صورة تعبيرية لانفجار نووي

في الذكرى 39 للقنبلة الأولى: أين أجرت إسرائيل تجاربها النووية

منشور الاثنين 25 سبتمبر 2017

شهدت نهاية السبعينات ميلاد قوة نووية، صُنعت في الخفاء بإجراء تجاربها في أراض خاضعة لأحد أبشع نظم الفصل العنصري التي عرفها التاريخ الحديث.

بينما كان عدد من الفنيين الأمريكيين المعنيين بتتبع إشارات أحد الأقمار الصناعية يمارسون عملهم المعتاد برصد وتحليل الإشارات الملتقطة من القمر الصناعي "vela 6911"، كسرت إشارات متتالية من القمر إلى المحطة الأرضية الملل اليومي المعتاد، مشيرة إلى "ومضات شديدة" في جزء بعيد من المحيط الهندي.

 

Image courtesy: Arecibo Observatory

 

كان ذلك صباح السبت الموافق 22 سبتمبر/أيلول عام 1979، بينما تحيي وسائل الإعلام الغربية احتفالاتها بمرور عام على توقيع المذكرة الإطارية لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. وما أن تحفّز الفنيون حتى سجل مرصد أريسيبو في جزيرة بورتوريكو الأمريكية نشاطًا غير معتاد في الغلاف الجوي الأيوني.

 

 

وفي نفس الوقت تقريبًا، سجل نظام المراقبة الصوتية تحت سطح البحر - sosus - التابع للبحرية الأمريكية صوتًا غريبًا، رجّح لدى المارينز اعتقادًا بأن شيئًا عنيفًا قد حدث في جنوب المحيط الهندي بالقرب من سواحل جنوب أفريقيا. لكن من بين كل محطات الرصد هذه، كانت الإشارة المضطربة للقمر الصناعي "Vela 6911" هي الأكثر دلالة.

"فيلا 6911" كان أحد الأقمار المراقبة المدارية ضمن مجموعة من 12 قمرًا صناعيًا، تم إطلاقها عام 1963 تحت مسمى "نظام فيلا vella System" بغرض رصد ومراقبة خروقات معاهدة الحظر الجزئي لإجراء التجارب النووية، المُوَقَّعَة بين الدول العظمى آنذاك: الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة، وبريطانيا. في ذلك اليوم؛ لم تتمكن الأقمار الصناعية والأنظمة التابعة للبحرية الأمريكية من تحديد مكان وقوع ذلك الحدث بشكل دقيق، إذ كان بإمكان القمر الصناعي فيلا تحديد وتوقع مكان صدور ذلك "الضوء الغامض" في دائرة نصف قطرها 4800 كيلو متر، ما دفع الرئيس الأمريكي جيمي كارتر لتشكيل عدة لجان لبحث ماهية ذلك الحدث، وفي غضون ساعات قليلة نقلت الاستخبارات الأمريكية تقاريرها إلى كارتر، متضمنة أدلة ترجَّح أن جنوب أفريقيا، أو بعض الدول الأخرى، أجرت اختبارًا سريًا لسلاح نووي. 

أعقب ذلك تحديد دقيق لموقع حدوث "الضوء الغامض"، إذ أظهرت نتائج التحقيقات أن ذلك الضوء الشديد حدث بالقرب من جزيرة "بوفيت" في المحيط الأطلنطي جنوب غرب سواحل دولة جنوب أفريقيا. 

ظاهرة طبيعية أم اختبار نووي؟ 

قبل ذلك بعامين، وفي سبتمبر/أيلول 1977، بدأت واشنطن تشعر بالقلق إثر تزايد التقارير الواردة حول تعاون بين إسرائيل وجنوب أفريقيا في مجال الأسلحة النووية. ومع وجود المزيد من المعلومات الاستخبارية عن هذا "التعاون النووي"، أعربت وزارة الخارجية عن قلقها إزاء "الثغرات" التي شابت "التأكيدات" التي قدمها رئيس الوزراء الإسرائيلي-وقتها- مناحم بيجن، وسفير إسرائيل في الولايات المتحدة في ذلك الوقت إفرام إيفرون، إذ نفى المسؤولان الإسرائيليان إمكانية التعاون المباشر أو غير المباشر، ونقل التكنولوجيا النووية لأي طرف ثالث.

تقارير الاستخبارات الأمريكية دفعت إدارة كارتر لتوجيه "التماس لمزيد من التوضيح" إلى الحكومة الإسرائيلية عبر السفارة الأمريكية في تل أبيب، للاستفسار ولحث بيجن - رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها- على تعزيز "ضماناته لإغلاق جميع سبل التعاون المحتملة". 

لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجن نفى وجود أي تعاون نووي مع جنوب أفريقيا، متهربًا من الرد على أسئلة أمريكية أخرى تستفسر عن أشكال التعاون النووي الإسرائيلي مع أية دول أخرى. 

