بيلي وايلي مع الوثائق السورية - من موقع CBSNews

لعبة الموت.. هؤلاء يوثقون جرائم النظام السوري

منشور الثلاثاء 28 نوفمبر 2017

 

في عام 2011 توقف الشاب الجامعي السوري عبد المجيد بركات عن المشاركة في المظاهرات المناهضة للنظام، ورغبة منه في الحصول على دلائل تدين النظام، استطاع الحصول على وظيفة في "خلية الأزمة"، التي شكلتها الحكومة لتنسيق رد الفعل على الحراك الثوري. يقول بركات لوكالة راديو كندا: "كنت في إدارة البيانات والمعلومات. كنا نختص بجمع كل التقارير اليومية الواردة من مراكز الاعتقال في المحافظات الأربعة عشر. في هذه التقارير نجد كل البيانات عن عدد المظاهرات، عدد المتظاهرين، عدد القتلى منهم، عدد المعتقلين منهم".

يضيف عبد المجيد وهو يظهر وثائق أصلية موقعة بالحبر الأخضر الخاص بالمسؤولين رفيعي المستوى، أن في مساء كل يوم وبعد الاجتماع كان يتم إرسال تقرير ملخص لبشار الأسد، الذي كان يقرأها بنفسه و يقوم بالرد عليها أحيانًا في ذات المساء: "كان مطلعًا بشكل يومي على كل ما يحدث".  يقول ذلك ويشير إلى وثيقة تحمل توقيع بشار الاسد.

 

عبد المجيد بركات، من موقع راديو كندا

في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، عرض تلفزيون وكالة راديو كندا، ضمن برنامجه الأسبوعي Enquête، تقريرًا عن محاولات أفراد مستقلين أو مؤسسات غير حكومية لتوثيق ما يتعرض له السوريون من ممارسات إجرامية، وكشف حقيقة النظام السوري الحالي، في محاولة لمحاكمته من أجل "إرساء العدالة بشكل ما"، كما قال بيل وايلي، مؤسس اللجنة الدولية للعدالة والمساءلة.

وبحسب قول المحامي الأميركي ريد برودي، في التقرير نفسه، لم يحدث في التاريخ البشري كله توثيق حالة إجرامية بهذا القدر، مع كل هذه الوثائق والصور والشهود الذين تعاملوا مع النظام قبل خروجهم، ويضيف برودي: "من الصعب التفكير في حالة أخرى كانت فيها الدلائل من القوة التي نراها الآن في الحالة السورية". مع ذلك تبدو يد العدالة مغلولة عن إيقاف القتل اليومي رغم كل الجهود والوعود الدولية. 

يتحدث التقرير التلفزيوني الكندي عن شهود أحياء عاش بعضهم جحيم الاعتقال والتعذيب في السجون السورية، أو رسمت طرق الحياة لبعضهم الآخر قَدَر العمل لدى النظام السوري و معايشة جحيم الشاهد الصامت. 

المثير في التقرير الكندي هو الحديث عن قيام ناشطين بإدارة عمليات على الأرض لجمع وثائق عمل النظام السوري.  هذه المرة لا يعمل هؤلاء الناشطين بشكل فردي و عفوي، كما أنهم ليسوا سوريين فقط. ورغم ما يمكن أن يثيره ذلك من شكوك، إلا أنه وبشكل ما لم يعد الهمّ السوري وتوابع ما يعيشه السوريون شأنًا داخليًا فقط، بل لم يعد من الممكن تناول أي محنة إنسانية في أي بقعة من العالم الآن بشكل منفصل عن الأحوال العالمية. و ما نزوح اللاجئين السوريين نحو الدول الأوربية و ما تبعه ذلك من ردّات فعل مختلفة إلا دلالة على أهمية العمل خارج الحدود الضيقة للانتماء الوطني أو العرقي. 

قد يعدّ ما سبق تبريرًا لأن يقوم عسكري كندي سابق ومحقق دولي حالي بإنشاء لجنة دولية للعدالة و المساءلة، CIJA، وهي منظمة غير حكومية، أنشئت منذ بدء الحرب في سوريا بهدف جمع أكبر قدر من الوثائق لتقديمها في إطار تحقيق دولي حول مسؤولية النظام السوري في الحرب السورية. خصوصًا وأن مؤسسها، بيل وايلي، سبق له وتعامل مع قضايا حروب ضد الإنسانية وانتهاكات جنائية دولية و يعلم تمامًا أن عملية إرساء العدالة تحتاج لتوثيق تورط الأنظمة القمعية و رموزها يقول وايلي في التقرير: "تعتبر الوثائق الصادرة عن الأنظمة المرتكبة لجرائم أفضل دلائل يمكن الحصول عليها في تحقيق دولي، فبهذه الطريقة تم إعداد ملفات الاتهام ضد القادة  النازيين في محاكمة نورمبرج. إن أول شهادة تم سماعها في المحاكمة كانت لرئيس الأرشيف في النظام النازي الذي كان مسؤولًا عن حفظ و ترتيب وثائق النظام".

