جوزيف إسرائيليز 1880
لوحة "منظر داخلي لبيت فلاح" interior of a peasant hut - زيت على توال

هل يمكن أن نعيش بعيدًا عن الناس؟

منشور الأربعاء 13 سبتمبر 2017

 

احتياج الونس والقرب والعلاقات الحقيقة احتياج أصيل فى النفس الإنسانية، يجعل الحياة والحركة والبهجة تملأ أوقاتنا إن كنا طرفًا في علاقات مشبعة. وكغيره من الاحتياجات الإنسانية الأساسية؛ حينما لا تُلبّى، يدفعنا جوعنا إليها نحو سلوكيات قد تصل فى بعض الأحيان إلي درجة الاضطراب لتلبية هذا الأحتياج بأى ثمن.

فحسب دراسة لجون كاتشيوبو الباحث بجامعة  شيكاجو الأمريكية، فإن 20% من البشر يعانون من شعور بالتعاسة نتيجة لـ"عزلتهم الاجتماعية، وبين هؤلاء المنعزلين توجد نسبة أقل يعانون الشعور بالوحدة المستمرة أو المزمنة". 

في عيادات الصحة النفسية، تكون الوحدة والعزلة واحدة من قوائم المشكلات المتكررة لدى المترددين على العيادة، وأحيانا تكون هي الأزمة الرئيسية التي يشكو منها المريض.

من تلك الحالات، كانت حالة لرجل أعزب لا أصدقاء له. زملاؤه في العمل يتجنبوه كما يقول، يخشى الزواج نتيجة ما كان يراه من خلافات بين والديه الراحلين، ومع ازدياد معاناته من الوحدة لجأ لركوب المواصلات العامة يوميًا لتبادل أحاديث قصيرة وعابرة مع الغرباء.

صادفت حالة أخرى لأرملة لا تعمل وليس لها أصدقاء، وتفصلها خلالفات حادة عن أفراد عائلتها لرغبتها في الحياة بمفردها بعد وفاة زوجها. مرت هذه السيدة بأيام طويلة حبيسة المنزل، لا تخرج ولا تتحدث مع أحد. بعدها بدأت في شراء العرائس وصارت تكون منهم عائلات وتختلق لهم تاريخًا وحكايات وتتحدث إليهم عن كل شيء. 

في كلتا الحالتين لجأ الفرد إلى سلوكيات خارجة عن المألوف كملاذ لإشباع الحاجة الشديدة إلى الصحبة والونس، لكن هذه التصرفات كشفت عن اضطراب كبير يشوه الصحة النفسية والعقلية للحالتين.

 

اقرأ أيضًا: في ظلال العزلة 

 

أشار مارشال روزنبرج صاحب نظرية التواصل التراحمي (نظرية التواصل اللا عنيف) إلي أن الاحتياجات هي حجز الزاوية في العلاقات، وفي القلب منها احتياج الونس والقرب والصحبة. ويمكن ملاحظة الافتقار إلى إشباعه عندما يظهر بشكل غير صحي فى ثرثرتنا الزائدة في الهاتف أو في الدخول في علاقات سطحية كثيرة أو حتى الغرق في إدمانات خفية كإدمان فيسبوك وتويتر وغيرها. إذا كانت الوحدة غاية في الشدة؛ قد يتطور الأمر إلى ظهور هلاوس سمعية أوحتى بصرية كما فى بعض الاضطرابات النفسية والعقلية.

الأثر الجسدي للوحدة

في دراسة صادرة عن جامعة شيكاجو أيضًا، يعود تاريخ نشرها للسابع عشر من فبراير/شباط 2009 تحت عنوان " كيف تؤثر العزلة الاجتماعية على سلوك الأفراد"؛ وجدت الدراسة أن الوحدة تُحدِث تأثيرات عدة في الدماغ والأجهزة الحيوية. فعلى مستوى إفراز الهرمونات: يؤدي الشعور بالوحدة والعزلة الشديدة إلى خمول مناطق بالمخ.

