من الفيديو المصاحب لتقرير هيومان رايتس ووتش - الموقع الرسمي للمنظمة

"الاغتصاب السياسي" .. مانفيستو قهر الشعوب

منشور الأربعاء 6 سبتمبر 2017

 

في يوم عاصف، توقفت سيارة أمام بيت بولينا وجيراردو إسكوبار، وترجل منها الزوج بصحبة رجل غريب ضئيل الجسد بادي التهذيب، أنقذ زوجها من أن يبقى عالقًا في العاصفة. من الوهلة الأولى توترت بولينا من صوت الغريب الساحر، كان في صوته رنة تعرفها وتميزها منذ فترة بقائها تحت الأرض في أحد المعتقلات التي كان يُسجَن ويعذَّب فيهاالنشطاء السياسيين المعارضين لنظام الحكم. تكتشف بولينا في صوت الدكتور ميراندا الطبيب المهذب، صوت طبيب المعتقل الذي كانت مهمته تتلخص في التأكد من أن التعذيب -وإن طال- لن يُسْلِم المعتقل إلى الموت، حتى يتسنى انتزاع المزيد من الاعترافات منه. يكذِّبها الضيف، ويُكذِّبها زوجها، تضغط بولينا أكثر، تسأل الطبيب: هل تمتعت باغتصابي على أنغام مقطوعتي المفضلة؟ 

تحاكم بولينا مغتصبها، وتدفع زوجها لأن يكون محاميًا له، ينهار الطبيب ويعترف بجريمته، ويقر بأنه قد استمتع بتعذيبها واغتصابها، ويبدي أسفه لا على جريمته؛ بل لزوال النظام القديم. 

الملصق الدعائي لفيلم

الحكاية التي تقدمها مسرحية الموت والعذراء Death and the maiden لأرييل دورفمان، والتي تحولت إلى فيلم ناجح بالاسم نفسه للمخرج رومان بولانسكي، تدور أحداثها في دولة مجهولة في أمريكا الجنوبية، حيث سيطرت نظم عسكرية على بلدان القارة لفترة طالت وامتدت حتى نهاية الثمانينات، سجلت ملفات المنظمات الدولية ونشطاء حقوق الإنسان خلالها انتهاكات واسعة بحق المعارضين، تبدأ بالإخفاء القسري والقتل الجماعي، ولا تتوقف عند الاغتصاب الممنهج لكسر المعارضين وإكراههم على الإدلاء باعترافات. 

اليوم أصدرت منظمة هيومان رايتس ووتش تقريرًا يدين السلطات المصرية باستخدام الاغتصاب والانتهاكات الجنسية كوسيلة تعذيب وقمع للمعارضين المسجونين، أو "المعتقلين" دون حكم قضائي، ليضيف هذا التقرير إلى تقارير دولية سابقة حول ممارسات الإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب، ما يؤهل مصر - إن صحت تلك الاتهامات- لأن تكون مسرحًا لحكاية شبيهة بحكاية بولينا إسكوبار. 

ليست الإدانة الأولى

اعتبرت الخارجية التقرير "مليء بالمغالطات" و"حلقة جديدة من حلقات الاستهداف والتشويه المتعمد من جانب تلك المنظمة.. التي تعبر عن مصالح الجهات والدول التي تمولها".

تقرير هيومان رايتس ووتش الصادر اليوم، اتهم قطاع الأمن الوطني بوزارة الداخلية بتعذيب "المعتقلين السياسيين" - على حد وصف التقرير- "بشكل روتيني بأساليب تشمل الضرب، الصعق بالكهرباء، وضعيات مجهدة، وأحيانا الاغتصاب".  

