبلوماسيين الأمريكيين. كان رد فعل كاسترو الأولي هو إلقاء كلمة غاضبة رصينة وحادة خلال مسيرة تذكارية لجيفارا في 18 أكتوبر/ تشرين الأول، حيث تحدث بشكل مباشر عن بعض النقاط التي ظهرت في تقارير سرية تداولتها أرفع المستويات في الحكومة الأمريكية.

أعلن كاسترو أن وفاة تشي كانت "ضربة شديدة، ضربة هائلة للحركة الثورية". لكنه أضاف: "هؤلاء الذين تفاخروا بالنصر مخطئون. مخطئون باعتقادهم بأن مقتله نهاية لأفكاره، نهاية لخططه، نهاية لمفاهيمه لحرب العصابات، نهاية لنظريته".

استمرت عمليات التمرد، كما استمرت عمليات مكافحته التي قادتها الولايات المتحدة، خاصة في بلدان أمريكا الوسطى مثل جواتيمالا والسلفادور ونيكاراجوا. بالفعل وبدعم لوجيستي وبالتدريب من جانب كوبا، وفي غضون عقود من إعدام تشي؛ باتت جبهة التحرير الوطني (ساندينيستا) حركة هائلة وأسقطت في نهاية المطاف سلالة سوموزا. أخطأ المسؤولون في واشنطن في اعتقادهم بأن أفكار جيفارا ومفاهيمه والمقاومة التي أحدثها سوف تدفن مع جثته. قد تكون خططه الفاشلة لحرب العصابات غير ملهمة، لكن استشهاده على أيدي سي آي آيه كانت بالتأكيد ملهمًا.

 

 

في كوبا، كشف إحياء الذكرى الخمسين لمقتل جيفارا الجهد المستمر لتنشيط الثورة والتزامها بالوقوف في وجه الولايات المتحدة. في مسيرة في سانتا كلارا، حيث دفن جيفارا، نقل نائب الرئيس الكوبي ميجيل دياز-كانيل، المقولة الثورية: "الإمبريالية لا يمكن الوثوق بها أبدًا، ولا حتى قليلًا، أبدًا". وفي مواجهة خطاب ترامب المتنمر والسياسات العقابية ضد كوبا، كرر دياز-كانيل أن "كوبا لن تقدم تنازلات عن سيادتها واستقلالها ولن تتفاوض على مبادئها".

كما أن مصير مذكرات جوستافو فيلولدو يظهر إرث جيفارا الشهير ورمانسيته. قرر فيلولدو في نهاية المطاف بيع ملف مذكراته حول إعدام تشي في مزاد نظمته دار مزادات هيريتيدج أويشن جاليريز في دالاس، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2007.

في بادئ الأمر، كان الحد الأدنى للمزايدة 50 ألف دولار. لكن بعد أن تلقت دار المزادات طلبًا من حكومة الراحل هوجو تشافيز في فنزويلا -كان يفترض أن يستحوذ تشافيز على خصلات الشعر ويعيدها إلى عائلة تشي في سانتا كلارا في كوبا- تضاعف الحد الأدنى للمزايدة إلى 100 ألف دولار. لكن مع عرض الغلاف كان هناك مزايد واحد -مالك مكتبة لبيع الكتب في تكساس يدعى بيل باتلر، وافق على دفع 100 ألف دولار إضافة إلى 19.500 عمولة مبيعات.

قال باتلر إنه يعتزم عرض الملف في متجر لبيع الكتب يمتلكه في هيوستن. وقال للصحفيين إن اشترى هذا الملف الفريد من نوعه الغالي في ثمنه، لأن تشي جيفارا كان "أحد أعظم الثوريين في القرن العشرين".