سوريون

اتفاق المدن الأربع: سوريون يرحلون من موت إلى موت

منشور الاثنين 9 أكتوبر 2017

 

-القاهرة-

في ليل الثالث عشر من أبريل/ نيسان الماضي، قضى حسان راضي (اسم مستعار) ليلته مؤرقًا في مضايا ينتظر طرقًا على باب البيت بيد أحد مقاتلي جبهة "أحرار الشام"، يعلنه بموعد الرحيل النهائي عن البيت في رحلة بلا عودة ستخوضها العائلة بعد ساعتين اثنتين للانتقال إلى "إدلب" الواقعة على بعد 360 كيلو مترًا من القرية التي عاش فيها حسان عمره. 

كان على الرجل الخمسيني الذي تطوَّع في المشفى الميداني منذ اندلاع الثورة السورية في 2011، أن يجمع ما استطاع من أغراضه وأغراض زوجته وأبناءه الأربعة الباقين، وتوديع منزله وقبر صغيره الخامس المقتول جوعًا خلال الحصار الذي استمر لثلاث سنوات ونفذته قوات حركة حزب الله اللبنانية.

في الخامسة فجرًا؛ وقفت واحدة من حافلات التهجير أمام البيت لتقله وأسرته ضمن فوج من آلاف السكان نحو وجهة إجبارية لم يرغبوا فيها. يقول حسان في حواره معنا عبر تطبيق واتس-آب : "من لم يرحل بإجبار من أحرار الشام، أجبره الجوع والحصار".

 

 

لم يكن أمام حسان سوى الانصياع، فهو مطلوب لدى النظام السوري. بقاؤه يعني خضوعه للتحقيق والاعتقال، على حد قوله، بعد سريان اتفاق كانت جبهة "أحرار الشام" المسيطرة على القرية طرفًا فيه، سُمّي باتفاق المدن الأربع.

 

مضايا التي سكنها حسان حتى تهجيره منها قسرًا، واحدة من أربع قرى ضمّها الاتفاق الذي وصفته صحيفة الشرق الأوسط بأكبر تغيير في ديموغرافيا البلاد منذ بدء الحرب، أطرافه هم النظام السوري وحزب الله من جهة، وجبهة أحرار الشام من جهة أخرى، برعاية قطرية إيرانية. الاتفاق ليس الأول من نوعه منذ بداية الحرب، فمناطق كان يسيطر عليها المسلحون في حلب، بحسب BBC، تعرضت لما سمّته الأمم المتحدة "جريمة التشريد القسري" وهي جريمة حرب بحسب نظام المحكمة الجنائية الدولية.

 تضمنت بنود الاتفاق الموقَّع في أبريل/ نيسان الماضي، بحسب مصدر من الحكومة السورية تحدّث لـ BBC، تهجير جميع المقاتلين وعائلاتهم من قريتي مضايا والزبداني ذواتا الأغلبية السنية والمعارضتين للنظام؛ إلى إدلب. مقابل تهجير 16 ألف شخص من قريتي كفريا والفوعة ذواتا الأغلبية الشيعية والمؤيدة للنظام إلى حمص، إضافة إلى شروط تتعلق بتبادل الأسرى لدى الطرفين، والإفراج عن 1500 معتقل لدى النظام السوري، وشرط أخير غامض، وصفه المرصد السوري لحقوق الإنسان في بيان له بأنه "لا يتعلق بالأزمة السورية" دون توضيح.

 

 

رغم معارضة حركات كالجيش السوري الحر، ومنظمات حقوقية كالمرصد السوري لحقوق الإنسان للاتفاق؛ تحركت الحافلة التي تقل حسان وعائلته في الاتجاه المعاكس لحركة حافلة أخرى تقل ليلى شحادة وابنها فادي التقيّ، ساكنا قرية الفوعة التي عانت حصارًا مماثلًا على يد جبهة أحرار الشام وعناصر من حركات مسلحة متشددة ومعارضة لبشار الأسد كجبهة النصرة، التي قاتلت تحت راية تنظيم القاعدة حتى يوليو/ تموز 2016، واستفادت من الاتفاق باسترداد أسراها مقابل أسرى ينتمون لحزب الله.

 

 

حملت ليلى، مُدرِّسة التاريخ ابنها المصاب في قدمه، وأختها ضياء، لم يجبرها الجيش السوري ولا عناصر حزب الله على الخروج لكن إصابة ابنها التي لا تستطيع إمكانات المستشفى المحاصر في الفوعة علاجها أجبرتها.

