فليكر: Jeremy McConnell، برخصة المشاع الإبداعي
سجائر

تجارة التبغ: دبلوماسية الموت والدخان

منشور الثلاثاء 12 سبتمبر 2017

 تُفَضِّل شركات التبغ العمل في مناخ منعدم القوانين، حيث لا تزعجك الحكومة بشأن التحذيرات الصحية ومحتوى النيكوتين القاتل.

"هذا البلد به فساد، فقر، حرب، إذًا هو مناسب للاستثمار". 

هذا هو لسان حال رجال المال والموت في العالم، فمع انحسار معدلات التدخين في الغرب وزيادة الضرائب عليها، والنجاح النسبي للحملات الطبية الدعائية ضد مخاطر التدخين والتبغ، غيرت الشركات المهيمنة على سوق التبغ سياساتها، وبدأت تتلاعب بثغرات القوانين في أوروبا وأمريكا لتمرير بضائعها والتركيز على بلدان العالم الثالث الفقيرة، والتي تعاني من الصراعات الداخلية، بهدف فتح أسواق جديدة والحصول على مستهلكين جدد. 

في مقابل تضييق العالم الأول، تقوم شركة بريتيش أميريكان للتبغ BAT، أكبر شركات التبغ في العالم، بتعزيز مبيعات سجائرها في بعض البلدان التي مزقتها الحروب وغير المستقرة في أفريقيا وآسيا، بينما يُقتَل المدنيون وتُدَمَّر المدن جراء أعمال العنف والمجاعات، وتعاني الحكومات من أزمات مالية، تتبع شركة BAT كل الطرق المتاحة سواء أكانت مشروعة أم لا، لتنمية أسواقها.  في الأيام الماضية قام مسؤولون في وزارة الخارجية البريطانية بالضغط على "بنجلاديش" - أحد أفقر دول العالم- من أجل تجنب دفع شركة BAT الضرائب المستحقة عليها. اتُهمت أليسون بليك - المندوبة السامية البريطانية لدى بنجلاديش - بالضغط على حكومة بنجلاديش لرفع الضرائب عن الشركة، حيث تتهرب شركة BAT من تسديد 170 مليون دولار للحكومة البنجلادشية بدعوى أنها تستثمر في هذا البلد من 105 سنة وقدمت له الكثير وهي نفس الحجج التي تسوقها أليسون لدعم الشركة في عدم دفعها لهذه الأموال.

ووفقًا لجريدة الجارديان البريطانية، أثار هذا التدخل الدبلوماسي الغضب بين المنظمات الصحية والجهات الفاعلة في المجتمع المدني، سواء في المملكة المتحدة أو في بنجلاديش، والتي ترى أن الشركة تنتهك قواعد منظمة الصحة العالمة، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها الدبلوماسية البريطانية للدفاع عن الشركة، إذ قامت في عام 2015 بالضغط على الحكومة الباكستانية ووزارة ماليتها لمنع أي مقترحات بقوانين تخص مكافحة صناعة التبغ. 

وفي وقت سابق طالبت شركة BAT وغيرها من شركات التبغ متعددة الجنسيات حكومات ثماني دول على الأقل في أفريقيا بإزالة او تخفيف القوانين والقواعد الخاصة بالتدخين والتي يتم تطبيقها في الغرب والتي أنقذت ملايين الأشخاص، وفي حالة عدم استجابة تلك الدول، تتهمها الشركات بأنها تتجاوز قوانينها الخاصة.

تقاتل BAT من خلال المحاكم لمنع الحكومات الكينية والأوغندية من وضع لوائح للحد من الضرر الناجم عن التدخين، تلك اللوائح المطبقة في أوروبا، إذ تعزز شركات التبغ العملاقة أسواقها في أفريقيا مستفيدة من النمو السريع بين الشباب ومن الزيادة السكانية في تلك الدول. 

