فارس يحرز آخر وأجمل أهدافه من فيلم الحريف

شوارعنا وأوطانهم

منشور الاثنين 21 ديسمبر 2015

تقول الأسطورة إن فور خروجه من المعتقل وأنا على مشارف الخامسة من عمري، قام  خالي، على سبيل الاستثناء، بالتدخل في تربيتي، وبعد نقاش وإصرار  تمكن من إقناع أمي بضرورة نزولي إلى الشارع والاختلاط مع أطفال منطقتنا الشعبية، كان منطق خالي بسيطا، الولد سيواجه العالم إن عاجلا أم آجلا، فليواجهه كابن منتم له أفضل من أن يواجهه كغريب، إسهام خالي الكبير كان  نظريا وتأسيسيا، أما خالي الأصغر فكان صاحب الإسهام العملي والميداني، كان من وقت لآخر يدربني بطريقة كتاتيب تحفيظ القرآن على إطلاق بعض الشتائم "الأبيحة" وليس كلها، ذلك كي أؤسس عضوية كاملة في عالم الشارع ولا يكون وجودي فيه وجود عابر سبيل أو ضيف ضعيف أو صفحة بيضاء يكتبها الآخرون، علمني خالي أن السباب "الأبيح" سلاح لمواجهة الأشرار ولإثبات الوجود في ساحات الحضور الخطرة لأن استخدام قوة الذراعين لا يجب أن يكون أول خيار، وأن السباب اضطرار خاطيء نمارسه لحفظ النفس ولصيانة احترامها وأن له قواعد استخدام؛ فنحن لا نستخدمه أمام النساء ولا كبار السن أو ضدهما. في الواقع لم أكن في انتظار فيلم "الناظر" ليعلمني الليمبي أن الصياعة أدب فهذا الاصطلاح كان سائدا بيننا منذ سن العاشرة. بعض الجيران من المهنيين المتعلمين لم يسمحوا لأولادهم بهذا الاختلاط، وبعضا من أولادهم فسدوا على كبر، وبعضا منهم التحق بسلك الشرطة، وبعضا منهم أصبح من ضباط القوات المسلحة، وربما يصير أحدهم رئيسا للجمهورية يوما ما.

 

                      


قضائي ساعات طويلة يوميا في الشارع منذ  سن السابعة هو ما أشعرني بحقي في امتلاك  نصيبي من البلد أو بمعنى أكثر دقة هو ما رسّخ داخلي قيمة الصراع على امتلاك المجال العام وأبديته، الشارع هو الشيوع حتى لو ادعى عجائز الجيرة العكس، حتى لو صرخوا فينا شاتمين من الشرفات ونعتونا بـ "الشوارعية"، أو "روحوا العبوا قصاد بيتكم "، لم أفهم أبدا كلمة "شوارعي" كمسبة، فقد كنت شوارعى بالفعل وأفتخر؛ أولا لأني أحب الشوارع، وثانيا لأني أقضي فيها وقتا طويلا. صحيح أنني لم أع ابدا فكرة مشاعية الشارع كملكية جماعية، لكني وأصحابي كنا نجد حلا وسطا مع سلطات الشوارع وحراسها من كبار وأصحاب أملاك ومحلات وورش، كنا نقول لهم "ده مش شارعكم ده شارع الحكومة"، وكأن الحكومة هى ذلك الحكم البعيد والغائب حتما الذي نستدعيه في الجدل بغرض تخريب الجدل فقط كي نبقي الوضع على ما هو عليه. كنا ننزع من الكبار والملاك حجة الملكية لنمارس مقاومتنا بالتسلية، لم نقل أبدا إنها أرض الله أو شارع الله، لان شارع الله هو الجامع، لم نتجاسر يوما ولم يصل وعينا لحد القول بأن الشارع شارعنا نحن وليس شارعكم أنتم، فهذه جسارة تليق بفرانكفونية استشراقية من يوسف شاهين وأبنائه الضالين وهم ينشدون "الشارع لنا احنا لوحدنا.. والناس التانيين دول مش مننا"، معتقدين أن الأنشودة وحدها كافية لحسم صراع ملكية الشارع. الحقيقة لم نمتلك وقتها أبدا القوة الكافية لإزاحة "الناس التانيين"، فقد كنا أطفالا. 