 رأت ليلى، كما تحكي للمنصة، في الاتفاق سفينة نوح التي قد تنقذ ولدها، استقلت الحافلة تاركة وراءها بقايا منزلها، وقبري ابنتها فاطمة وزوجها أحمد، وابن آخر لم يُسمح له بالرحيل: "لم يسمحوا لعبد الله بالرحيل ككثير من شباب البلدة، الفرصة كانت للنساء والأطفال والمصابين فقط".

حكايات ليلى وحسان، وثلاثة أشخاص آخرين تحدثوا إلينا بمساعدة مدونين ونشطاء سوريين؛ تروي قصة اتفاق تم على خلفية حصار دام لسنوات، انتهى بتهجير قسريّ لمدنيين تشتت معظمهم بين مخيم الحسياء المحاط بالصحراء من جوانبه الأربعة، ومدينة إدلب التي لا ينقطع عنها القصف الروسي، وصارت تكتظ بالنازحين من مناطق كانت خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية.

تتذكر ليلى في رسالتها الصوتية عبر واتس آب تلك اللحظة في منطقة الراشدين بحلب، عند نقطة تبادل باصات كفريا والفوعة، ظهرت من العدم شاحنة محمّلة بالبطاطا أمام الأطفال بعد يومين من حبس المهجّرين دون طعام سوى ربطة خبز وقليل من الماء، ودون سماح لهم بالخروج حتى لقضاء الحاجة. تسابق الأطفال إلى الشاحنة لتنفجر: "أختى ضياء كانت قرب الانفجار، ضليت أبحث عنها بين الأشلاء".

عرفت ليلى لاحقًا أن المصابين في واقعة التفجير تم إسعافهم في المشافي الحدودية الواقعة في نطاق سلطة مسلحي المعارضة، وبسبب إصابة ضياء في معدتها وساقيها الاثنتين، جرى إرسالها إلى تركيا. لكن لحظات بحثها عن ضياء أودعت ذاكرتها صورًا لأشلاء أطفال وجثث وصل عددها إلى 100، بالإضافة إلى 55 جريحًا بحسب الأخبار المنشورة عن الانفجار: "هناك عائلات ضاعت عن بعضها البعض نتيجة التفجير، وأفراد لا يعلمون عن ذويهم أية معلومات حتى اللحظة".

في نقطة قريبة عند معبر الراموسة وفي الحافلات التي تقل مُهَجَّري مضايا والزبداني، كانت رحمة محمد (اسم مستعار) تجابه لحظات الخوف من تصرف "انتقامي" قد تقوم به القوات المحيطة بهم، إثر خبر انفجار شاحنة تقول رواية النظام السوري أنها "سُيِّرَت من قِبَل الإرهابيين". في المقابل، يقول المسلحون إنهم لم يفتّشوا الشاحنة لأنها خرجت من أراضي النظام لإيصال الطعام لمؤيديه. 

في كل ثانية تمر يزيد خوفها، خاصة مع انقطاع الاتصال مع أهلها الذين تركتهم في "بقيّن". اختارت رحمة الجوع طوعًا طوال يومين مضيا خشية مواجهة الحرس ومعارضتهم الشرسة إذا طلبت قضاء حاجتها: "الناس صارت تتشاهد وتلبس كل أواعيها (ألبستها) وتمسك جعبها (حاجياتها)، إذا بنموت نموت بجعبنا".

                                  

رحمة في شوارع بقين قبل الرحيل 

 

في الوقت عينه، كان ابراهيم عبّاس، في تركيا ينتظر اتصالًا أو إشارة تطمئنه على أخته وأخيه القادمين مع رحمة من بقين التابعة لمضايا، يتذكر  ما ذاقه خلال تهجيره هو ضمن صفقة تبادل مصابين سابقة بين القرى الأربع في مايو/ أيار 2016.

