المصدر ويكيبيديا
سوريا العثمانية أواخر القرن التاسع عشر

عن ثوراتنا المنسيّة: عاميّات حوران ضد "الإقطاع المتذبذب"

منشور الاثنين 18 سبتمبر 2017

نشرت المنصّة بتاريخ 31  أغسطس/آب الماضي مقالًا مهمًا لمصطفى شلش بعنوان الأوراق المنسية لثورة "دودة القز" وثورتها المضادة يتحدث فيه الكاتب عن ثورة طانيوس شاهين في كسروان والتي اندلعت في لبنان خلال القرن التاسع عشر، وعن الآمال التي عقدها الفلاحون عليها في بداية انتفاضهم، والمآل المخيب الذي آلت إليه بعد أن نجحت سلطة الإقطاع باحتواء قائدها.

لم تكن أوراق ثورة دودة القز وحدها المنسية، فثمة العديد من الانتفاضات التي وقعت وانتهى بها الحال في طي النسيان، مثل انتفاضة جبل حوران ذات الإطار العامّي أيضاً إذ تتقاطع فيه مع عامية كسروان، ولا تبتعد زمنياً عنها الكثير، بل تأثرت بها نوعاً ما، إنما يبقى التمايز محصورًا بالإطار الجغرافي أو المكاني.

من أجمل الكتب التي لا يُمَّلُ من قراءتها هي: دراسة، أو ردّ المؤرّخ السوري رضوان رضوان، على مؤرخ الحركات الفلاحية الأول في سوريا أيضاً عبد الله حنا، الملحقة بكتاب الأخير (العاميّة والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران 1888م). يتحدّث حنا في كتابه عن انتفاضة قادها فلاحو مدينة السويداء السورية بوجه الإقطاع المتمثل بآل الأطرش حينها، وقبلهم آل الحمدان، ولم تخمد الانتفاضة إلا على يد الجيش العثماني الذي اقتحم المدينة، وابتنى له القلعة التي كانت منذ 1890 إلى اليوم مقرًا للعسكر على اختلاف طبعاتهم حسب المرحلة. أهمية هذا الكتاب توازي كتاب حديد وحرير لفواز طرابلسي، إنْ لم نقل إنهما يكملان بعضهما بعضًا.

الكتاب يأخذُ صيغة مرجعية عمومًا لمن يريد أن يعرف أكثر عن تاريخ نشوء المدينة (السويداء)، وطبيعة الصراعات الداخلية التي كوّنتها، وعوامل الثبات والتغيـّر فيها؛ إذ يستعين حنا بالمرويّات الشفوية (الشعر النبطي كان حاملاً أصيلاً للموروثات حينها)، وبمجموعة من الوثائق المدوّنة والعهود الخطيّة (على رأسها وثيقة الانتفاضة العامية في مجدل الشور).

أيضاً استعان بالرحلات الاستشراقية، كالرحلة التي قام بها أوائل القرن التاسع عشر المستشرق والرحّالة بيركهاردت، دون أن يتخذ من الاستشراق منهجًا بحد ذاته يتموضع فيه الشرق بوضعيّة المشاهَد من قِـبَل رقابة أورومركزية، أو في حيّز جغرافي تخيُّلي - شرقنة الشرق بتعبير إدوارد سعيد، ولكن وفق منهج ماركسي - لينيني اعتمده الدكتور حنا دائمًا. 

 

الحدود الإدارية الحديثة لمحافظة السويداء

 

وتُلاحَظ عدّة جوانب مهمّة في كتاب حنا هي من أهم ما قُدم في تحليل عاميات القرن التاسع عشر بشكل عام، كقومة حلب1821، ودمشق 1831، (وهنا لابدّ من الإشارة لتبني عبدالله حنا رأياً حول الحكم المصري لبلاد الشام في عهد محمد علي وابنه إبراهيم، ودورهما في خلخلة النظام الإقطاعي العتيق)، وصولاً إلى عاميّات لبنان المتعددة والتي توّجتها حركة البيطار شاهين الكبرى 1858 قبل تحولها إلى ارتكاسة طائفية، ومن ثم عقد مقارنات وتبيين آثارها فيما بينها، في فترة تشكّلت بها الهوية الوطنية.

