وقفة في جامعة كامبريدج للمطالبة بإعلان حقيقة قتلة ريجيني والسبب في مقتله - 13 فبراير 2017

ملاحظات عامة حول "حق ريجيني" الضائع

منشور الخميس 31 أغسطس 2017

 

نشرت المنصة ترجمة لتحقيق طويل نشرته صحيفة نيويورك تايمز، بعد ساعات من الإعلان عن عودة السفير الإيطالي للقاهرة، بعدما استبقته إيطاليا لديها، بسبب الغضب الشعبي على مقتل جوليو ريجيني.

التحقيق الأمريكي تبعه تقرير صحفي نشرته صحيفة لاستامبا الإيطالية، وكلاهما يؤكد على أن الأوامر بقتل ريجيني "جاءت من فوق" على حد تعبير التقرير الإيطالي.

وأقول أنا إن "أسطوات التعذيب" في مصر تربية شعراوي جمعة وزكريا محي الدين انتهوا؛ وحل محلهم "صبيانهم" الغشيمين تربية رجال السادات ومبارك ومن تبعهما!

اقرأ أيضًا: الحيل الغريبة في إخفاء قتلة جوليو ريجيني 

قتل ريجيني لم يجر مرة واحدة، بل يُقتل الفتى مرات في كل خطوة تضيع فيها الحقيقة، أو تتعمد السلطات التشويش عليها، كما حدث معي شخصيًا حينما دعوت بعض المثقفين المصريين والعرب للذهاب إلى روما ومساندة أسرة ريجيني في إيجاد "الحقيقة". وقتها رفضت القنصلية الإيطالية إصدار فيزا لكاتبة  مصرية -لست في حل من ذكر اسمها- رغم أنها تلقت دعوة مستعجلة من ناشر إيطالي تبنّى قضية ريجيني، موجهة إلى الشخص المقرر ذهابه إلى روما، وأرسل معها فاكس يطالب فيه القنصلية بالاستعجال.

 مُنِعَت الكاتبة من الحصول على تأشيرة دخول، وكتبت القنصلية " رفض فيزا "  بعد أن تلاعب موظف مصري في القنصلية في بيانات الاستمارة، بعد أن أقنع صديقتنا بأنه ينوي المساعدة. كما عطل الملحق الثقافي الإيطالي حركة طلب فيزا من كاتب آخر بنفس مواصفات الدعوة.

 

الروائي المصري رؤوف مسعد في المؤتمر الصحفي الذي عقد في روما لإعلان تضامن مثقفين مصريين مع التحقيق الجاد في مقتل ريجيني

انتهى الوفد إلى ثلاثة مشاركين: الكاتب العراقي جبار ياسين المقيم من زمن طويل في باريس -وهو الذي اتصل بالناشر الإيطالي- ثم مسعد أبو فجر  المقيم في أوروبا، وأنا المقيم في هولندا. ووصل ثلاثتنا إلى روما في 17 مايو/ أيار الماضي.

ذهبنا إلى المؤتمر الصحفي الذي عُقِد في قاعة الصحافة العالميةالمخصصة للمراسلين الأجانب في روما، وقد قدموها مجانا لنا، بينما تحملنا نحن مصروفات سفرنا وغطى متبرعون من المثقفين جزءًا من نفقات إقامتنا وتكفل ثلاثتنا بالباقي. حضر المؤتمر في جانب الصحفيين المتابعين ثلاثة مصريين، رجلان وشابة، وكان معهم رابع صامت يحمل كاميرا سينمائية كبيرة وقام بالتصوير من الدقيقة الأولى حتى الأخيرة، أي حوالي خمس وأربعون دقيقة.

حاول المصريان اللذان زعما أنهما صحفيان أن يوترا الجو في القاعة حينما بدءا بالصياح بالعربية متهمين ثلاثتنا بأننا  لا نمثل المثقفين المصريين، وأن قناة الجزيرة تدفع لنا لكي "نسيء إلى سمعة مصر". وحينما حاولت أنا أن أجعله يتحدث بالإنجليزية؛ تكلّم بالإيطالية مكررًا نفس الاتهامات.