 

بيل وايلي، من موقع راديو كندا

ليست محاولات الملاحقة الجنائية للنظام السوري ورموزه بالأمر المستجد مع الحرب السورية، فالسوريون و منظمات حقوق الإنسان العالمية يسعون لذلك طوال الوقت، لكن المشاهد القاسية القادمة من سوريا أعطت الكثير من المصداقية لما كان ضحايا النظام يحاولون توضيحه منذ عقود.

المساجين والسجّان

لم يكن مازن الحمدا، الذي كان يعمل كهربائيًا قبل الحراك الثوري، يتطلع لأي شيء أكثر من تسجيل فيديوات للمظاهرات لتكذيب ادعاءات النظام وآلته الإعلامية التي كان تزعم هدوء الشارع السوري أثناء بداية الحراك.

قُبض عليه وهو يحاول إيصال لبن أطفال لحي محاصر من قبل القوات الحكومية السورية. تعرض للتعذيب بشكل يومي تقريبًا لمدة سنة وسبعة أشهر، يقول للوكالة الكندية: "لقد وضعوا حزامًا حول قضيبي. ثم قاموا بتضييقه حتى لم أعد أشعر بأي شيء. في هذه الأثناء، قام ضابط باغتصابي بعصا. لقد فعلوا أشياء فظيعة للإنسان".

كان مازن محتجزًا في سجن المطار العسكري-المَزِّة و عثرت منظمة "سيجا" على وثيقة تثبت أمرًاً مباشرًا باعتقاله. 

 

مازن الحمدا، من موقع راديو كندا

ولكن سجن المزة تعرف عليه العالم من خلال صور مرعبة، وهي صور سيزار. لم يعد اسم سيزار (الاسم المستعار) خفيًا على أحد بعد أن انتشرت على الإنترنت الصور التي هرّبها من أقبية النظام السوري لأروقة المنظمات العالمية. صور مرعبة لعشرات الجثث العارية التي تعرضت للتنكيل والتعذيب والتجويع. وما رافق ذلك من تعرف للسوريين على أحبائهم المفقودين. كان سيزار، الذي لا يظهر منه في المقابلة مع التلفزيون الكندي سوى ظهره المغطى بمعطف مطري أزرق، مجندًا في سجن المزة العسكري، وكان حظه في العمل أن يقوم ورفاقه ولمدة سنتين بتصوير جثث من قُضى من المعتقلين مرفقين بثلاثة أرقام تعبر عن رقم المعتقل، ورقم مركز الاعتقال، ورقم موته.

ساعدت صوره الـ 55 ألف التي اتُخذت في مركز اعتقال واحد، وعلى مدار سنتين فقط على تحديد 11 ألف جثة. بمعدل قتل 15 معتقلًا يوميًا، يقول للوكالة الكندية: "تملكتنا الرغبة جميعًا بالهروب بسرعة"، لا يظهر صوت سيزار في التقرير التلفزيوني، فهو يهمس أجوبته في أذن مترجمه، ويضيف: "الشيء الذي جعلنا نبقى هو الرغبة في الكشف للعالم أجمع عن الشر وانعدام الإنسانية لدى هؤلاء". 

مستندات حكومية

تحتوي ملفات التحقيق التي يتم تحضيرها ضد النظام السوري و رموزه على وثائق أصلية كتلك التي هرّبها عبد المجيد بعد أن قام بلفها حول جسده تحت ثيابه و هو يعبر باب الهوا مع وسيط مهرب،  وكذلك على صور توثيقية كصور سيزار كان هدفها تسجيل موتهم في سجلات الدولة، وتسمح للنظام بالتأكد من أن أوامره قد تم تنفيذها.

يقول المحامي بيل برودي: ​"المثير للدهشة والغريب حقًا هو وجود وثائق تظهر قرارات جنائية. هناك قرارات تثبت تورط مسؤولين رفيعي المستوى. إن الوثائق هي ملكة الأدلة. لأنها عادة لا تكذب، لا تعاني من مشكلات في الذاكرة، تستمر حتى بعد 30 عامًا بعد أن يموت معظم الشهود، هي تبقى".

