بوستر فيلم القضية 23

القضية 23: شارون اللبناني في فيلم لزياد دويري

منشور الخميس 28 سبتمبر 2017

 

منذ أول فيلم أخرجه المخرج اللبناني زياد دويري ونحن نعرف أننا نشهد ولادة مخرج متميز ينحت مكانه في السينما العربية بفيلمه الأول "بيروت الغربية" الذي لاقي أيضا ترحيبًا عالميًا. وفي فيلمه الجديد "القضية 23" أو "الإهانة  The Insult"، يؤكد دويري على مكانته في السينما العربية وأنه واحد من أفضل المخرجين العرب المعاصرين والقادرين على حكي حكاية ممتعة وبنفس الوقت عميقة وبإيقاع موزون ومحبوك وموظف في سياق الفيلم، بالإضافة إلى قدرته النادرة على التحكم في الممثلين وإخراج أفضل ما لديهم أمام الكاميرا، حيث المستفيد الأول والأخير هو وجدان ووعي المشاهد الذي يستمتع بالفيلم الذي يتناول واحدة من أكثر القضايا جدلًا في لبنان والعالم كله فهي قضية تمس كل إنسان حول العالم.

يحكي فيلم زياد دويري الجديد عن الميكانيكي المسيحي (عادل كرم) الذي يسب رئيس العمال الفلسطيني (كامل الباشا) والمكلف بإزالة مخلفات البناء بأحد أحياء بيروت. ويتحول هذا الخلاف الشخصي إلى قضية أمام المحكمة ثم يستمر إلى محكمة الاستئناف ليتحول إلى قضية رأي عام حيث لكل شخص مناصرين من بني جلدته/ قبيلته/ انتمائه، حينها تشهد شوارع لبنان مظاهرات واشتباكات عنيفة بين داعمي الشخصيتين مما يزعزع استقرار لبنان، وهي الدولة غير المستقرة منذ سنوات طويلة حتى قبل الحرب الأهلية التي أطاحت بالبلاد واستمرت سنوات طويلة، وتثير في نفوس اللبنانيين الرهبة والخوف الدائم من تكرارها.

 

نحن أمام مخرج وفيلم شديدا التميز. فزياد دويري من نوعية المخرجين المفكرين الذين يتمتعون برؤية مختلفة عن أقرانهم من المخرجين الآخرين. هذه الرؤية المختلفة دائمًا ما تثير الجدل والخلاف وربما تصل إلى رفض الفنان نفسه بناء على رفض رؤيته، وهو ما حدث لدويري منذ أول فيلم أخرجه وهو "بيروت الغربية"، ولكن فيلمه "الصدمة" هو الفيلم الذي أثار الكثير من الجدل والهجوم عليه، إذ صُوِّر الفيلم في إسرائيل ويتحدث عن طبيب عربي إسرائيلي يكتشف أن زوجته نفذت عملية انتحارية في تل أبيب، ويسعى إلى معرفة السبب وراء قيامها بهذه العملية، هذا الفيلم أدى أخيرًا وبعد خمس سنوات من عرضه – ورغم سفر دويري إلى لبنان عشرات المرات خلال هذه الفترة – إلى توقيفه واستجوابه حين وصوله إلى لبنان لحضور العرض الأول لفيلمه الجديد "القضية 23" بدعوى أنه يَطبَع مع إسرائيل وذلك بسبب تصويره للفيلم في فلسطين المحتلة.

ومن المنتظر أن يؤدي فيلمه الجديد أيضًا إلى حالة من الجدل والخلاف بسبب تناوله للاحتقان المدفون بين اللبنانيين والفلسطينيين الذين يعيشون في لبنان. 