كان الهدف بالنسبة للمصريين "الصحفيين" واضحا: إفساد المؤتمر وإنهاءه. لكن قيادة المنصة تمكنت من إفشال خطتهم، فنحن قلنا ونقول دومًا: لا نمثل سوى أنفسنا!

 هدفي من حكي ما حدث في روما مؤخرًا، هو توضيح أن إدارة الأزمة في مصر  فيما يخص قضية ريجيني لم تتغير، المنهج ثابت: اتهام كل الآخرين بما فيهم ريجيني نفسه بتهم تعلم السلطات نفسها أنها كاذبة.

أما موقفي المتشكك فيما نشرته الصحيفة الايطالية "لا استامبا " حول التوجيه القادم "من فوق"، يأتي من خبرتي الحياتية في سجون ناصر.

إن تجربة تعذيب الشيوعيين المصريين  وجعلهم يكسرون الأحجار في جبل  طره لمدة سبعة شهور، لهي تجربة نادرة في السجون السياسية المصرية.

 كان تحليل الشيوعيين وهُم تحت التعذيب أن "ناصر " لم يدر بتعذيبهم مرة، أو أنه قال "أدبوهم " لكنه لم يتدخل في التفاصيل، حتى جاء مقتل شهدي وتسرب الخبر الفضيحة عبر وكالات الأنباء في مصر لأوروبا الشرقية، وتمت مواجهة ناصر بالجريمة في البرلمان اليوجسلافي حينما تمت دعوته رسميا لإلقاء خطاب بحضور تيتو. ثم ما قيل عن "مفاجأة " ناصر بخبر مقتل شهدي، والتحقيقات التي تمت بعد ذلك  - بناء على أوامره من يوجوسلافيا- مع ضباط السجن والمباحث.

تحضرني هنا واقعة "تكذيب" ناصر في حوار مع صحفي فرنسي يساري هو "إيريك رولو" يعمل لحساب "لو موند"، حينما نفى ناصر بقطعية وجود "معتقلين شيوعيين"،  لأن السؤال جاء على الطبطاب لناصر، فقد حول جميع المعتقلين إلى مسجونين بعد أحكام المحكمة العسكرية (التي كانت قضيتي فيها هي الأخيرة عام 1961)، بالفعل لم يعد هناك معتقلين إلا قليل.

لكن هل جَهَلَ ناصر فعلاً بتعذيب الشيوعيين يوميا، أو على الأقل بأنهم يكسرون البازلت في الجبل؟

بالطبع لا!

فناصر الممسوس بالسيطرة لا يمكن أن "لا يعرف" ماذا يتم يوميًا لأكثر من خمسمائة شيوعي مصري في سجن ليمان طره!

هذا يقودنا إلى السيسي!

 اعتقد أن ما يقوله الأمريكيون عن علم السيسي بما حدث والتلميح - دون تصريح- لأن الأمر بقتل جوليو صدر من مكتبه به بعض المغالاة. فمن متابعة تجربة حكمه حتى الآن؛ وهي تجربة كاشفة عن شخصية السيسي ورأيه في نفسه أولا باعتباره مصدر للحكمة السياسية والإنسانية الفائقة، وأنه مبعوث العناية الالهية لإتقاذ مصر ، وبالتالي رأيه في دوره التاريخي "المقدس" باعتبار أن هذا الدور جاء له شخصيًا؛ كل هذا يجعلني أشك في أن يكون"هو" من أصدر الأمر.

حكم السيسي يُذكِّرني بشخصيات خريف البطريرك لماركيز، أراه "عايش في عالمه الخاص".  وأشك كثيرا أنه يعرف أسماء النشطاء السياسيين في السجون عدا علاء عبد الفتاح وكم شخص في مستواه. معرفته بتواجد علاء بالطبع نتيجة لسببين الأول أن علاء أقنع أهالي ضحايا مجزرة ماسبيرو بإدخال أولادهم المشرحة حتى يثبتوا الحالة وهي دهس دبابة الجيش لهم! وهذا  لا يجوز في رأي الرئيس العسكري الذي كان مديرًا للمخابرات الحربية وقتها، وكان يحرص على الدفاع عن أي تصرف يصدر عن الجيش، فهو من صرح لوكالات الأنباء العالمية مبررًا "كشوف العذرية". أما السبب الثاني الذي يجعل اسم علاء حاضرًا في ذهنه هو أن علاء "أهانه" بشكل شخصي، أو هكذا يعتقد هو.