ونشر التقرير شهادة لمعتقل تعرض مرارًا للانتهاك الجنسي على يد عناصر الأمن خلال فترة التحقيق معه، لإكراهه على الاعتراف بجريمة. وقال آخر إن عناصر الأمن هددوه بالاغتصاب. وقال جميع الشهود الذين قابلتهم هيومان رايتس ووتش إنهم أبلغوا وكيل النائب العام المكلف بالتحقيق في قضاياهم بانتزاع الاعترافات المقدمة منهم تحت التعذيب، وفي معظم الحالات لم يهتم وكيل النيابة بالأمر. 

https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2FHRWArabic%2Fvideos%2F1463089213746670%2F&show_text=0&width=560

ليس هذا هو التقرير الأول الذي يتهم السلطات الأمنية في مصر باستخدام الانتهاكات الجنسية في تعذيب المحبوسين من السياسيين والجنائيين، لإكراههم على الإدلاء باعترافات محددة مسبقًا. فقد نشرت المنظمة نفسها تقريرًا يعود تاريخه لعام 1992 بعنوان "خلف الأبواب المغلقة"، عرضت فيه لوقائع انتهاك الجنسي لمعارضين (معظمهم من الإسلاميين)، أو التهديد باغتصاب نساء أسرهم لإكراههم على الإعتراف والإدلاء بمعلومات وأسماء. 

وقالت هيومان رايتس ووتش إن مصر هي الدولة الوحيدة التي تخضع لتحقيقين عموميين من قِبل "لجنة مناهضة التعذيب" التابعة للأمم المتحدة. وتلك اللجنة الأممية قالت في يونيو/حزيران 2017، إن الوقائع التي جمعتها اللجنة في تحقيقها "تؤدي إلى استنتاج لا مفر منه، وهو أن التعذيب ممارسة منهجية في مصر". 

واشتهر فيديو قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير لسائق ميكروباص (سيارة نقل جماعي خاصة)، يتعرض للاغتصاب بعصا خشبية لإكراهه على الإدلاء باعتراف، وشهد من قابلتهم هيومان رايتس ووتش أنهم تعرضوا للاغتصاب بعصا خشبية أيضًا أو هُددوا بأن يتم اغتصابهم باستخدامها. 

في مايو/ أيار 2015، صدر تقرير عن الفيدرالية الدولية من أجل حقوق الإنسان، يتهم القوات الأمنية باستخدام التعذيب والانتهاكات الجنسية كممارسة منهجية ضد المعارضين. وقال التقرير إن "العنف الجنسي" يخنق المجتمع المصري، ويسهم في زيادة حدته ووتيرته أن ممارسيه يتمتعون بحصانة كاملة تعفيهم من العقاب أو مجرد المساءلة، ما يشي - في رأي الحركة- بكون الانتهاك الجنسي للمعارضين "استراتيجية سياسية تستهدف خنق المجتمع المدني وإخراس المعارضة بشكل تام".

هيومان رايتس ووتش نفسها، نشرت تقريرًا حول استخدام العنف الجنسي في المجتمع المصري خلال عملية التحول السياسي في 2013، وألمح التقرير إلى تساهل السلطات مع العنف الجنسي كبوابة لتسهيل السيطرة على المجال العام. 

لكن الخارجية المصرية أصدرت مساء اليوم 6 سبتمبر/ أيلول، بيانًا رسميًا عبر صفحة المتحدث الرسمي باسمها للتعقيب على تقرير هيومان رايتس ووتش الصادر صباح اليوم نفسه، واتهمت في بيانها المنظمة الحقوقية الدولية بأنها "تحمل أجندة مسيَّسة وتوجهاتها منحازة". كما اتهمت الخارجية المنظمة بأنها "توصي بإجراءات تفتئت على سيادة الدولة ومؤسساتها الوطنية". وطالبت HRW في تقريرها الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن يوجه بتشكيل مكتب خاص في وزارة العدل للتحقيق في جرائم التعذيب بحق المواطنين، يعمل فيه "مهنيون مستقلون"، وتوجيه وزارة الداخلية لوقف احتجاز المواطنين والتحقيق معهم خارج أماكن الاحتجاز الخاضعة لرقابة القانون، كمقار الأمن الوطني والسجون ومعسكرات الاحتجاز غير المسجلة قانونًا.

