محمد عبد الوهاب

محمد عبد الوهاب: صراحة ما بعد الموت

منشور الثلاثاء 3 أكتوبر 2017

يصف فاروق جويدة عبد الوهاب بالفنان الحريص علي فنه  ومظهره، وحتى على ماله، كان يريد أن يحمي فنه من تقلبات الزمن.

"بليغ حمدي موهوب، وألحانه تمتاز بالرشاقة والخفة... وعمله جيد وعِشَري".

كان هذا هو رأي الموسيقار محمد عبد الوهاب المُعلن في الفنان بليغ حمدي، ولكن عبد الوهاب كان لديه رأي آخر في بليغ، لكنه لم يعلنه وحفظه في أوراقه الخاصة: "بليغ حمدي ملحن موهوب ولماح، وعندما يعثر على جملة جميلة يستغلها أكبر استغلال ويحولها الي عمل فني يظهر للناس يزيد من رصيد فنه وماله، ويضع للجمل الجميلة أي كلام ولا يهمه العمل كله، واذا مدحته في حضوره انتفخ كالديك الرومي.. ليس فيه خجل الفنان الكبير، وبليغ تجاري في فنه مع ما يستلزمه ذلك من السرعة وعدم التأمل في تركيب العمل ككل".

سريعًا تكتشف أن الموسيقار الكبير كان لديه ما يعلنه وما يبطنه، كان شخصًا دبلوماسيًا، لم يرغب في إبداء آراء صريحة قد تؤدي إلى صدام ومعارك مع ملحنين آخرين.

ولم تقتصر دبلوماسية عبد الوهاب على الوسط الفني، بل كانت أسلوبه في التعامل مع كل النظم السياسية التي مرت بمصر. قبل الثورة نال عبد الوهاب لقب "مطرب الملوك والأمراء"، وغنى في مديح الملك فاروق، ولكن بعد الثورة غنى في مديح عبد الناصر والسادات، ولحن أغان وطنية في عهد مبارك، ولم يعلن معارضته لأي نظام سياسي بكلمة أو نغمة. ولكن ألم يكن لعبد الوهاب تفضيلات سياسية، وميول لنظام عن آخر؟ بالطبع كانت لديه آراء وتفضيلات، ولكنه احتفظ بها في أوراقه الشخصية، التي لم تُنشَر سوى بعد وفاته. 

في مقدمته لكتاب "محمد عبد الوهاب، رحلتي.. الأوراق الخاصة جدًا"، يروي الشاعر فاروق جويدة أنه بعد وفاة عبد الوهاب بفترة قصيرة تلقى من أرملته، نهلة القدسي، مجموعة من الأوراق الخاصة بالموسيقار الراحل، والتي أوصى بأن تُسَلَّم لفاروق جويدة بعد وفاته. ووفقًا لجويدة كانت الوصية مثيرة للدهشة، لأن عبد الوهاب ارتبط بصداقات أكثر عمرًا وحميمية مع آخرين، ولكنه اختار جويدة لهذه المهمة.

 

غلاف الكتاب

 

يشرح جويدة أنه قضى عامًا كاملًا مع أوراق عبد الوهاب، قرأها وبوّبها وقسمها حسب الموضوع، ليخرج الكتاب الذي صدرت طبعته الثانية عن دار الشروق عام 2008، ويقول جويدة في مقدمته إن عبء المسؤولية كان ثقيلًا عليه لأن هناك - على حد تعبيره - "أشياء لا ينبغي أن تنشر"، وأشياء تمس أشخاصًا أحياء، وأشياء "لا ينبغي أن تصبح مشاعًا"، بالتالي فمن بين الـ 600 ورقة التي تلقاها جويدة من نهلة القدسي، خرج الكتاب بحجم 160 صفحة. 

يصف جويدة عبد الوهاب بالفنان الحريص علي فنه  ومظهره، وحتى على ماله، يُرجع جويدة ذلك إلى أن عبد الوهاب كان يريد أن يحمي فنه من تقلبات الزمن، قبل أن يتركنا لما كتبه عبد الوهاب بنفسه، لتجد وجهًا مختلفًا عن الوجه الدبلوماسي الهادئ الذي يتخذ مسافة من كل الأطراف. 