المثير حقًا هو كيف تقوم الآلة الجهنمية للتعذيب والتصفية على منظومة تتبع القوانين البيروقراطية: "كنت أريد أن أظهر هذه الآلة القاتلة التي تذبح وتصفي بشرًا تحت سمع وبصر العالم". يقول سيزار الذي كان ينسخ الصور في نهاية كل يوم عمل على يو إس بي ويخفيه في جواربه. 

يشرح وايلي كيف أن ملفات التحقيق ضد الأنظمة تحتوي على الكثير من الأوراق و الوثائق، وكيف أنه نادرًا ما تأتي أوامر التصفية والتعذيب بشكل مباشر، لذا فتركيز المحققين ينصب على رصد سلسلة و تدرجات الأوامر و هيكلية المؤسسات، وتساعدهم الوثائق المسربة على إثبات منهجية النظام في تعامله الأمني. يقول كريس إنجلز، أحد المحامين العاملين في منظمة سيجا: "نضع الكثير من الجهد في محاولة معرفة كيف أن مراكز التعذيب تعتبر أيضًا جزءًا من السلطة المحلية. وكيف أن هذه المؤسسات المحلية هي جزء من السلطة المركزية في دمشق".

لعبة التخفي: لعبة الموت

عندما قرر عبدالمجيد ترك سوريا كان يعلم جيدًا أهمية وخطورة ما يفعله: "قال لي (المهرّب) لو أنهم عرفوا بشأن الوثائق، سيقتلوننا نحن الاثنين". كان عليه تحمل كل ذلك الخوف طوال رحلة الخروج من سوريا التي استغرقت يومين، وكان عليه الخروج قبل أن يُكشف أمر تسربه ومن ثم نشر اسمه على الحدود في أي لحظة.

يقول عبد المجيد: "كان خوفي، أثناء عبور الحدود، أن يطلبوا مني خلع ملابسي، لو اكتفوا فقط بتمسيد جسمي فلن يكتشفوا شيئًا، وقد كان. لكن كان قلبي ينبض بشدة لو أن (حارس الحدود) وضع يده على قلبي لاكتشف اضطرابي وشكّ فيّ". بعد عبوره معبر باب الهوا الحدودي لجأ عبد المجيد لاسطنبول، حيث اختبأ هناك.

ما زالت "سيجا" تقوم بعمليات على الأرض، وما زال الخطر الذي يتعرض له المتعاونون معها قائمًا. يقول ويلي: "يعمل فريقنا في مناطق صراعات ومن المستحيل ضمان أمنهم بشكل كامل، لديهم الخيار بترك سوريا لكنهم في كل يوم يؤكدون على خيارهم بالبقاء للقيام بهذا العمل. في كل يوم يقومون بدراسة أهمية ما نفعله وكفاءة المهمة و إن كانت تستحق كل هذه المخاطر و يقررون البقاء. حقيقةً إنهم أناس يستحقون التقدير".

 

الوثائق السورية التي تحتفظ بها

ويشرح ويلي كيف أن بعد سيطرة بعض المجموعات المقاتلة على منطقة ما، يهرب موظفو النظام تاركين خلفهم أطنانًا من الوثائق العسكرية و المخابراتية،  وبالتالي لا بد من الوصول بسرعة لمكاتب الحكومة ونقاط النظام العسكرية بعد إخلائها وهروب موظفيها.

يقول كريس إنجلز: "غالبًا ما لا تكون المعلومات متوفرة إلا لوقت قصير،  ستختفي إذا لم نتصرف بسرعة". وعن اتخاذ القرارات بالاحتفاظ بالأوراق أم لا، وكيف أنه بعد ذلك يتم الاستعداد لتهريبها خارج الحدود في حقائب سفر أو صناديق فواكه. لكل حمولة وثائق سواء كانت أربعين أو أربعمئة كيلو قصة خاصة، لكن مفتاح نجاحنا يعتمد في الأصل على العلاقات التي أقمناها مع بعض المجموعات المقاتلة في سوريا. ليس مع تنظيم الدولة الإسلامية طبعًا ولا مع جبهة النصرة".

يشرح كريس: "نحن لا ندفع المال للحصول على وثائق ولا حتى للشهود، أولئك الذين يقبلون التعاون معنا يفعلون ذلك لقناعتهم بهدفنا  لإنشاء ملف جنائي". 

يحتفظ عبد المجيد بوثائقه في بنك في اسطنبول بتركيا، ويقوم بإعلام الأمن التركي في كل مرة يضطر فيها لإخراج وثائقه، كما حدث لدى مقابلته للتلفزيون الكندي،  بينما تحتفظ مؤسسة سيجا بأطنان من الوثائق في مكان سري و خاص.  