لكن وثائق ضمن أرشيف وكالة الأمن القومي الأمريكي رُفعت عنها السرية ونشرتها جامعة جورج واشنطن عام 2016 ضمن برنامج لتوثيق وأرشفة الاختبارات النووية السرية، كشفت عن تعاون وثيق بين تل أبيب وحكومة بريتوريا (مقر حكومة جنوب أفريقيا) في تطوير الأسلحة النووية.  التأكيدات التي تتوالي منذ سنوات مع استمرار برامج الكشف عن الوثائق العسكرية والدبلوماسية السرية، تُظهر تقديم إسرائيل الخبرات النووية إلى حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؛ مقابل تسهيلات لإجراء تجارب نووية مشتركة على أراضي الأخيرة أو في نطاق مياهها الإقليمية في المحيط الأطلنطي، لكون إسرائيل مطلة على بحرين داخليين لا يمكن أن تجري فيهما تجاربها النووية. 

في تحقيق مصور بثته فضائية سي بي إٍس الأمريكية في الثالث من يونيو/حزيران 1981، قدم المذيع الأمريكي الشهير والتر كرنكايت في آخر ظهور له قراءة لما توصلت إليه نتائج التحقيقات الأمريكية، إلى جانب كشف النقاب عن انفجار ضوئي آخر سجلته الأقمار الصناعية قبل حادث "فيلا" في سبتمبر 1978 وإن لم يتأكد أنه تفجير نووي. 

   يستعرض التحقيق التلفزيوني تقارير المخابرات المركزية حول الإشارات الملتقطة، وتقارير تتعلق بتعاون إسرائيل مع حكومة جنوب أفريقيا، إلى جانب تعليق المتحدث باسم البيت الأبيض الذي تراجع عن وصف ما حدث بأنه اختبار نووي، مدليًا بتصريح قال فيه إن "الضوء الغامض" المرصود هو ظاهرة طبيعية وليست من صنع الإنسان.

أدلة  متزايدة

ربما لم يكن المسؤول الأمريكي يكذب عمدا (على حد علم الوثائق). فقد أرجعت إحدى اللجان العلمية التي شكلتها إدارة جيمي كارتر  "الحادث الغامض" إلى إصطدام نيزك صغير بمركبة فضاء، ما أدى إلى حدوث ومضة شديدة بالقرب من سواحل جنوب أفريقيا. فيما أصر علماء لجنة أخرى أن الإشارات الملتقطة من محطات التليسكوب في نفس توقيت التنبيهات الصادرة عن القمر الصناعي "Vela 6911"،  تظهر أدلة قوية على أن ما حدث هو نتاج انفجار نووي. وهو ما يدحض التقرير الصادر عن البيت الأبيض آنذاك. إلى جانب وثائق المخابرات المركزية الأمريكية التي أشار لها تحقيق سي بي إس والتي أظهرت أن حكومة الفصل العنصري تحركت باتجاه الحصول على أسلحة نووية، وأن تحركات سرية للقوات البحرية في جنوب أفريقيا تم رصدها ليلة الحادث، وتضمنت حركة لقطع بحرية جنوب أفريقية تحمل معدات وصواريخ من نوع  "جبريل" الإسرائيلية. 

التحقيق التليفزيوني كشف عن إنفجار آخر أعقب الوميض الملتقط من قبل القمر الصناعي فيلا بثلاثة أشهر، قالت تقارير مسربة آنذاك إنه ناتج عن إجراء تجربة نووية جديدة.

علاقات عنصرية

في عام 2010 كشفت صحيفة الجارديان البريطانية عن وثائق ومذكرات تُظهر إتقاق نووي ومذكرات تفاهم وقِّعَت منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي في إطار مشروع نووي مشترك بين إسرائيل وجنوب أفريقيا، إبان حقبة نظام الفصل العنصري.

الوثائق التي كشف عنها النقاب رئيس أركان الجيش الجنوب أفريقي ريموند أرمسترونج، تُظهر اتفاقات ومعاهدات بين وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز ورئيس الوزراء الجنوب الأفريقي ويليم بوثا. إلى جانب كشف النقاب عن نية إسرائيل بيع قنبلة نووية إلى نظام الفصل العنصري.

التجارب النووية الإسرائيلية في جنوب إفريقيا إبان حقبة نظام الفصل العنصري الذي سُجِّلت في حقه انتهاكات واسعة بحق أصحاب الأرض الأفارقة، بدأت ملامحها تتبلور منذ منتصف السبعينيات. إذ أجريت عدة تجارب في صحراء كاليجاري، ثم جاء الاختبار النووي الأكبر الذي سجله القمر الصناعي فيلا 6911، لتشهد نهاية السبعينات ميلاد قوة نووية ربما تكون الوحيدة في الشرق الأوسط، ولدت في الخفاء بإجراء تجاربها في أراض خاضعة لأحد أبشع نظم الفصل العنصري التي عرفها التاريخ الحديث.

في كتابه "The Sampson Option " الصادر عام 1991 يستعرض الصحفي سيمور هيرش قوة إسرائيل النووية، كاشفًا أن حادث وميض "Vela" عام 1979 كان في الحقيقة ثالث التجارب المشتركة بين إسرائيل و نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في مجال تكنولوجيا التسليح النووي. وخَلُص هيرش في كتابه لأن الولايات المتحدة تعمدت حجب هذه الحقيقة من أجل تجنب تعقيد العلاقات مع تل أبيب في ظل قرب انتخابات الرئاسة الأمريكية. وترشح كارتر لفترة رئاسية ثانية.