 وبالعودة لريجيني يمكننا أن نربط ما أثاره التحقيق الأمريكي بالإعلان الأخير عن حجب جزء من المعونة الأمريكية عن مصر لتراجع ملفها في حقوق الإنسان. لذا أقول إن الإشارة إلى "فوق" في مسألة قتل ريجيني هي مجرد إشارات مقصودة لبث الرعب في قلوب القيادة السياسية والأمنية في مصر، كي يشعروا أن "مؤخراتهم مكشوفة" وأن الأمريكان يعرفون ما يدور في الغرف المغلقة لأكبر قيادات سياسية وأمنية في مصر. وقد يمهد هذا لإخضاع مصر بخصوص اللقاء المرتقب بين نتانياهو وعباس، خاصة وأن نقطة القوة والتأثير تنتقل بالتدريج ولكن بسرعة من القاهرة للرياض، بينما تأخذ السعودية القادمة عبر شبابها النصيب الأكبر من القوة مع إيران الشيعية،  وتتحول مصر إلى دويلة على قدر إمكانياتها الإقتصادية بعد ضرب السياحة  ..الخ

                                           

متعلقات جوليو التي جرى دسها في شقة تابعة لواحد من الضحايا الخمسة الذين اتهمتهم الشرطة بقتل جوليو

ما هو الاستدلال المنطقي من "وضع جثة رجيني في مكان مكشوف؟"

هو فضح الدولة المصرية، وهو فعل قد يأتي من جماعتين داخل الجهازين السياسي والأمني المصري: جماعة مبارك والعادلي في الدولة العميقة الذين أصدروا الأمر "من فوق" أو ساهموا وساعدوا على إصداره.

ربما نفذت هذه الجماعة التعذيب والقتل في حق جوليو لإفساد العلاقة بين البلدين. 

وقائع عديدة تدفعني للاعتقاد في ذلك، هذه المجموعات المرتبطة بدولة مبارك العميقة كانت دائمًا تجد فرصتها حيث تسود العقلية الأمنية وتتراجع السياسة، وهذا هو الظرف القائم. هذه المجموعات - وربما تكون فعلا مجموعات صغيرة لا ترقى لمستوى التنظيمات- وجدت نفسها "مهيئة لمهام كبيرة" في دولة تعتمد بالأساس على الرادع الأمني، فاعتبرت نفسها بالتالي مخولة المشاركة في حكم مصر.

نحن نعلم بواقعتين على الأقل تدخل فيهما الرئيس بنفسه لتحويل مسار التحقيقات وتحويل الاتهام إلى الجناة الأصليين، وهما واقعة شيماء الصباغ ، ثم واقعة تعرية سيدة الكرم القبطية في صعيد مصر. صحيح أن القضية الأخيرة لم تنتهي إلى شيء، ولكن نحن نعلم أنه وجه بمحاكمة من قاموا بتعريتها. أرى أن هذا أغضب بالتأكيد أجهزة أمنية، ترى أن لها الحق في المشاركة في الحكم وترى أنها كان يجب أن تكون مسؤولة عن التحقيق واتهام آخرين أبرياء غير من ثبت ضلوعهم في الواقعتين فعلا بعد تدخل السيسي. هذا التدخل الذي لم يتكرر في واقعة ريجيني!

 أذكر هنا حادث قتل شهير وقع في قسم المطرية لمحام في بداية عهد السيسي. كتبت عن الواقعة التي أدت إلى موت المحامي في مجلة القاهرة التي رأس تحريرها سيد محمود وقتها بعنوان "وقائع  موت معلن" مستندا إلى عنوان ماركيز.