وبحسب بول هوبكنز، وهو موظف سابق في شركة BAT تفضل الشركات العمل في مناخ منعدم القوانين، حيث لا تزعجك الحكومة بشأن التحذيرات الصحية ومحتوى النيكوتين القاتل، بالإضافة إلى ذالك لا تشغل الشركات نفسها بدفع جمارك عالية، ويقتصر الأمر على الدفع للميليشيات المحلية لحماية العمال ونقل السجائر في أنحاء الدول المفتتة. 

 

أينما كنتم تصلكم السجائر

تستخدم شركة BAT استراتيجية تعتمد على حب الناس للعلامات التجارية الغالية، تُدخِل الشركة علامات تجارية رخيصة في البداية يستطيع الناس شراءها، ثم تُدخِل بعد ذلك علامات أغلى وأكثر ربحًا للشركة.

عمل بول هوبكنز في فروع شركة BAT في أفريقيا لمدة 13 عامًا، حتى اعتبرته الشركة زائدًا عن الحاجة واستغنت عنه في ديسمبر/كانون الأول عام 2015، حاول هوبكنز مقاضاة الشركة بسبب الفصل التعسفي، ولكن القضاء البريطاني اعتبر أن عقده خاضع للقانون الكيني وليس الإنجليزي، وبذلك لا يستطيع الاستمرار في دعوته في بريطانيا.

ووفقًا لتحقيق الجارديان كان السبب الحقيقي لفصل هوبكنز هو كشفه للسلوكيات غير الأخلاقية التي تقوم بها الشركة في أفريقيا. وعرضت الجريدة الوثائق التي حصل عليها هوبكنز أثناء عمله. 

تعرض الوثائق كيف يتم توزيع كراتين السجائر في أكياس سوداء على تجار سريين في الصومال، وذلك بعد أن حظرت حركة الشباب الجهادية التي تنشط في البلد مبيعات السجائر منذ أواخر عام 2008، وهددت بمعاقبة كل من يبيعها طبقًا للشريعة الإسلامية. تُعد الصومال سوقًا مربحة لـ BAT، إذ تستخدم الشركة استراتيجية تعتمد على حب الناس للعلامات التجارية الغالية، يذكر هوبكنز للجارديان أن الشركة تُدخِل علامات تجارية رخيصة في البداية يستطيع الناس شراءها، ثم تُدخِل بعد ذلك علامات أغلى وأكثر ربحًا للشركة. 

كما تعرض الوثائق أن الشركة مارست الاستراتيجية نفسها في جنوب السودان، حيث قررت الشركة إطلاق أرخص العلامات التجارية في الدولة الجديدة، وذلك قبل يومين فقط من حصولها على الاستقلال، كان الهدف توفير نمو مستدام للمبيعات مقابل أقل استثمار ممكن. 

وفي الشرق الأوسط أيضًا عززت BAT مبيعاتها داخل ما تصفه بـ "الأسواق المتقلبة" - وهي البلدان الخارجة من حروب أو تمر بصراعات مثل "سوريا". في أكتوبر/تشرين الأول 2011 وطبقًا لإحصائيات BAT ما زال الشرق الأوسط يحقق نتائج ربح متميزة في بيئة متقلبة. وشهدت مبيعات سجائر دانهيل نموًا كبيرًا في منطقة مجلس التعاون الخليجي والعراق وإيران .

ففي العراق التي تشهد حرب مع التنظيمات الإرهابية شهدت سجائر كينت  (العلامة التجارية لـ BAT)  نسبة نمو مذهلة قدرت بـ 80%. بينما في سوريا، على الرغم من الظروف التجارية الصعبة للغاية، تضاعفت معدلات بيع كينت.

رحلة علبة السجائر

تشير الوثائق، التي نُشِر فحواها في تحقيق بموقع نيو ماتيلدا الأسترالي، إلى بلدة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية ليست على أي خريطة، أُنشئت من أجل إنتاج ومعالجة أوراق التبغ، حيث تم تسليم الملايين من الدولارات لتُدفَع للمزارعين والموظفين العاملين في هذه القرية، وتُحمَل لهم سرًا للهروب من أي مراقبة دولية أو محلية.