كما طالبت المنظمة بقبول جميع طلبات المراقبة والزيارة من مفتشي الأمم المتحدة دون مزيد من التأجيل، وطالبت المنظمة النائب العام بتفعيل الرقابة القانونية للنيابة على أماكن الاحتجاز، وقيام وكلاء النيابة بالتفتيش المفاجئ على تلك الأماكن لضمان عدم انتهاك حقوق المواطنين وحرمة أجسادهم فيها. 

واعتبرت الخارجية أن التقرير "مليء بالمغالطات" وأنه "حلقة جديدة من حلقات الاستهداف والتشويه المتعمد من جانب تلك المنظمة المعروفة أجندتها السياسة وتوجهاتها المنحازة، والتي تعبر عن مصالح الجهات والدول التي تمولها".

واتضح من البيان أن الرد جاء بعدما تلقت وزارة الخارجية في مصر استفسارات من المراسلين والصحفيين الأجانب بشأن التقرير. واستنكر المستشار أحمد أبو زيد المتحدث باسم وزارة الخارجية لجوء الشهود الذين اعتمدت عليهم هيومان رايتس ووتش للمنظمة، عوضًا عن اللجوء للمجلس القومي لحقوق الإنسان. 

https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2FMFAEgypt%2Fposts%2F1671083419630264&width=500

تاريخ قديم

للبشرية تاريخ طويل من استخدام الاغتصاب كأداة للقمع وفرض السيطرة أو إعلان الانتصار العسكري على الخصوم السياسيين. 

                                  

اغتصاب نساء سابين- جاك ستيلا

تحمل التوراة مقاطع عديدة، تحكي عن وقائع ما بعد الانتصار العسكري لبني إسرائيل على أعدائهم ممن يسكنون الأراضي التي وعدهم بها الرب، في سفر العدد يسمح نبي الله موسى لبني إسرائيل بأن يتخذوا لأنفسهم الأبكار من نساء مَدْيَن ممن لم يعرفن رجلاً، وأن يقتلوا ما عداهن. الواقعة نفسها تُعد إحدى التعاليم التي مورست لوقت طويل منذ عهد النبي محمد (ص) وحتى نهاية عصر الفتوحات الإسلامية، حيث أبيح للمسلمين المنتصرين أن يتخذوا لأنفسهم نساء أعدائهم سبايا كي يتمتعوا بهن. وإن كانت الأديان الثلاثة الكبرى رغم ذلك، تدين فعل الاغتصاب ضمن تعاليمها.

وفي غير الأديان الإبراهيمية، يسجل التاريخ وقائع عديدة لاغتصاب نساء الأعداء إعلانًا للانتصار السياسي، كواقعة اغتصاب نساء سابين على يد الرومان، وهي من الوقائع التي ينظر إليها باعتبارها مؤسسة للدولة الرومانية، حيث قاتل أتباع مؤسس الدولة رجال عشيرة سابين ليأخذوا نساءهم لأنفسهم كزوجات لتأسيس الدولة. وإن جادل كثير من الباحثين في أن وقائع الاعتداء الجنسي لم تحدث واكتفى الرومان باختطاف النساء اللائي وافقن على الزواج منهم. وفي قانون الأمم الروماني كذلك، ما يطابق التعاليم الإبراهيمية بالترخيص بسبي نساء الأعداء واستخدامهن كغنيمة حرب إن لم يستسلم الأعداء دون قتال.

في دراستها المنشورة عام 2009 بعنوان "اغتصاب الرجال وحقوق الإنسان"، تُفصِّل الباحثة لارا ستمبل تاريخًا يتم تجاهله من تعريض الرجال للاغتصاب والعنف الجنسي في حالات الحرب، وكذلك في حالات المعارضة السياسية. دون أن تغفل واقعة سجن أبو غريب التي شهدت انتهاكات واسعة منها ما كان ذو طبيعة جنسية ضد الضحايا من السجناء العراقيين. 

