ترامب والسيسي

تحولات الموقف المصري من فلسطين على إيقاع "صفقة القرن"

منشور الخميس 21 سبتمبر 2017

خطابان من على نفس المنصة، تفصل بينهما سنةٌ واحدة، يكشفان إلى حدٍّ بعيد التحولات الجذرية في الموقف الرسمي المصري من القضية الفلسطينية، كما يوضحّان أيضًا كيفية تعاطي الخطاب الرئاسي مع هذا الملف، وذلك خلال أقل من سنة على تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهام منصبه.

في سبتمبر/أيلول عام 2016 وقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على منصة الأمم المتحدة مخاطبًا الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتطرق خطابه بطبيعة الحال إلى موقف مصر من أزمة الصراع العربي الإسرائيلي. 

في 2016 تحدث السيسي عن "معاناة الفلسطينيين"، وعن "إنهاء الاحتلال"، وعن استعادة الشعب الفلسطيني "حقوقه". أما في 2017 فغابت كل هذه المصطلحات لتحل محلها مطالبات للفلسطينيين "بقبول التعايش مع الآخر، الإسرائيليين"، وبينما خاطب السيسي الإسرائيليين عام 2016 حول ضرورة التوصل إلى حل واتفاق سلام، فإنه عام 2017 أكد لهم أن "اطمئنوا، نحن معكم". 

https://www.youtube.com/embed/W0KkP7NS-_g

 

ولكن رغم الاختلافات فإن الكثير من الأمور تشابهت بين الخطابين، ففي المرتين استأذن السيسي من رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة أن يخرج عن نص خطابه المكتوب وأن يوجه حديثه إلى الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، حديث كان في المجمل مليئًا بالعبارات التي تؤكد أهمية السلام وضرورة الوحدة وعن مميزات حُسن الجوار. 

كما ذكّر الرئيس السيسي في الخطابين باتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية التي وقعها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحم بيجن عام 1979، في المرة الأولى اعتبرها "تجربة رائعة ومتفردة"، وفي المرة الثانية رأى أنها "تجربة رائعة وعظيمة"، وفي المرتين كان يوجه حديثه إلى الشعب الإسرائيلي مرتجلًا، خارجًا عن النص المكتوب. 

كما حمل الخطابان، رغم اختلاف المصطلحات، ذات العبارات التي تكررت كثيرًا على لسان مسؤولين مصريين منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، لتصيغ الموقف الرسمي للدولة المصرية حول ضرورة التوصل إلى حل سلمي استنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وتأسيس دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

ما يمكن أن نعتبره "تطمينات" أرسلها السيسي إلى الإسرائيليين بأنه "معهم"، جاءت في سياق حديثه أيضًا عن أمر غامض تردد ذكره كثيرًا بدءًا من أبريل/نيسان من العام الجاري، عندما جلس السيسي في الغرفة البيضاوية في البيت الأبيض إلى جانب ترامب يتبادلان التحية البروتوكولية وبعض العبارات أمام الصحفيين.

يومها أكد السيسي على أهمية "صفقة القرن". 

الصفقة الغامضة

ليس واضحًا حتى اللحظة ماهية هذه الصفقة، ترددت على نطاق واسع تكهنات إعلامية بأنها خطة يعدّها ترامب من أجل إحلال السلام في المنطقة، وبدا لافتًا في هذا السياق أنه مع صعود ترامب، رجل الأعمال المرموق، إلى قمة البيت الأبيض بعد أسلافه من رجال السياسة، تغيّرت المصطلحات المعهودة في مثل هذه الحالات، ليصبح الحديث عن "صفقة القرن" لا "معاهدة" أو "اتفاقية" كما درجت المصطلحات الدبلوماسية في أوقات سابقة. 

غير أن هذه التكهنات سرعان ما نُفيت أو انتفت لسبب أو لآخر، مصر رسميًا إلى جانب إسرائيل والفلسطينيين نفوا جميعًا كل حديث تردد عن صيغة يستوطن الفلسطينيون فيها سيناء ويتركون أرضهم لإسرائيل، لينعقد السلام لكلٍ على أرضه، بينما تحصل مصر على مساعدات ومعونات هائلة نظير تنازلها عن سيناء. أما التوقعات بأن تكون هذه الصفقة محور مؤتمر دولي كبير للسلام يرعاه ترامب في الصيف فقد خابت بعد أن مر الصيف ولم يتحدث أحد عن عقد أي مؤتمر.