المحامي المعتقل حينما ألقوا القبض عليه اعترف وقال إنه إخواني وتمت إحالته للنيابة في نفس اليوم واعترف مجددا، ثم أحالته النيابة في ذات الليلة للقسم حيث جاء ضابطان من الأمن الوطني وطلبا المحامي ومكثا معه ساعة واحدة في غرفة المأمور،  ومات المحامي في اليوم التالي متأثرا بالتعذيب الذي فصَّله تقرير الطبيب الشرعي بسحق الخصيتين وتكسير الضلوع وإطفاء السجائر في الخصيتين وكهرباء في الصدر وأماكن أخرى.

هنا تبرأ القسم مما حدث للمحامي وألصقوا التهمة بضابطي الأمن الوطني. وحينما سألهما وكيل النيابة عن استقدامها للمتهم إلى غرفة المأمور؛ قالا للتحقيق معه، ولما قال لهما أنه اعترف مرتين، قالا "كنا نريد معلومات إضافية" وأنه أعطاهما معلومات هامة للقبض على المخربين ضد مصر.

 يعني هذا أن الأجهزة الأمنية ترى أن حماية مصر تبرر القتل والتعذيب.

لكن أخطر ما في وقائع تعذيب وقتل ريجيني، ثم إفشاء معلومات عبر أجهزة أمريكية تجسسية في هذا التوقيت؛ هو إعطاء الإحساس الكامل بعدم الأمان في عهد السيسي، خاصة للمواطنين وللأجانب.

فإن كان المواطنون المصريون يعتبرون أن ما يحدث لهم من اختفاء قسري واعتقال في المقاهي والشوارع  والمظاهرات "غير طبيعي" ولم يعتادوه من قبل؛ فالخطر الذي يشعر به الأجانب هو خطر هستيري مضاعف، ولهم أسبابهم بالطبع، حيث  تتشابك المصالح الاقتصادية والأمنية الدولية كفخ يسقط فيه مواطنون لا ذنب لهم سوى أنهم جاؤا مصر في الزمن الغلط، وبالتالي لن تحميهم سفاراتهم! ونذكِّر هنا بما أشار إليه التحقيق الأمريكي حول تدخل رئيس مجلس إدارة شركة إيني الإيطالية للبترول في التعتيم على المسؤولين عن قتل ريجيني، حفاظًا على مصالح الشركة الاقتصادية مع الحكومة المصرية. 

وما قلته عن القنصلية الايطالية والملحق الثقافي الايطالي عن تعطيل ورفض الفيزات، هو دليل على تواطؤ دولة الضحية مع دولة الجناة!

                                      

عائلة جوليو وصديقته خلال جنازته في إيطاليا

إن عدم تقديم الجناة الأصليين إلى التحقيق في "مأساة" ريجيني؛ يخل برمانة ميزان العدل والأمن في مصر خللاً معيبًا، يجعل المواطن البريء الماشي في حاله عرضة لبارانويا قوية، كما أشار التحقيق الصحفي الأمريكي في مسألة "غلق" الموبايلات أو الإقلال من استخدامها في السفارة الإيطالية في عهد السفير السابق عقب قتل الباحث الشاب، تشككًا في تجسس أجهزة الأمن المصرية على مراسلات السفارة. أما بالنسبة لعودة السفير الايطالي الان لرعاية "المصالح" الاقتصادية أساسا، وبتدخل شركات كبرى مثل "إيني"، فقد يكون نتيجة وعد أمني سياسي من القيادة المصرية بقرب حلحلة الأزمة، لأن بعض الدوائر الايطالية تلمح إلى دعوة السيدة والدة جوليو ريجيني إلى مصر قريبا.

من المؤكد لدي أن الدولة المصرية ستتعامل بطريقتها المعهودة في الاختفاء تحت الترابيزة، ظنًا أن المطالبين بالحق سيصيبهم اليأس ويتخلون عن مطالبتهم هذه لوجود أهداف "قومية" أكبر من البحث عن حقيقة تعذيب وقتل طالب أكاديمي. أما دولة الضحية فلا مشكلة لديها في التعاون في إخفاء الجناة والإسهام في ضياع حق الضحايا من مواطنيها، ما دامت الأموال تسري في قنواتها المعتادة تحت الجسور. وهذا أخطر ما يكشفه "موضوع" جوليو ريجيني. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.