مجرم الموسيقى

يبدو عبد الوهاب معتدًا بنفسه حين يتحدث عن الموسيقى، وواعيًا بدوره في التجديد، يذكر أنه "أول من قدم للمستمع غناء وموسيقى وكأنها حرة بلا قيود زمنية". وهو أول من أدخل آلات وترية أوروبية في الفرق العربية، ويقول "(فكّيت) سجن الجملة اللحنية من قيود الإيقاع الواضح الذي غالبًا ما يحرك في المستمع الحس المادي أكثر من الوجدان الروحي". 

في مواجهة كل ذلك يذكر عبد الوهاب أن أساتذة نادي الموسيقى حاوله ردعه في البداية ولكنهم لم يستطيعوا: "كانوا في حاجة إليّ.. فقد كان النادي يقدمني في حفلاته للحكام على أني طالب بالنادي، وكان يحصل على إعانات من الدولة بسبب ذلك".

ولكن بعد انفصال جزء من النادي وتحوله إلى معهد للموسيقى، اجتمع مجلس الإدارة وقرر فصل عبد الوهاب، وبحسب روايته قالوا عنه: "عبد الوهاب مجرم الموسيقى كمجرمي الحرب". 

ولكن كالمعتاد، تمر السنوات ويقف عبد الوهاب موقفًا ضد الجديد، فينظر بتعالٍ لتجربة أحمد عدوية في السبعينيات: "عدوية المغني ناجح جدًا.. ومع ذلك لا قيمة له لأنه ليس له مشوار"، ويهاجم بضراوة موجة الغناء الجديدة التي ظهرت مع بداية الثمانينيات، ولا يعترف بنجومية من برز منهم، ويصف المغني الذي يعتمد على أسلوبه على المسرح لا الصوت وحسب بـ "المطربجست".

الغريب أن عبد الوهاب راهن في نهاية حياته على المطرب "محمد ثروت" في تأدية الأغاني العاطفية والوطنية، ولكن رهانه لم ينجح.

ويعبّر عبد الوهاب في اليوميات، التي كتبها في ثمانينيات القرن العشرين، عن تحول تركيز متعهدي الحفلات إلى المطربين العرب، مثل محمد عبده وطلال المداح، على حساب المطربين المصريين الذين صاروا فقرات ثانوية. ويعبر عن خوفه من أن يتعود المصريون على هذا النوع من الغناء ويتحولون لمستوردين بعد أن كانوا مصدرين، هذه النبوءة التي تحققت جزئيًا الآن. 

السنباطي المحافظ والقصبجي الثائر

يبدي عبد الوهاب في نصوصه آراءه في الملحنين، ولا تخلو ملاحظاته من انتقادات مبطنة، كأنه يحافظ على حرصه حتى في الأوراق التي لن تنشر في حياته، فهو يقول عن القصبجي: "كان ثائرًا أكثر منه جميلًا"، ويلوم أم كلثوم على عدم بيان ثورته كاملة: "أم كلثوم لا تحب الإغراب ولا الشذوذ ولا غير المألوف". ويضيف عبد الوهاب ما يدل على أن أم كلثوم لم تكن خبيرة في الموسيقى، حين يحكي أن القصبجي جاءه مرة وقال له: "أم كلثوم بتقول على اللازمة اللي انت ملحنها في قصيدة (عندما يأتي المساء) والتي تجيء بعد كلمة (وجهت عيني نحو لماح المحيا) إنها نشاز.. يا خبر أسود". 

https://www.youtube.com/embed/wvduWKJF1MA

بالتالي كان رأي عبد الوهاب أن القصبجي يريد القيام بثورة غنائية، مثل التي فعلها هو نفسه، ولكن لم تتح له الفرصة. ونعرف أنه بعد سنوات أجبر عبد الوهاب أم كلثوم على استخدام آلات موسيقية غربية وإيقاعات متنوعة عندما لحّن لها في الستينيات والسبعينيات. 

وعلى الرغم من أن الشائع هو توتر العلاقة بين عبد الوهاب وملحن آخر عظيم هو رياض السنباطي، حتى أن فاروق جويدة في مقدمته وصفهما بالنقيضين، إلا أن رأي عبد الوهاب في أوراقه عن السنباطي يحمل تقديرًا كبيرًا: "السنباطي صادق فيما يقدمه.. لا يقدم شيئًا إلا إذا كان مؤمنًا به.. ولا يوجد داخل السنباطي غير السنباطي لأن منبعه منه". ولكن رأيه في السنباطي لم يخل من نقد: "أشعر أن ألحانه تحترم التقاليد والآداب.. ولم أشعر أن ألحان السنباطي كسرت التقاليد.. أو تعدت على القواعد.. أو ثارت أو تمردت.. أو خالفت المنطق".