 

الأنشودة الجماعية وحدها لاتكفى.. من فيلم "عودة الإبن الضال" " data-embed-button="almanassa_media_browser" data-entity-embed-display="view_mode:media.embed" data-entity-type="media" data-entity-uuid="278a0fc7-36a3-40df-93fc-c3c07e66b78a" data-langcode="ar">


بعض شوارع طفولتي في الحي السابع بمدينة نصر كانت واسعة وهادئة، جنة في ميزان المساكن الشعبية، كانت شوارع ناعمة الأسفلت تصلح للعب الكرة بخسائر بدنية مقبولة، معظمها سحجات سهل التواطؤ على ألامها، وذلك عوضا عن حالتها قبل ذلك حين كان أسفلتها خشن ومدبب، يصيب الأولاد بكدمات الركبة والكوع الدامية عند أول احتكاك، كانت شوارع هادئة نادرة السيارات لم  تصاحبنا فيها إلا صناديق الزبالة الخضراء الحديدية مدببة الأطراف التي كانت أحيانا لا تجد من يفرغها حتى تمتليء وتفيض لتأتي الكلاب الضالة لتشاركنا ملعبنا، على سبيل الاستثناء كان هناك قطعة أرض ترابية مستوية واسعة بجوار مدرسة محمد فريد الابتدائية، كانت ممتازة للعب الكرة، كانت ملعب للمتميزين ، جمعت الأمهر والأقوى والأشد بأسا و قدرة على فرض سلطانهم بالحرفنة أو البلطجة، كانت ساحة لأعظم المنافسات، شاهدت فيها أبطال الطفولة المحليين، وعندما شاهدت لاحقا فيلم "الحريف" لمحمد خان وعادل إمام لم أجد فيه ما يبهرني بقدر ما وجدت فيه ما يؤانس ذاكرتي، فقد كنت أعرف كل هؤلاء قبل أن أغادر في سن الرابعة عشرة شوارع المساكن / البلوكات لشوارع المساكن / العمارات،  كانت قطعة الأرض الترابية مثالية فعلا، لدرجة أن نشطاء الحزب الوطنى رأوا فيها خطرا على الشباب لاحتمال تحولها ليلا إلى وكر لتعاطي المخدرات لذا فقد ناضلوا نضالا باسلا حتى استصدروا قرارا بتحويلها إلى حديقة حشائش ومجار وضفادع وأشجار زينة مع تسييج جزء منها بالأسلاك الشائكة لتتحول بالفعل مع الوقت إلى وكر مثالى لتعاطي المخدرات ليلا، أشياء كهذه علمتني أن الحياة في مصر هي عبارة عن صراع بين الأطفال والأغبياء. 

 

فارس يحرز آخر وأجمل أهدافه " من فيلم الحريف "

                                                                             


أفهمني صديقا شفافا من أصول ريفية أن القرية مكان بقدر ما هو خانق ومكتظ وواص إلا أنه ما زالت هناك غيطان، هي مدى للبصر وملاذ للهروب، على مرمى بصرك ما تستطيع الهروب إليه و نظريا لديك خيار، وأنا ابن لمدينة حيث المسطح الأخضر فيها هو استثناء برجوازي، خاصة لو كان هادئا،  ليس بيننا من يكره  الهدوء المكسو بالخضرة،  لذا لما انتسبت لعضوية نادي اجتماعي رياضي برجوازي كان قد اختاره والداي لقربه المكاني من سكننا الجديد، شعرت أن ذلك بمثابة الفرصة العادلة لمحاكاة الحياة الطبيعية، ولكنه كان اجتماعا مع تشكيلات بشرية تعي تماما أنها ليست  الحياة الطبيعية، فهي حياة يفاخرون داخلها بلذة الاستثناء عن من هم خارج السور، بئس الصحبة، وبئس المكان الذي احتاج  لدخوله إبراز بطاقة انتساب وهوية إذا نسيتها ربما تعرضت لاحتمالات الحرمان من رؤية أشجار جنته. لقد كان ذلك الهدوء الأخضر  ممتعا بقدر ما تعاميت عن من يشاركونني فيه و تعاميت عن أفراد الأمن الذين يراقبون سلوك الأولاد ويتفقدون الأركان المظلمة وصممت أذناي عن أحاديث العسكريين المتقاعدين البذيئة التي تتوقف فور حضور الزوجات الحاجات ذوات المائة كيلو أو يزيد، لا يا عم الحاج (بصوت الليمبي).  ظل الرصيف لي حتى سن الـ 18 هو القاعدة و كان أخضر النادي الهاديء هو الاستثناء، كانت  زيارته بغرض تذكير نفسي بأن كل الأرصفة يمكن أن تكون خضراء يوما ما بدون سور ولا أمن ولا عسكريين متقاعدين.

يقول بطل إحدى حكايات عمر طاهر إن الوطن هو ذلك المكان الذي تنتهي فيه  كل  محاولات الهروب، ويقول ماجد زاهر إن الهرب من القاهرة بينما تعيش فيها هي حرفة سكانها حيث السياسة اليومية هي العنف والاختفاء، وسأحاججهما متفلسفا بأن الوطن هو تلك الغربة التي تتمكن من الإنسان حتى تشل تماما قدرته على الهروب، عن نفسي فأنا ما زلت هاربا لا أبحث عن وطن كي أستسلم لغربته حتى وأنا على أعتاب الكهولة.

 

القاهرة
ميدان التحرير

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.