و يبقى السؤال: هل سيُحاكم بشار الأسد ونظامه؟

بعيدًا عن الإدانة الدولية، فإن الهدف من التحقيقات التي يطالب بها معارضو النظام السوري وداعمو حقوق الانسان هو محاكمة أشخاص ورموز النظام السوري و على رأسهم بشار الأسد. 

لكن كون سوريا لم تصدّق على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية يعني عدم جدوى محاولة مقاضاتها من خلال هذه الهيئة إلا إذا أحال مجلس الأمن ذلك. لكن مع الفيتو الروسي و الصيني عام 2014 سقطت تلك الاحتمالية. ربما لهذا السبب بالذات يكثر الاعتماد على تحقيقات المنظمات غير الحكومية، يقول ريد برودي: "هذه المنظمات (غير الحكومية) تستطيع اتخاذ خطوات محملة بالمخاطر لا تستطيع اتخاذها الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات العالمية، ذلك أن القيود الدبلوماسية والبيروقراطية التي تنظم العمل هي أقل بكثير بالنسبة لهم".

في تقرير نشره المركز السوري للعدالة والمساءلة SJAV في شهر مايو/أيار الماضي، ظهر أنه لا توجد خيارات للمساءلة الحالية للجرائم في سوريا بموجب القانون الدولي، لذا يستدعي المركز التريث عن الدخول في "عملية قضائية تفشل في تلبية احتياجات الضحايا، لأن من الممكن أن يؤدي ذلك إلى خيبة أمل من المرجح أن تضر بالمنظور الطويل الأجل للعدالة الانتقالية في سوريا". في الوقت نفسه يعتقد المركز بأهمية ملاحقة الأفراد الذي من الممكن مقاضاتهم وذلك بهدف "الحفاظ على الضغط الدولي ومنع تأهيل المسؤولين رفيعي المستوى". 

في هذا الصدد يقول المحامي الألماني باتريك كروكر معلقًا على الاتهامات الجنائية المرفوعة من قبل لاجئين سوريين في ألمانيا ضد ستة قيادات سورية: "لمحاكمة المتهمين يجب أن يتواجدوا في ألمانيا، لكن هذا لا يمنع من عمل تحقيق و إصدار مذكرات توقيف بحقهم حتى لو لم يتواجدوا هنا". وبما أن القيادات الست ما زالت متواجدة في سوريا فإن التحقيق يتخذ طابعًا رمزيًا. يشرح المحامي كروكر: "إن ما نحاول إيصاله لهؤلاء هو أنكم لم تعودوا تستطيعوا التحرك أينما أردتم  وأن كل تنقلاتكم محدودة وهذه نتيجة مباشرة لكل ما اقترفتموه في سوريا". 

رغم ذلك فقد تسلل الإحباط الى نفوس ضحايا النظام السوري، يقول مازن: "لي ست سنوات أعمل في متابعة مجرمي الحرب في أوروبا،  الآن أنا محبط. ليس هناك أي إرادة لملاحقة مجرمي الحرب المختبئين في أوروبا".

يقول المحامي برودي: "للأسف، بالرغم من كل التغييرات التي حدثت في السنوات الأخيرة مع محكمة العدل الدولية، حالات رواندا ويوغسلافيا وغيرها، فإنه معظم المذابح و عمليات التعذيب ما زالت من دون عقاب".

لكن الملاحقة الجنائية ليست فقط بهدف المعاقبة او الانتقام بقدر ما هي لإيقاف آلة العنف والقتل كما يشرح سيزار: "تقع علينا مسؤولية تخليص كل من يظل معتقلًا في سجون الأسد. من نراهم في الصور لم يخرجوا. يجب العمل على ألا يتعرض باقي المعتقلين لنفس المصير المرعب" .

من جهته فعبد المجيد كان يسعى لتوضيح حقيقة كان وما زال يراها كل يوم. تلك الصورة الإيجابية التي يصدرها الرئيس السوري، وما يروجه مكتبه معتمدًا على مكاتب استشارية أوروبية. كان عبد المجيد يعتقد أن مؤيدي النظام السوري يجهلون مدى إجرامه "كنت متأكدًا أن الوثائق ستغير رأي أولئك الداعمين للنظام وسيفهمون أنه إجرامي"

من المؤكد أن لعبة القوى الدولية لا تعمل لمصلحة إيقاف القمع، رغم ذلك كله يظل بيل وايلي المحقق الكندي الدولي مقتنعًا بإمكانية المحاكمة: "أنا على ثقة بإمكانية محاكمة الاسد و جنرالاته وإلا لما كنت هنا ولما قمت بكل هذا العمل".