كما تزداد الأهمية، مع كثرة الكتب التي تدرس المدينة (السويداء) انطلاقاً من دورها الفاعل في ثورة 1925 ضد الانتداب الفرنسي، ومجرياتها، مع إغفال تام لما قبلها، أو القطع بين الحدثين، إضافة إلى سيطرة نوع من السرد الغنائي (الذي ينحاز للذات ويفتقد الموضوعية) في تناول أنماط الحياة والتفكير السائدة حينها.

أمّا في الرد عند رضوان، فيمكن أن نلاحظ عدّة جوانب نقديّة للنظرية الماركسية (التي تفسّر التاريخ والسياسة بالعوامل الاقتصادية) فعلى ماذا اعتمد رضوان بالمقابل؟ وعلى أيّ العوامل بنى قراءته؟

ينظر رضوان للعوامل الجغرافية كإطار مكاني لحركة أيّ جماعة بشرية، ويرى في تلك العوامل مُحفّزاً لخلق تحدٍّ في نفسية الجماعة، (أشبه ما تكون بصراع البقاء ضد الطبيعة) ومن ثم ربط التحدي بردّ الفعل الصادر [من ذات الجماعة] أي الاستجابة، وبهذا يكون رضوان قد أخذ بأسباب النظرية التي وضعها  المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي والتي تحمل اسم  نظرية التحدي والاستجابة.

أضف إلى ذلك، أنّ توينبي شدّد على ظاهرة الارتحال/الهجرة من مكان لآخر، وهذا يندرج  بالضرورة ضمن العوامل الجغرافية، كما أكّد أهمية وجود قلّة من الناس موجِّهة أو قائدة للجماعة، تستجيب بنجاح لصعوبات التحدي المفروض. 

هذا ما استعاره رضوان عندما وصف حالة القبائل المهاجرة إلى جبل حوران قُبيل العاميّة بـ"مجتمع نخبة" وأهم الأماكن التي انطلقت منها حركة الهجرة هي جبال لبنان بعد حركة طانيوس شاهين، ولهذا دورٌ حاسمٌ برأيه في تكوين المدينة، وسيرورة العاميّة خلال عشرين عاماً (1868- 1888)، خاصّة من ناحية القيادة. 

مع ذلك لم يقطع رضوان في نقده كُلّ الصلات مع العوامل الاقتصادية بقدر ما حاول أن يضيف إليها؛ وبالتالي لم يسلّم بنظرة حنّا للمجتمع العربي في القرن التاسع عشر على أنّه مجتمع إقطاعي بالمفهوم الأوروبي الصرف للكلمة. بل إن إقطاعيته كانت تعيش حالة تذبذب وانتقال من نمط إنتاج لآخر.

لم يكن هناك قائد لعاميّة حوران على غرار طانيوس شاهين، بل قيادات موزّعة، وبالتالي أصبح أمرُ استيعابها صعباً، فكان الحل الوحيد الذي جوبهت به من قبل العثمانيين والإقطاعيين الذين طُردوا إلى خارج المدينة هو النار والعنف.

لكن وعلى الرغم من انكسارها عسكريًا كسبت الكثير قياسًا إلى مفاهيم عصرها وإمكانياتها، إذ عاشت مرحلة جمهورية على غرار كومونة كسروان، وجمهورية شيخ العرب همّام في صعيد مصر، وحقّقت من ناحية اقتصادية واجتماعية تقدّمًا للفلاحين حيث نصّ الاتفاق الأخير بين الفلاحين والجيش العثماني على امتلاك الفلاحين لأرضهم ملكية مطلقة وتامّة، وتنازل الإقطاعيين من آل الأطرش عن ثُمن مساحة أراضيهم، وتتحدّد ملكيتهم بـ14 فداناً من أصل 128 من مساحة أرض السويداء، وإلغاء صلاحيات الشيخ أو الإقطاعي بالترحيل أو السخرة أو جباية الضرائب، يدفع الشيخ ديّة القتلى الذين سقطوا في المعارك الأخيرة، ومن بعدها يعود الشيوخ المطرودون إلى قراهم على هذه الشروط فقط.

وبذلك تكون هذه الانتفاضة المنسية قد كسبت موقعاً متقدماً للفلاحين ولم يتم سحقها أو احتواؤها كما حدث مع انتفاضات أخرى مشابهة.