 

الرذيلة الأكبر هي الضحالة

أخرج زياد دويري أربعة أفلام طويلة. بالإضافة إلى فيلمه الأول والأخير السابق ذكرهما أخرج أيضا فيلم "ليلى تقول" 2004 و"الصدمة" 2012. وحصل فيلمه الأخير "القضية 23" – ومرشح لبنان لجائزة الأوسكار أفضل فيلم أجنبي – على جائزة أفضل تمثيل في مهرجان فينيسيا. ومع كل فيلم، نشهد تطورًا كبيرًا في مستوى أفلام دويري من ناحية السرد والتصوير والتمثيل والإخراج والقدرة والتصميم على الحفاظ على جودة الأفلام من الناحية التقنية والفكرية، وهو ما يجعل زياد دويري يُخرِج أفلامًا قليلة – أربعة أفلام طويلة فقط في حوالي 20 عامًا. ولكن ما يهمنا كمشاهدين هو جودة الأفلام لا قلة عددها أو أين صُورت أو كيف صُورت أو كم المعاناة التي لاقاها صناع الفيلم أثناء عمل الفيلم. ويتجنب دويري كل هذه المثالب بل ويبتعد فكريًا عن الضحالة والسطحية، ويبتعد فنيًا عن الضعف والتخبط، إذ يهتم كثيرًا بمدى تميز صناعة الفيلم ومدى عمق الرؤية.

المخرج اللبناني زياد دويري

 

وفي هذا الفيلم - الذي ينافس في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان الجونة السينمائي - أجاد صناع الفيلم في حبك إيقاع الفيلم في السيناريو "دويري وجويل توما" والإخراج "دويري" والمونتاج "دومنيك ماركومب"، وأيضًا في خلق حالة من الصراع لا في ساحة معركة بل في الصراع الكلامي في ساحة المحكمة، وذلك عبر السجال بين طرفي الصراع الذين يعتبر كلا منهما رمزًا لفئة كاملة تعيش في لبنان. وعكس ذلك أيضا التصوير "توماسو فيوريللي" حيث تتحرك الكاميرا دائمًا بين طرفي الصراع أو محاميهما، بل وحينما تثبت على شخص تظل الكاميرا قلقة لتعكس مدى القلق والغضب الكامن في نفوس الشخصيتين الرئيسيتين، والذي يتجلى أيضًا على وجه الممثلين المتميزين عادل كرم وكامل الباشا، خاصة في لحظات المواجهة والتي نشهد ذروتها في المشهد الذي ينتهي بقول الشخصية اللبنانية المسيحية للشخص الفلسطيني "يا ريت شارون محاكن عن بكرة أبيك".

هذه الجملة قادرة على صدم أي مشاهد عربي ليأخذ موقفًا فوريًا معاديًا لشخصية اللبناني المسيحي، ولكن ومع إكمال الفيلم نكتشف أن الغضب المعلن والكامن وراء هذه الجملة نابع من معاناة تُساوي معاناة الفلسطينيين المشردين اللاجئين بكل أنحاء العالم، لأنه نابع من شخص هو نفسه لاجئ داخل بلاده بسبب المليشيات الفلسطينية التي قتلت وعذبت وشردت الآلاف في لبنان لمجرد كونهم مسيحيين. وهو نفس ما تقوم به إسرائيل في فلسطين المحتلة، انطلاقًا من نفس الدوافع التي تستهدف الإنسانية كلها لا الإنسان الفلسطيني فقط أو اللبناني فقط. بل أن الفيلم يتناول أمرًا أكبر من القضية الفلسطينية أو الانقسام اللبناني، إذ يتناول الدوجما "اليقين الديني والفكري" في كل مكان وبأي زمان. هذا اليقين الذي يجعلنا نرفض التعايش معًا.

بالتأكيد تحدثت أفلام عدة عن مدى انقسام المجتمع اللبناني وأنه معرض لأن يشهد حربًا أهلية ثانية في أي وقت بسبب الاحتقان المدفون كالجمر المشتعل تحت الرماد في المجتمع. ولكن الجدة في فيلم زياد دويري تأتي من وجهة النظر الجريئة التي يتناول بها القضية، وهي جرأة نادرًا ما نجدها في فنان عربي أو حتى عالمي. مرة أخرى يؤكد زياد دويري أنه مخرج كبير، على اللبنانيين والعرب أن يفخروا به.

عادل كرم وكامل الباشا في لقطة من فيلم