ولكن الرئيس السيسي أشار مجددًا في خطابه قبل يومين إلى أمور غامضة. 

قال السيسي "أوجه كلمتي أو ندائي الأول إلى الشعب الفلسطيني، وأقوله مهم أوي الاتحاد خلف الهدف، وعدم الاختلاف وعدم إضاعة الفرصة"، ولم يوضح الرئيس ما هو هذا الهدف الذي ينبغي على الفلسطينيين الاتحاد خلفه، ولا ما هي تلك "الفرصة" التي يجب عليهم أن يتحدوا كي لا يضيعوها. 

وأضاف مخاطبًا الإسرائيليين هذه المرة "ندائي إليكم أن تقفوا خلف قيادتكم السياسية وأن تدعموها ولا تترددوا، وأنا أخاطب هنا الرأي العام في إسرائيل، بقوله لا تتردد واطمئن، نحن معكم جميعًا من أجل إنجاح هذه الخطوة وهذه فرصة قد لا تتكرر مرة أخرى". 

مرة أخرى، ما هي هذه الفرصة التي قد لا تتكرر مرة أخرى؟ 

وتابع موجهًا حديثه إلى "كل الدول المحبة للسلام والاستقرار، إلى كل الدول العربية الشقيقة، أن تساند هذه الخطوة الرائعة، وإلى باقي دول العالم أن تقف بجانب هذه الخطوة التي إذا نجحت ستغير وجه التاريخ". 

https://www.youtube.com/embed/w1IBuS_n_jw

 

أية خطوة رائعة تلك التي يثق السيسي في أنها ستغير وجه التاريخ؟ وكيف سيساند الفلسطينيون والإسرائيليون والدول الشقيقة والصديقة وشعوب العالم الحر المحبة للسلام خطوة ما زالت في طي المجهول؟

ذكر السيسي الفرصة الغامضة هذه المرة عند حديثه إلى ترامب، يخبره أن "لدينا فرصة لكتابة صفحة جديدة في تاريخ الإنسانية من أجل تحقيق السلام في هذه المنطقة". 

جدير بالذكر أن السيسي لم يكن وحده من أشار إلى صفقة القرن، ولكن الرئيس الفلسطيني محمود عباس جاء على ذكرها في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مشيدًا "بجديّة ترامب" في تحقيق هذه الصفقة.

تحوًلات مصرية

الخطاب الأخير للسيسي في نيويورك إضافة إلى اللقاء العلني الأول مع نتنياهو يحمل بين طيّاته تحولات جذرية للموقف المصري الرسمي من الصراع العربي الإسرائيلي. 

فرغم محدودية قدرتها على إنهائه، طالما دأبت مصر على إدانة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بشكل واضح، ولطالما أدانت استمرار الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، ولطالما كان موقفها الرسمي عند الحديث عن الحل النهائي، يدور حول إنهاء الاحتلال وإعلان الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967. 

هذه هي المرة الأولى التي يتطرق فيها رئيس مصري للحديث عن هذا الملف دون ذكر الاحتلال أو التحذير من خطورة المستوطنات، وهذه هي المرة الأولى التي يطالب فيها رئيس مصري الفلسطينيين بضرورة التعايش مع الإسرائيليين، الذين، في الوقت نفسه، يطمئنهم ويؤكد لهم "نحن معكم". 

أسباب هذا التحول بين موقفين، بغض النظر عن تقييمه، ترجع على ما يبدو إلى البيت الأبيض. 

مواقف القاهرة على إيقاع ترامب

في ديسمبر/كانون الثاني من العام الماضي أصدر مجلس الأمن الدولي قرارًا نادرًا بإدانة الاستيطان الإسرائيلي، صدر القرار لأن الولايات المتحدة -وعلى غير عادتها- لم تستخدم حق النقض "فيتو" ضده. 