وفي آرائه السريعة عن الملحنين الآخرين نجد النقد والطرافة، فكمال الطويل "يحاول أن يفعل شيئًا ولكنه لم يصل إليه بعد"، والموجي فأعماله "إما أعمال جديرة بالتقدير الكبير وإما لا شيء"، أما حلمي بكر: "يلحن للموسيقيين فيهتم بأن يلفت نظر الملحنين أكثر من أي شيء آخر". 

كذب ناصر وصدق السادات

غنى عبد الوهاب في مديح عبد الناصر، كما غنى في مديح كل الأنظمة التي عاصرها، ولكنه لم يحب عبد الناصر، يقول عنه: "كان جمال عبد الناصر يخطب في الجمهور وهو غير مؤمن بما يقول، ويعلم بأنه يخدع الجماهير، ومع ذلك تصدقه الجماهير... وكان أنور السادات يخطب في الجماهير وهو مؤمن بما يقول ولا يكذب ولا يخدع ومع ذلك كانت الجماهير لا تصدقه... جمال عبد الناصر كان سيئًا ولكن من كانوا حوله كانوا يؤمنون به.. وكان أنور السادات خيرًا ولكن من كانوا حوله لم يؤمنوا به". 

https://www.youtube.com/embed/Y3bcL5aPq_Q

ولكن العدد الكبير من الأغاني التي لحنها عبد الوهاب في تمجيد عبد الناصر وفي الدعاية لنظامه وأفكاره، تدل على أنه شخصيًا كان من ضمن المحيطين بعد الناصر، والذين دعموا صورته بين الناس. 

ومع ذلك بدا من الأوراق أن انتقاد عبد الناصر له أسبابه الفكرية، فيعبر عبد الوهاب في الكتاب عن انتقاده للاشتراكية: "من يوم أن أصبحت السياسة سياسة جماهيرية وظهرت كلمة اشتراكية فسد الفن". ويشبّه عبد الوهاب الشيوعية والرأسمالية بالمستشفى والمنزل: "ربما كان المستشفى أدق نظامًا وأكثر راحة... ومع ذلك فالمنزل هو المكان الطبيعي للإنسان الذي يرتاح إليه".

كان عبد الوهاب متأثرًا بقصص الفن الذي يرعاه الملوك والأمراء، هو نفسه كان صنيعة هذه الرعاية، منذ بدأ مشواره على يدي أحمد شوقي. ولكن  ما حدث في يوليو/تموز 1952 اضطره أن يساير العهد الجديد في تصريحاته وفي ألحانه وأغانيه، حتي جاء السادات وبدأ في اتخاذ خطوات مضادة لاشتراكية يوليو 52 لينحاز له عبد الوهاب سياسيًا، ولكن المفارقة أن سياسات السادات الانفتاحية أثرت بالسلب علي جماهيرية أغاني عبد الوهاب ونوعية فنه، لأنها أتاحت الفرصة لظهور أذواق جديدة مختلفة خارج سيطرة الدولة سواء كانت أغان شعبية أو أغاني الفرق المتأثرة بالموسيقي الغربية.

في هذا الكتاب نتعرف على آراء عبد الوهاب التي أخفاها في حياته، والتي أكد الزمن صحة بعضها وعدم صحة بعضها، قد يكون الشاعر فاروق جويدة صاغها بأسلوب أدبي، ليجعلها أكثر جمالًا وتماسكًا، ومن الواضح أن جويدة فوجئ بهذه المهمة، فهو الشاعر والصحفي، ليست لديه خبرة سابقة في تحقيق المذكرات والأوراق الخاصة. 

تظهر في الأوراق الميول والأهواء الشخصية للموسيقار الكبير، وكذلك إحساس عبد الوهاب بنفسه وميله إلى رؤية العيوب والمميزات في الآخرين، في حين لا يرى إلا مزايا عبد الوهاب، ولكن في النهاية تظل الأوراق المنشورة في الكتاب هي الأوراق التي اختار فاروق جويدة أن ينشرها، لا كل ما كتبه واحتفظ به الموسيقار الكبير طوال حياته.