وفي مقال بعنوان مخاطر الوحدة نشرته دورية "سيكولوجي توداي" المتخصصة، فإن الشعور الحاد بالوحدة والعزلة يؤدي إلى رفع مستويات هرمونات القلق والتوتر، ما يؤدي إلي الشعور بالإجهاد. وعلى المدى الطويل تتأثر الأوعية الدموية وتظهر اضطرابات ضغط الدم ويتأثر القلب بالإضافة للآثار الفسيولوجية التي تنتج عن ما يحدث من اضطرابات في النوم.

وبالعودة إلى دراسة جون كاتشيوبو الباحث بجامعة  شيكاجو، فإن الوحدة تساعد على تفاقم الأمراض المزمنة. ففي دراسة أجريت على فئران تجارب تم تعريضها للعزلة التامة، لوحظ زيادة كبيرة في نمو الخلايا السرطانية، حتى أن باحثي جامعة بريجهام يونج وضعوا الشعور بالوحدة إلى جانب التدخين وإدمان الكحول والبدانة كأهم الأخطار على الصحة.

                                         

مارفن وآرثر وحيدان على كوكب خال - من فيلم دليل المسافر المتطفل إلى المجرة The Hitchhiker's Guide to the Galaxy

 

كيف نكسر الوحدة؟

ينبهنا التحليل النفسي من خلال قاعدة الحتمية النفسية، أن كل سلوك نقوم بيه لابد أن يكمن خلفه دافع ومعنى، في بعض الأحيان يكون الدافع بسيط وواضح كأن نأكل حينما نشعر بالجوع. إلا أنه في كثير من الأحيان يكون هذا الدافع خفي ولا معنى واضح له، ما يجعلنا في حاجة إلي مساعدة متخصصة إن تولدت لدينا سلوكيات وتصرفات نعجز عن التوقف عنها أوالسيطرة عليها أو حتى فهمها.

وتتمثل محاولات العلاج في فهم ما يحدث، وما الاحتياجات التي دفعت الفرد للقيام بهذه السلوكات "الأعراض" حتى نعمل على تلبية تلك الاحتياجات بشكل صحي وواعي ومسؤول، بدلا من التلبية المُشوِّهَة للذات التي تحدث جراء بعض السلوكيات المضطربة.

ولتلبيه احتياج الونس والقرب بشكل طبيعي علينا أن ندرك أهمية الوعي بهذا الاحتياج لدينا، وأن تجنب إشباعه سيزيد من الجوع له، وقد يكون سببًا في الاندفاع في علاقات غير صحية تعرضنا للإيذاء. والبديل هو الدخول في علاقات صحية بشكل مسؤول، فالعلاقات لا تُترك للصدف، وإنما تأتي باختيارنا لمن يتوافقون معنا.

ولتجنب الاندفاع؛ علينا السماح بمساحة محسوبة من القرب نحدد بعدها ما إذا كانت هذه العلاقة ناضجة وتستحق أن نكمل بها أم لا. وتلبية الاحتياج للونس لا يأتي من الانخراط في العلاقات التي تبدأ وتستمر في الواقع الافتراضي، فهي علاقات تسهم في تشويه الذات، عندما نصطدم بالواقع بعد إقامة علاقة تعتمد على الخيال وأحلام اليقظة التي نسقطها على الطرف الثاني في تلك العلاقة الافتراضية. 

أيضًا من الوسائل الناجحة في تجنب الوحدة، صُنع دوائر علاقات سواء داخل العمل أو الدراسة أو أماكن ممارسة الهوايات، والعمل على تنمية المهارات الاجتماعية.

كذلك من المفيد التعامل مع الأفكار التي تعطلنا عن اتخاذ خطوات مثل الاندماج فى البيئات الاجتماعية المحيطة بنا، أو حتى اتخاذ قرارت هامة مثل الزواج.