وقتها كان أوباما يقضي أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، وترامب الذي أصبح حينها رئيسًا منتخبًا يستعد لدخول البيت الأبيض، انتقد بشدّة قرار إدارة أوباما الامتناع عن التصويت وتمرير القرار بدلًا من الاعتراض عليه وإسقاطه، واعتبر أن القرار يضع إسرائيل "في موقف تفاوضي ضعيف وهذا أمر غير عادل". 

اللافت في هذا القرار أن مصر، والتي كانت حينها عضوًا في مجلس الأمن الدولي، كانت هي من تقدم في البداية بمشروع هذه القرار، غير أنها سحبته بصورة مفاجئة قبيل التصويت عليه وبعد تأمين الأغلبية اللازمة لتمريره وإعلان الولايات المتحدة أنها لن تستخدم حق النقض. 

لاحقًا أصدرت رئاسة الجمهورية بيانًا تؤكد فيه أن مصر سحبت مشروع القرار بعد التواصل مع الإدارة الأمريكية الجديدة التي لم تكن قد تسلمت مهامها بعد، واستجابت لطلبها بسحب مشروع القرار من أجل إتاحة الفرصة لترامب ليتعامل مع القضية الفلسطينية. 

من هنا بدا واضحًا أن الدبلوماسية المصرية فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، على استعداد لإبداء المزيد من المرونة في موافقها تماشيًا مع مواقف إدارة ترامب، والتي لا يخفى على حد إفراطها بعض الشيء في تأييد إسرائيل. 

اللقاء الأول.. أم الثالث؟

قبل يومٍ واحد من إلقاء كلمته الأخيرة في الأمم المتحدة، التقى السيسي علنًا للمرة الأولى برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبدا اللقاء ودودًا وكان السيسي يبتسم بما يتجاوز الأعراف البروتوكولية المتبعة في هذا الشأن. 

 

السيسي ونتنياهو

 

رسميًا هذا هو الاجتماع الأول بين الرجلين، إلا أن صحيفة هاآرتس الإسرائيلية تحدثت في أوقات سابقة عن لقاءين سريين، الأول كُشف عنه في فبراير/شباط الماضي وجرى في الأردن بحضور العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في مسعى أمريكي لم يكتب له النور لعقد قمة عربية - إسرائيلية تناقش عملية السلام.

أما اللقاء الثاني فقد جرى في القاهرة وكُشف عنه في يونيو/حزيران الماضي بحضور رئيس كتلة "المعسكر الصهيوني" البرلمانية وزعيم المعارضة في الكنيست يتسحاق هرتسوج، في محاولة وساطة مصرية -فشلت هي الأخرى- من أجل إقناع هرتسوج بالانضمام إلى حكومة ائتلافية مع نتنياهو تخوض مفاوضات مع الفلسطينيين بدلًا من الائتلاف اليميني المتشدد الحالي والذي لن يتعاطى مع هذا الأمر. 

هذا اللقاء الثاني يفسر على أي حال مخاطبة السيسي الأخيرة للشعب الإسرائيلي للاصطفاف خلف قيادة تسعى إلى السلام بعد سنوات طويلة من اتجاه الناخب الإسرائيلي نحو اليمين المتشدد. 

الاجتماعات الرسمية بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإسرائيلي نادرة، ودائمًا ما تكون في سياق تحركات إقليمية لدعم السلام بما يتجاوز مجرد اجتماع زعيمين. كان هذا دأب مبارك، بينما الرئيس الأسبق محمد مرسي لم يلتقِ أي مسؤول إسرائيلي خلال سنة حكمه، والسيسي نفسه خلال السنوات الثلاث التي قضاها رئيسًا لم يسبق الإعلان رسميًا عن إجرائه أي محادثات مع أي طرف إسرائيلي. 

وبالتالي فإن هذا اللقاء النادر يحمل بين طيّاته إحدى دلالتين، إما أنه يشكّل تحولًا آخر في المواقف الرسمية لمصر في التعاطي العلني مع المسؤولين الإسرائيليين، أو أنه مؤشر على أن ترتيبات ما تجري لتحركات دبلوماسية قريبة. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.