صورة أرشيفية

مستقبل التعليم في يد "الروبوت"

منشور الخميس 31 أغسطس 2017

هل قادتك عملية البحث إلى صفحة مكتوبة بلغة غريبة فبادر جوجل إلى إنقاذك بترجمتها آليًا إلى العربية أو الإنجليزية؟ هل فقدت طريقك ذات مرة فساعدتك Siri بصوتها اللطيف عبر هاتفك المحمول، مستعينة بتطبيقات التوجيه الآلي  GPS؟

كلما حدث ذلك فاعلم أن ما أنقذك هو تطبيقات الذكاء الصناعي، التي صارت تحيط بنا منذ فترة ليست بالقصيرة. لكن ما حدث في الأونة الأخيرة هو تسارع في وتيرة التطور في هذا المجال، ووصوله لنتائج مبهرة فاقت التوقعات، حتى أنه صار من الصعب متابعة كل ما يحدث من تطورات يومية فضلا عن فهمه، فتصاعدت الأصوات المتخوفة والمتشككة في مدى أمان هذه التطورات وأثرها على حياة البشر. فالإنسان عدو ما يجهل. 

اقرأ أيضًا: الذكاء الصناعي.. عهد جديد من البطالة

لكن بعيدًا عن التخوفات التي بثتها مبكرًا أفلام وروايات الخيال العلمي، فتطبيقات الذكاء الصناعي تثبت كل يوم أنها قادرة على جعل حياة البشر أسهل في مجالات متعددة، كما أنها ستجبر البشر على مراجعة الطريقة التي يتعاطون بها مع العديد من المجالات، وعلى رأسها مجال التعليم. 

يقول الدكتور برنارد شندلهولزر مدير التكنولوجيا والخبير بتقنيات التعلم الآلي في جوجل، خلال محاضرة التي ألقاها في منتدى تيد للأفكار المتميزة؛ إنه على الرغم من أن الذكاء الصناعي ينذر بإختفاء وظائف كثيرة؛ إلا أنه يبشر بطلب متزايد على نوعية أخرى من الوظائف التي تقوم على حل المشكلات، والتي تتطلب مهارات تتضمن القدرة على تطبيق المعرفة عمليا، وليس مجرد حفظ المعلومات. "سيتطلب ذلك تغيير نظام التعليم تمامًا؛ فنظم التعليم الحالية قائمة على قياس قدرة الطالب على التحصيل وليس التطبيق".

يؤمن شندلهولزر إن الواقع الجديد سيفرض نوعية تعليم جديدة، تُدعى "تصميم التفكير"  Design Thinking  ويقصد بها البرامج التي تُعنى بتعليم الطالب كيف يفكر؟ باعتبار "مهارة التفكير" نفسها هي ما يحتاجه كل إنسان أيًا كان تخصصه أو مجاله. 

من خلال هذه التقنية؛  يتعلم الطالب كيف يرصد المشكلة ويعرِّفها تعريفًا صحيحًا قبل أن يفكر في حلول لها؛ فكثيرا ما ننقاد لحلول خاطئة نتيجة نقص القدرة على تشخيص المشكلة الحقيقية في الواقع العملي.

وفي هذا النوع من التعليم ستختلف كذلك طريقة تقييم الطلاب. فعوضًا عن محاسبتهم على قدر معرفتهم بالاجابة "الوحيدة" الصحيحة، يتم قياس مدى قدرتهم على اكتساب المهارات المطلوبة حتى لو فشل أحدهم عدة مرات في الوصول إلى حل المشكلة.

أعطى برنارد مثالا على هذه النوعية من التعليم بدورة تدريبية فريدة من نوعها تقدمها جامعة ستانفورد منذ أواخر الستينات باسم "حلول خلاقة للمشكلات العملية"، حيث تجمع ممثلين من الصناعات المختلفة وقطاع الأعمال مع الطلبة والأساتذة، ويطرح ممثلو الشركات مشكلات حقيقية يعانون منها، ويُطلب من الطلاب حلها تحت إشراف وتوجيه الأساتذة خلال 10 شهور هي فترة الدورة. هو تدريب عملي مشوق يحظى بإهتمام الدارسين. ومخرجاته فريدة ومتنوعة، قد تكون حلولاً لمشكلات حقيقية،  أو أفكارًا لتأسيس شركات جديدة، أو مقترحات بمنتجات مختلفة. ويكتسب الطلاب من خلال هذه الدورة مهارات عملية هامة.                                      