ويقول بول هوبكنز ، مصدر التسريب، وكان جنديًا سابقًا في وحدة القوات الخاصة للجيش الأيرلندي قبل أن يعمل في BAT، أنه طُلب منه في عدة مناسبات أخذ ملايين الدولارات نقدًا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية. ويقول إنه كان متجهًا إلى بلدة أوزي في الشمال الشرقي، وهي قرية لا تظهر على الخريطة.

بُنيت قرية "أوزي" في الخمسينيات من القرن العشرين، ويشتغل معظم سكانها في جمع التبغ، وعادة ما تقوم شركة أمنية خاصة باستلام النقود وإيصالها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية لدفع المبالغ المطلوبة في "أوزي"، ونقل ما يتم تصنيعه من ورق تبغ عبر أوغندا إلى كينيا للتصنيع، أو على الأقل هذا ما حدث مع هوبكنز في فترة عمله لـ BAT من 2001 إلى 2014.

يقول هوبكنز إنه حين توجه إلى مدينة أروا الأوغندية، قامت شركة أمنية تعمل لصالح BAT بتزويده بمسدس. وبالقرب من الحدود الكونغولية، طُلب منه استئجار رشاش لبضعة أيام.

لكن هوبكنز يرى أن أفضل حماية له كان المزارعون البالغ عددهم أربعين ألف، الذين لا يريدون أن يؤذيه أحد حتى تصل إليهم أموالهم، وأضاف أنه يحمل أيضًا بعض الدولارات في أكياس، مع مواد ترويجية لشركة BAT، مثل القبعات والأقلام التي يتم تسليمها للمتمردين هناك، حيث كانت الكونغو تعاني من الحرب الأهلية. 

 

اتهامات ومبررات

يقول ماثيو .ل. مايرز، رئيس حملة لحماية الأطفال من أضرار التبغ، للجارديان "إن الادعاءات الموجهة ضد شركة BAT تعكس أن الشركة مستعدة لاستغلال أي مواطن مهما كان معرضًا للخطر من أجل كسب المال  بغض النظر عن العواقب".

وكلما تراجعت مبيعات السجائر في جميع أنحاء العالم، ترى BAT في الدول المُدمرة والمليئة بالصراعات أسواقًا صالحة لنمو مؤشر مبيعات منتجاتها القاتلة. فبالنسبة لشركة لا تهتم إلا بالأموال وضمان الأرباح المستقبلية فإن البلدان التي تعاني من عدم الاستقرار توفر فرصة فريدة للاستثمار.

وفي بيان للرد على كل هذه الاتهامات قال متحدث باسم الشركة: "إن الشركة تأخذ أمر تسويق منتجاتها على محمل الجد ولديها مبادئ تسويقية صارمة لضمان أن منتجاتها يتم تسويقها في إطار الالتزام بجميع القوانين واللوائح ذات الصلة بتجارتها في 200 سوق". 

ولكن مع ذلك يجري التحقيق مع مسؤولين دبلوماسيين في المملكة المتحدة في دعاوى رشوة وفساد متعلقة بشركات صناعة التبغ وخصوصًا في ظل تحذيرات دولية من تستر الحكومات على الأعمال القذرة لمثل هذه الشركات. إلا أن جماعات الضغط السياسي والفئات ذات المصلحة تدافع عن موقف تلك الشركات باعتبارها شركات بريطانية، ويجب أن تتحرك السياسة البريطانية للدفاع عنها وحماية مصالحها.

بالنسبة لشركة BAT ومَن على شاكلتها من الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات كل شخص هو مستهلك محتمل وكل بلد يمكن استغلالها، وخصوصًا الدول الممزقة، وذلك لأن القواعد والقوانين العادية لا تُطبق فيها، ويمكن تجنب الضرائب، وما زالت السجائر يمكن بيعها بشكل مربح. وعلى حد تعبير آنا جيلمور، أستاذة الصحة العامة في جامعة باث، والمركز البريطاني لدراسات التبغ والكحول، للجارديان: "طالما أن المال سيأتي، فأي شيء آخر يمكن أن يذهب".