بحسب الدراسة فإن 76% من السجناء السياسيين من الرجال في السلفادور خلال فترة الثمانينات تعرضوا للاغتصاب على يد النظام الحاكم، خلال احتجازهم بتهم تتصل بمعارضتهم للنظام. وهو ما تعرض له أيضًا 80% من الرجال المحتجزين في معسكرات الاعتقال بسراييفو خلال الحرب الأهلية في يوجوسلافيا. 

اغتصاب المعارضين السياسيين رجالاً ونساءً كان من الممارسات المعروفة أيضًا عن نظام حكم ديكتاتور شيلي الأسبق أوجستو بينوشيه، وهذا النظام تحديدًا يملك ملفًا كبيرًا من استخدام الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب، بالإضافة لجريمة استخدام الاغتصاب كسلاح لقهر المعارضين وانتزاع الاعترافات منهم كشكل من أشكال التعذيب. نفس كتيِّب التعليمات - غير المنشور- في التعامل مع المعارضين السياسيين، استخدم في الأرجنتين والسلفادور.

 

أوجستو بينوشيه

في 16 أكتوبر/ تشرين ثان 1998، ألقت سكوتلانديارد القبض على بينوشيه الذي كان يقضي سنوات ما بعد الحكم متنعمًا في لندن، بعد إقصائه عن الحكم بانتخابات أجبرته على الرحيل عام 1990، بعد 17 عامًا من السيطرة المطلقة على الحكم في شيلي.

 قُدِّم بينوشيه للمحاكمة وفقًا لمذكرة اعتقال صادرة في أسبانيا، استصدرها محامو ضحاياه من المعارضين السياسيين الذين تعرضوا للاعتقال والتعذيب والاغتصاب، بعدما فشلوا في ملاحقته قانونًا في شيلي، لأن بينوشيه وضع -قبل ترك الحكم- قوانين تكفل له ومعاونيه الحماية التامة من الملاحقة القانونية داخل البلاد.

قدم محامو ضحايا بينوشيه للمحكمة توثيقًا بكثير من الجرائم التي ارتكبها نظامه العسكري المدعوم من الولايات المتحدة في حق معارضيه، والمقدرة بحوالي 2000 حالة قتل وإخفاء قسري، بالإضافة لآلاف أخرى من حالات التعذيب والاغتصاب السياسي. 

بعد عامين، أفلت بينوشيه من العقاب، بعدما قالت تقارير طبية أنه لم يعد في حالة ذهنية تسمح بإخضاعه للمحاكمة، بل وعاد الديكتاتور السابق ليقضي آخر أيامه في شيلي التي ارتكب فيها جرائمه. وبقى في شيلي ست سنوات إلى أن مات في 2006 بالمستشفى العسكري في سانتياجو.  

لم يتضح بعد إن كانت السلطات المصرية ستستطيع تجاوز الاتهامات التي فجرتها هيومان رايتس ووتش، التي تتمتع بمصداقية دولية لم تنل منها الاتهامات المتكررة من الحكومة المصرية لها بكونها منظمة مشبوهة تتلقى تمويلات من دول تسعى للنيل من مصر، كما جاء في بيان الخارجية اليوم.

لكن الاتهامات المتكررة للحكومة المصرية بانتهاك حقوق وأجساد المعارضين السياسيين، تجعل صورة مصر تقترب يومًا بعد يوم من صورة تلك الدولة المجهولة في أمريكا الجنوبية التي دارت فيها أحداث مسرحية الموت والعذراء، وإن كانت تلك الدولة المتخيلة نجح فيها ضحايا الاغتصاب في انتزاع الاعتراف ممن أجرموا في حقهم، لكن هذا نادرًا ما يحدث على أرض الواقع.