طلاب جامعة ستانفورد في ورشة تصميم التفكير 

تلفت "سينثيا بريزيل" مدير برنامج الروبوتات الشخصية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا النظر إلى أنه يمكن إستخدام الذكاء الصناعي للإرتقاء بالبشرية وتحقيق مقاصد نبيلة. فعلى سبيل المثال يمكن استغلال قدرات الذكاء الصناعي الفريدة على تكييف المادة التعليمية وطريقة الشرح بما يناسب الطالب أو ما يطلق عليه "التعليم المُصَمَّم لشخص/ التعليم المُشَخْصَن Personalized Learning " في محو الأمية بالدول الفقيرة من خلال برامج تعليمية مضمونة النتائج، ولابد من عمل منظم يشارك فيه كل المعنيون من الأفراد وقيادات قطاع التكنولوجيا في العالم، وصولا للحكومات، وذلك من خلال برامج التعاون الدولي. تقول سينثيا إن الذكاء الصناعي أداة فعالة جدًا للتعامل مع الكثير من مشاكل العالم المزمنة.

 ولعل في قصة سكوت بولاند الملهمة ما يجعلنا نستوعب أهمية وأثر  "التعليم المُشَخْصَن Personalized Learning" الذي توفره تقنيات الذكاء الصناعي في تطوير التعليم.

ولد سكوت بمشكلات وراثية في المخ، أدت إلى تأخره في الكلام والمشي وفي كل مراحل النمو. حتى عندما التحق بالمدرسة؛ كان بطيء التعلم وقيل لوالدته أنه لن يكمل تعليمه. سكوت الآن حاصل على الدكتوراة، ومتخصص في عدة علوم ومؤسس لعدة شركات.

اكتشف سكوت بالصدفة -كما يقول- العوامل الأكثر تأثيرا في التعلم، والتي إذا ما طُبِّقت فيمكنها حل مشكلات التعثر في التعليم لملايين الطلاب كما فعل هو.

هذا الأكتشاف توصل إليه بدراسة "علم الأعصاب" والذي فهم منه أن هناك فجوة وعدم توافق بين الطريقة التي يتعلم بها المخ فعليًا -والتي تختلف من شخص لآخر- والطريقة التي يتم بها التدريس وتسير وفقها العملية التعليمية، وهي ثابتة لا تتغير.

يقول سكوت "إن لكل عقل أسلوبه ومفاتيحه، والعملية التعليمية تقدم أسلوبًا واحدًا لا يناسب الجميع، ثم تتهم الأغلبية بالتعثر!"

 هنا يتفوق الذكاء الصناعي بقدرته على متابعة الطلاب فردًا فردًا، وفهم الأسلوب الذي يعمل به عقل كل طالب على حدة، ثم تكييف طريقة التعلم بما يطابق أسلوب كل طالب في الفهم.

يؤكد سكوت أن: "الملل هو العدو الأول للتعليم". ويرى أن الفضول وحب الإستكشاف هما  أهم دوافع التعلم، وأهم ما يفتح مسارات التعلم في العقل. وأن تصميم الفصل التقليدي وطريقة التدريس التقليدية تسبب الملل ولذلك يتخلف ملايين الطلاب مللاً.

ظروف سكوت التي أجبرته على أن يتعلم في المنزل منحته حرية اختيار أسلوب التعلم الذي يناسبه من خلال البحث والتجربة والإستكشاف، حتى أنه أصبح خبيرًا في الحاسبات ببلوغه سن الإلتحاق بالجامعة. ما جعله ينظر إلى نظم التعليم باعتبارها لا تحتاج إلى إصلاح؛ وإنما إلى "تحول جذري".