 

سيعرف بعدها قرار أخيه راجح (اسم مستعار) وعائلته المكونة من ثلاثة أطفال وزوجة، بعدم ركوب الحافلات ورفض الخروج من بقين، وسيتفهم هذا القرار. على عكس أخيه، لم يكن راجح مطلوبًا من النظام لكن ظروف الجوع وانعدام الأمن دفعته لقبول التهجير في البداية، قبل أن يقرر المغامرة بالبقاء كما يحكي إبراهيم الذي هرب من خدمة العلم (التجنيد الإلزامي) بعدما عنف الجيش السوري في التصدي للمتظاهرين السلميين في قريته والقرى المحيطة في بداية الثورة "ما كان عندنا ثقة إن النظام راح يحل مشاكل القرية ويفك الحصار بعد التهجير، بس أخي ما كان فيه يترك كل شيء ويروح". وصلت أخته شيماء (اسم مستعار) والمُهَجَّرين من مضايا إلى إدلب دون انتقام من القوات السورية، بينما وصل مهجري كفريا والفوعة وبينهم ليلى وابنها إلى مخيم الحيساء، ولحقت بها صديقتها زينب أبو الحسن ضمن فوج لاحق ومعها طفلين من أصل أربعة أولاد، كون الاثنين الآخرين -كابن صديقتها- لم تشملهم تذاكر الخروج: "كان علي الرحيل لأن ابني عنده سبع سنين يحتاج عملية عاجلة". لا تحكي زينب تفاصيل مختلفة في رحلة تهجير عن رحلة ليلى، انتظار وحبس في الباصات وساعات وأيام من القلق والخوف والتعنّت في إمداد المهجّرين بالغذاء والماء، فقط بلا تفجير هذه المرة.

مخيّم "حسياء" في الأصل هو منطقة سكنية للعمال تابعة لمنطقة صناعية بنفس الاسم، تقول زينب إن الجبال تحيطهم من كل النواحي، تُجمل وصفها لحالتهم بقولها: "خدونا من الحصار حطونا بالمنفى". تعيش زينب وابنيها في غرفة بها حمام ومطبخ يبعد عن خط السيارات 3 كيلومترات، كما تحكي. تقول زينب إن ابنها المصاب يعاني عدم توفّر خدمات طبية في المكان سوى مستوصف متواضع. تخشى زينب أن يلقى ابنها مآل أخويها الذين ماتا في اشتباكات مع المسلحين دفاعًا عن القرية من محاولات اجتياحها. ماتا لغياب العلاج المناسب وقت الحصار في 2015.

 

غرفة ببيت زينب بالمخيَّم 

 

في أول أعوام الحصار، 2015، فقدت زينب أخًا في أغسطس/ آب، ثم لحق به أخوها الأكبر بعد ثمانية وثلاثين يومًا، ركضت زينب باتجاه المشفى عند سماع الخبر، كانت تسمع الأصوات تصرخ فيها من خلف الجدران المهدّمة تطالبها بالرجوع، لكن قدميها لم تتوقفا عن الركض سوى أمام أبواب المستوصف الذي غطت ساحته أشلاء ملقاة على الأرض، ومصابين مقطوعي الأطراف يصرخون ألمًا وطلبًا لعلاج غائب بسبب الحصار. أحد المصابين أمام عيني زينب الذاهلتين كان أحمد، زوج ليلى، الذي أصيب إصابة بالغة في رأسه جعلته يقضي شهرًا ونصف الشهر يقاوم في انتظار علاج ونجاة لم يجدهما، ليموت تاركًا زوجته مع من تبقى من عائلتهما.

 

هذا الفترة من المعاناة بسبب غياب العلاج الضروري تقيم الآن في ذاكرة ليلى، بينما ترقب جسد أختها الذي عاد من تركيا مصابًا بالتهابات تحتاج لرعاية ومواد طبية غير متوفرة في المخيم. 

ترصد هيومن رايتس ووتش في تقريرها منع المسلحين دخول قوافل الإغاثة، الطبية منها والغذائية، إلى المدنيين المحاصرين، كما رصدت مصادرة الحكومة السورية -بحسب تقرير المنظمة السنوي- للمواد الدوائية الضرورية من القوافل قبل السماح بدخولها، إبراهيم الذي وصل بعد معاناة إلى تركيا كان واحدًا ممن عانوا من تعنّت النظام السوري في إدخال المساعدات، في ظل القصف المستمر لبلدته، فبعد إصابته في أول أسابيع حصار مضايا، كان يُعالَج بأدوية منتهية الصلاحية. لكنه كان محظوظًا بصمود جسده حتى إتمام اتفاق أخرجه مع آخرين من بقين إلى إدلب لإتمام علاجه، ثم إلى تركيا التي سيعرف وهو مقيم فيها عبر فيسبوك أن والدته لم تكن بمثل حظه، فلم يسعفها الوقت ولا الإمكانات الطبية بعد إصابتها في رأسها بطلقة قنّاص لتموت: "القنّاص المرابط عند نقطة حراسة للحزب (حزب الله) قريبة من منزلنا اعتذر لأخي عن مقتل أمي. ظنّوها إرهابيًا".