يرى سكوت أن نظم التعليم تحتاج إلى أن تكون أقل نمطية وأكثر قابلية للتكيف وفق قدرات كل طالب وهو أمر حقق فيه الذكاء الصناعي تفوقًا مذهلاً، وعندما تصل المعلومات إلى الطالب بالطريقة التي تناسبه؛ سيتطور دور المدرس ليصبح أكبر من ملقن، سيصير "مُعلِّمًا" يساعد طلبته على تطبيق ما تعلموه.

سكوت بولاند

يصف سكوت تطورات الذكاء الصناعي في التعليم بأنها "توسونامي تعليمي سيهب كل طالب الفرصة للتعلم بغض النظر عن طريقة تفكيره واستيعابه". فالتعليم - وفقًا لسكوت- هو بث النور والإلهام، وليس تعبئة للعلم في أوعية. ولكل طالب الحق في أن  يجد من يشجعه ويعلمه بما يناسب قدراته الذهنية.

من تطبيقات التعليم المُشخصَن Personalized Learning المتميزة، الروبوت AMY المتخصصة في تدريس الرياضيات للطلبة ما بين عمر 9-11 عام. وما يميز "آمي" إلى جانب القدرة على تكييف التعليم وفق الدارس؛ أنها تطبق توصيات العديد من نظريات علم النفس وبصفة خاصة أبحاث دكتور "كارول دويك" وهي صاحبة نظريات معتبرة في كيفية حدوث عملية التعلم.

استطاعت آمي إذن أن تحقق ما لم ينجح فيه أغلب المدرسين من البشر. فبرغم إسهامات علم النفس في مجال التعليم بدراسات عديدة واجتهاد علمائه في تطوير التعليم؛ إلا أن الكثير من تلك الاجتهادات ظلت خارج حدود التطبيق، إما لتعارضها مع ما تقوم عليه العملية التعليمية بشكلها الحالي، أو لصعوبة تطبيق التوصيات من خلال المدرسين بطريقة موضوعية ومستدامة دون تأثر بقدراتهم وتفضيلاتهم الشخصية.

فعلى سبيل المثال من أكثر القضايا الخلافية بين مجالي التعليم وعلم النفس،  مسألة قيام النظم التعليمية الحالية على التنافس والمقارنة بين الطلاب بقياس مستويات التحصيل، بينما تشير دراسات وتوصيات علم النفس إلى أن القدرات الشخصية المتباينة تستوجب عدم قياس الطلبة بمقياس واحد أو المقارنة بينهم، كما أن النتائج العملية تشير إلى أن التعاون يحقق نتائج أفضل على مستوى المجموع في مجالي التعليم والعمل على حد سواء.

"آمي" هي أول مطبق لنظريات علم النفس على طلابها بطريقة موضوعية ومحايدة وثابتة، مما سيمكن من اختبار تلك النظريات بدقة، ويتيح تعديلها وتطويرها وإعادة تغذية "آمي" بتلك التعديلات لتتكرر الدورة مرة أخرى.

من خلال تجربة آمي والتجربة الشخصية لسكوت بولاند، يمكننا أن نرى الآثار التي سيحدثها الذكاء الصناعي في مستقبل التعليم، وعلى رأسها مشكلة الأمية التي يعاني منها العالم. وذلك إذا ما وضعت لتطبيقات الذكاء الصناعي الضوابط الأخلاقية اللازمة بالتعاون بين دول العالم لضمان العدالة في توفير الحق في التعلُّم. كما سيغير الذكاء الصناعي من طريقة التعليم لتتحول من التلقين والحفظ إلى تعلم كيفية التفكير الصحيح Design Thinking.

ستتراكم تلك التطورات لتنتج أجيالا من الدارسين قادرة على تقديم حلول حقيقية للمشكلات التي تعاني منها مجتمعاتهم وبيئات الأعمال فيها. كما أن تفوق الذكاء الصناعي المبهر في مجال "التعليم المُشخصن Personalized Learning " يفتح أفاقًا جديدة أمام ملايين الدارسين الذين يلاقون صعوبة في التعلم بالطرق التقليدية. فالتعليم المشخصن يتجه بالعملية التعليمية من النموذج القائم على التنافس إلى النموذج التعاوني الذي يراعي الاختلافات الشخصية وتباين القدرات الذهنية، ويهتم بأن يتعلم الجميع وليس بتفوق أقلية على حساب الأكثرية.