 

 

ورغم اختلاف مواقع كل منهم، يحكي حسّان ورحمة وإبراهيم وليلى وزينب تفاصيل متشابهة لحياتهم تحت الحصار: أناس يبيعون أثاثهم للحصول على كيلو من الملح صار ثمنه 200 دولار، يحرقون بطانياتهم من أجل التدفئة، ويذيبون البلاستيك بهدف الحصول على وقود لتشغيل المولدات فترة تكفي لشحن الهواتف والبقاء على اتصال بالعالم ولو لمدة قصيرة. يأكلون أوراق الأشجار ويسقون الأطفال دواء مسكنًا (سيتامول) ليناموا هربًا من الجوع الذي انتزع من إبراهيم أباه، ومن حسّان ابنه الخامس وأربعة من أبناء عمومته.

لا ترتجي زينب وليلى الآن سوى أن تستطيعا معالجة صغارهما المصابين، وتأمين فرصة لأبنائهم القابعين في الفوعة للخرج منها، أملًا في أن يستطيعوا إكمال تعليمهم بعد السنوات التي ضاعت في الحصار. حاول ابراهيم خلال عام كامل في تركيا الثبات في وظيفة، واستطاع منذ شهر ونصف جمع أخته شيماء بزوجها. يحاول الأخوان بناء حياة جديدة ستبعد عن بقّين التي يتمنى ابراهيم العودة إليها دون ظن في تحقق أمنيته :"بدي أتأكد إني ما راح اقتل حدا ولا حدا يقتلني إذا رجعت، بس صعب"، بينما يحاول أخوه راجح، الباقي في البلدة، هو الآخر استعادة حياته بعد تصالحه مع النظام الذي قتل أباه وأمه وأخ ثالث انشق عن الجيش. يحاول راجح تعمير منزل العائلة وزراعة أرضها علَّها تعود كما كانت. أمّا حسّان، فيتحدث عن سوء أحواله المعيشية في إدلب، يقول إن المنظمات الإنسانية التي أغاثتهم أول عشرة أيام من وجودهم في المدينة تخلت عنهم لاحقًا "قالولنا كل واحد يدبّر حاله". يعمل حسان سائقًا لمدة 18 ساعة يوميًا ليجني في الشهر ما يعادل 150 دولار يدفع منها 50 للإيجار وحده. يقول إنه موقن أن خلاص أبناءه سيكون خارج سوريا: "ربما أرحل إلى تركيا، بيقولوا العيشة هناك أفضل".  رحمة لم تستطع خلال شهور إقامتها الخمسة في إدلب توفير وظيفة واحدة، تعيش حتى اللحظة على مدخراتها التي حملتها في حقيبة حوت كنزتين وتنورتين وملعقة وطبق وإناء طهي وبالطو كانت تلبسه، وتركت عائلة أخيها وزوجته ومنزلًا وقطة، تضحك "على فكرة كثير اشتقتلها". تقول إن الذين أخرجوها وعدوها بوظيفة أتت ولم تجدها، رغم الشهادات التي تحملها في التدريس "آكل وجبة واحدة في اليوم، إذا معي مصاري لجيب الوجبة اليوم ممكن ما يكون معي بكرة".

من تحدّثوا معنا من المهجّرين من مضايا أكدوا صعوبة التواصل مع من بقي من عائلاتهم هناك، خشية مراقبة النظام لوسائل الاتصال. وتزيد صعوبة الوضع لمن وصلوا لإدلب مع استمرار قصف الطيران الروسي والسوري.

يعيش كل من رحمة، حسّان، زينب وليلى، في مساحة رمادية لايستطيع أحدهم خلالها وصف مستقبله، لم يتمكن أغلبهم من تحقيق الهدف الذي خرج لأجله، وما جرى في بيوتهم وقراهم صعّب طريق العودة إليها، تقول رحمة:"كثير علي أفكر بمستقبلي، بيكفي أفكر في الحاضر".


أجريت المقابلات باستخدام تطبيقي واتس آب وفيسبوك ماسنجر - وتم تغيير أسماء بعض المصادر بناء على طلبهم، خشية الملاحقات الأمنية على يد أي من اﻷطراف المتصارعة في الداخل السوري.